- الافتتاحية: الزلزال السوري.
- زلزال في الطبيعة بعد زلزال اجتماعي سوري طويل – محمد سيد رصاص.
- الزلزال السوري مقدمة لكوارث لاحقة – شورش درويش.
- الله معك، يا حكيم – هنادي زرقه.
- الزلزال يجهز على آثار تاريخية صمدت خلال الحرب – سامر محمد اسماعيل.
- من الأخطاء التحليلية المزمنة: سوء تقدير التيارات السياسية الغربية – محمد صالح الفتيح.
- الديمقراطية كأداة لحكم الجماهير – مازن كم ألماز.
- مسار مستقبلي لتطور قوى الانتاج وأخطاره.
- ماهية مهام العمل الوطني الحديث.
- الضغط من أجل السلام: كيف نتجنب حرب عالمية أخرى؟ – هنري كسنجر.
- من زوايا الذاكرة (٢٢) – الدكتور جون نسطه.
الافتتاحية:
الزلزال السوري
وصف الأمين العام المساعد للأمم المتحدة للشؤون الانسانية مارتن غريفيث زلزال 6 شباط 2023 الذي حدث في تركيا وسوريا بأنه “أسوأ ماشهدته المنطقة خلال قرن من حيث الأضرار”.
أصاب الزلزال عشر محافظات تركية، وأربع محافظات سورية هي إدلب وحلب واللاذقية وحماة، وكان من قتلى الزلزال آلاف السوريين المقيمون في تركيا.
في سوريا، وبفعل الأزمة السورية وما رافقها من صراع داخلي ونزوح داخلي بلغ 6،8 مليون ولاجئون خارج الحدود يقاربون عدد النازحين،كان الزلزال مؤدياً إلى “أزمة داخل أزمة”وفق تعبير أحد مسؤولي الأمم المتحدة،وخاصة أن المنطقة السورية الأكثر تضرراً من الزلزال،وهي منطقة شمال غرب سوريا في محافظة إدلب وفي الريف الشمالي والغربي من محافظة حلب،تضم ثلاثة ملايين من النازحين السوريين من محافظات سورية أخرى أومن مناطق في محافظة إدلب بعد قتال الشهرين الأولين من عام 2020، وفي تلك المنطقة كان هناك أربعة مليون من أصل أربع ملايين ونصف يعيشون على المعونات الانسانية.
حتى يوم 12 شباط وصل عدد القتلى السوريين في المحافظات الأربع إلى أربعة آلاف وخمسمائة، والذين أصبحوا بلا مأوى بسبب الزلزال يبلغون خمسة مليون ،وفي بلدات مثل جنديرس وحارم وسرمدا والأتارب كان الدمار لأغلب المباني والدور السكنية، وهناك دمار كبير في أحياء من مدن حلب واللاذقية وجبلة وسلقين وأريحا وفي حي واحد بمدينة حماة.
كان الدمار أعلاه في المباني والدور بمناطق العشوائيات والمخالفات وحيث يوجد نازحين، وأيضاً في مدن عديدة كان الدمار والتصدع والتشقق وانهيار المباني في أحياء حديثة وفي “أبنية وأحياء فخمة”كشف الزلزال بها مقدار مخالفات المواصفات الهندسية في البناء ودراسة التربة، مما جعل أغلب المباني هناك تنهار مثل علب الكبريت أو قطع البسكويت المصفوف بعد هرسها، أو أن تتشقق أو تصبح في وضع الميلان، وهو ما يبين مقدار الفساد في البلديات وعند المتعهدين ومهندسي الاشراف،ومقدار التسيب والفساد في الإدارة الحكومية بالسلطة السورية.
لم يكن تعامل ما يسمى بـ”المجتمع الدولي” على مسطرة واحدة بين تركيا وسوريا، بل كان الاهتمام منصباً على مساعدة تركية مع تجاهل للمناطق السورية المتضررة، تارة تحت حجة أن هناك مناطق تحت سيطرة السلطة السورية تخضع للعقوبات الدولية، وتارة بالتحجج بأنه لا يوجد سوى معبر واحد هو باب الهوى سمح مجلس الأمن الدولي بعبور المساعدات عبره لمنطقة شمال غرب سوريا التي لا تخضع لسيطرة السلطة السورية، هذا المعبر الذي لم تدخل المساعدات الدولية منه سوى باليوم السادس من الزلزال ولم تسمح تركيا بالدخول عبره سوى لجثامين السوريين القتلى بفعل الزلزال الذين قضوا في الأراضي التركية. وقد ظهرت سوريا متروكة لآلامها، في منظر يظهر نفاق الدول في مشارق الأرض ومغاربها وفي شمالها وجنوبها بما فيها الدول العربية ، ويظهر أن هناك غابة اسمها العلاقات الدولية حيث هناك كذبة كبرى اسمها “القضايا الانسانية”، حيث يبدو الاختلاط الكبير بين ما هو انساني وبين ما هو سياسي.
من جانب السوريين،ظهر المجتمع السوري بأفراده وبنيته الاجتماعية،وخاصة الفقراء ومن بقي من الفئات الوسطى،بأنه مازال يحتفظ بتقليد التكافل الاجتماعي، وكانت هناك مبادرات من أفراد كثيرين في الإغاثة ورفع الأنقاض وانقاذ العالقين تحت الأنقاض وفي الايواء والإطعام ومختلف أشكال المساعدات سيفتخر بها السوريون في مقبل الأيام.
من جانب الطيف السياسي السوري عند السلطة وأطراف المعارضة السورية السياسية والمسلحة والتي هي داخل الحدود أو خارجها، لم يكن هناك ارتفاع إلى مستوى محنة 6 شباط 2023 السورية، من حيث ضرورة تناسي آلام الماضي وجراحاته وأحقاده حتى ولومؤقتاً، على الأقل لتشكيل ضغط سوري جماعي على “المجتمع الدولي” من أجل مساعدة سوريا التي جرحت في 6 شباط 2023 جرحاً جديداً أتى الآن من الطبيعة بعد أن كانت مجروحة بفعل تقاتل أبنائها وصراعاتهم ومن ثم استغلال الخارج لهذا التقاتل السوري-السوري لمصالحه عبر صب الزيت على النار السورية التي اشتعلت داخلياً في عام 2011 بفعل عوامل داخلية متراكمة. وقد رأينا في مجتمعات عديدة، آخرها لبنان الذي كان به دم كثير بالآلاف بين عامي 1975 و 1990 ومن ثم أزمات وصراعات واحتقانات داخلية، كيف وقف اللبنانيون صفاً واحداً عقب كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020.
وإن كان هنا يجب التسجيل الإيجابي لمبادرتي السلطة السورية و “الإدارة الذاتية في شمال وشمال شرق سوريا” في إرسال مساعدات إلى منطقة شمال غرب سوريا، والتسجيل السلبي لقوى الأمر الواقع هناك التي لم ترتفع إلى مستوى لحظة المحنة السورية عندما رفضت السماح لتلك القوافل من المساعدات بالدخول إلى هناك، وبعضها مساعدات من الأمم المتحدة أتت من منطقة سيطرة السلطة السورية، ويبدو أن هؤلاء هناك لم ينسوا أو يضعوا جراحات الماضي جانباً حتى ولو مؤقتاً، وبعضهم ربما فكر بالسياسة وليس بالظرف الإنساني لمنطقة كانت يتيمة الكرة الأرضية كلها في لحظة ما بعد 6 شباط 2023، ولم يفكروا بما فعله معهم بعد الزلزال معلمهم وراعيهم أردوغان عندما كان اهتمامه كله في الأراضي التركية.
في كل الأحوال، كان زلزال 6 شباط 2023 كاشفاً لمقدار وضع الأزمة السورية في البراد أو الفريزر الدولي، ومقدار كم أن سوريا هي خارج الاهتمام الدولي في ظرف عام مضى من اشتعال النار الأوكرانية، وكاشفاً لوضع سوريا والسوريين بعد اثني عشر عاماً من اشتعال حريق الأزمة السورية، وعن مدى تغير سوريا والسوريين في عام 2023 عن عام 2011، وأيضاً عن تعدد المعايير وليس فقط ازدواجيتها في العلاقات الدولية.
زلزال في الطبيعة بعد زلزال اجتماعي سوري طويل
محمد سيد رصاص
جريدة “الأخبار” 9 شباط 2023
تكشف الزلازل ما تحت التربة وما فوقها، وكذلك نوعية تلك التربة، وهذا ينطبق على الزلازل الطبيعية وتلك الاجتماعية. أمّا عندما يحصل زلزال طبيعي في مجتمع يعيش حالة انفجار وأزمة منذ دزينة من السنين، فإن هذا الزلزال في الطبيعة يكون كاشفاً لمكنونات هذا المجتمع وكذلك لعلاقات الخارج معه.
لا يمكن لهذا النص أن يكون تحليلياً، بل هو أقرب إلى نص تسجيلي لوقائع أو مقاربة لها. لا يدّعي هذا النص أكثر من أنه مقاربة تصيب وتخطئ.
أوّل ما يمكن رصده، من خلال صفحات “فايسبوك”، هو تفاوت ردود فعل السوريين تجاه ما حدث، بين من هم في مناطق سيطرة السلطة السورية، ومن هم خارج سيطرتها، فليست مشاعر من هنا ومن هناك موحدة. كما أن من هم في الداخل ليست مشاعرهم متطابقة مع من هم خارج الحدود في دول اللجوء، وهو ما يعطي انطباعاً بأن جروح ما حصل منذ عام 2011 ما زالت تفعل فعلها في تشكيل الموقف حتى تجاه وضع سوريين تضرّروا وماتوا وجرحوا بفعل الطبيعة.
طبعاً لا يمكن التعميم، ولكن يمكن رصد ما يؤيد هذا القول من خلال صفحات “الفايسبوك”، التي إمّا تحوي في الغالب مشاعر متناقضة أو أنها لا تهتم سوى بما جرى لأهلها أو لمناطق تسكن بها، مع أنه يمكن رصد حالات سورية عديدة يعتصرها الألم على كل سوري فقد أو جرح أو تضرّر بغضّ النظر عن موقعه الجغرافي أو موقعه السياسي، ولكن هذه الحالات ليست هي الأكثرية. في مجتمعات منقسمة وعانت من حمامات دم، مثل لبنان، لم نجد هذا الانقسام في المشاعر تجاه انفجار مرفأ بيروت، بل كان هناك توحّد وطني، على الأقل في الأسابيع الأولى للكارثة.
الأمر الثاني، يلاحظ عدم توحّد سوري، بل توزع، حسب موقع الموالاة والمعارضة، تجاه موضوع رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وإن كان هناك معارضون عارضوا بالأصل العقوبات الدولية منذ فرضها في نهاية عام 2011، بما فيها “قانون قيصر”، ولكن عندما نتفحّص صفحات “الفايسبوك” نرى أن الانقسام تجاه رفع تلك العقوبات بمناسبة الزلزال الأخير ما زال يفعل فعله، ولم يغيّر ما جرى في يوم 6 شباط كثيراً في توزع تلك الخريطة للآراء.
الأمر الثالث، هو التضامن الاجتماعي القوي الذي وجد في المناطق التي أصابها الزلزال، ولكن يلاحظ أن هذا التضامن يشمل الفقراء ومتوسطي الدخل، ولا يلاحظ عند الأغنياء، وخاصة الأغنياء الجدد، تجاه من تضرر أو أصيب، وهناك مبادرات اجتماعية، في الإيواء والإطعام ورفع الأنقاض، يجب أن ينحني الجميع تحية لها.
أول ما لفت النظر كان اتجاه وسائل إعلام، أجنبية وعربية، على الأقل في اليوم الأول، لتقديم رقمين منفصلين عن القتلى والجرحى السوريين.
في ما يتعلق بتعامل الخارج مع الزلزال السوري، فإن أول ما لفت النظر كان اتجاه وسائل إعلام، أجنبية وعربية، على الأقل في اليوم الأول، لتقديم رقمين منفصلين عن القتلى والجرحى السوريين، واحد عن مناطق الزلزال الخاضعة لسيطرة السلطة السورية وآخر عن المناطق التي هي خارج سيطرتها، وهذا بالتأكيد ليس بريئاً أو أتى بالمصادفة، بل له أغراض، وإن كان يلاحظ في اليوم الثاني اتجاه تلك الوسائل الإعلامية إلى تقديم رقم سوري واحد.
الأمر الثاني، أن اهتمام الخارج الدولي، وحتى بعض العرب، كان منصبّاً على ما حدث من زلزال في تركيا وليس على الزلزال السوري، وحتى ولو سلّمنا بأن أضرار الزلزال التركية هي أكبر من سوريا فإن هذا لا يمكن تفسيره بالوقائع الزلزالية، بل بالمصالح السياسية وبالجغرافية السياسية.
الأمر الثالث، أن حدثاً من فعل الطبيعة كهذا لم يرقّق المشاعر الإنسانية تجاه ضحايا ومشرّدين، ولم يغيّر أو يزحزح المواقف السياسية التي كانت قبله، يثبت بأن العلاقات الدولية، أو ما يسمّى بـ”المجتمع الدولي”، تحكمه قوانين الغاب مثل أي غابة، بل ربما أشد وحشية، وأنه لا يوجد حقوق أو عواطف في تلك الغابة إن لم تسندها القوة أو المصالح.
الأمر الرابع، أن اصطفافات القوى الدولية والإقليمية تجاه الأزمة السورية، عندما لا يزحزحها حدث كزلزال 6 شباط السوري، فإن هذا يعني بأن الصراع على سوريا ما زال شديداً وقوياً بين معسكر روسي – إيراني يحاول استمالة إردوغان، وبين واشنطن التي وراءها دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وإن كانت تتردّد بين هذين الطرفين تجاه الأزمة السورية دول مثل السعودية ومصر والإمارات والأردن.
كتكثيف: ما حدث في 6 شباط 2023 كان مساعداً على تمظهر جوانب من الأزمة السورية البادئة ما بعد يوم 18 آذار 2011. يجب دراسة ذلك من دون عواطف أو انحيازات سياسية، ومن دون تزويقات أو محاولات تغطية، لأن مواجهة الوقائع هي الطريق الأفضل من أجل تجاوز الواقع القائم.
الزلزال السوري مقدمة لكوارث لاحقة
شورش درويش
“وكالة نورث برس” 13 شباط 2023
يدفع القصور المرافق عادة للكوارث الطبيعية الحكومات والدول إلى إعادة حساباتها حيال أنظمة الطوارئ والإغاثة، وصولاً إلى إعادة النظر في منظومة العمران. غير أن الأمل في مراجعات مماثلة يتلاشى في بلد مقسّم ومنقسم يعاني حرباً أهلية مزمنة مثل سوريا.
تخضع حياة السوريين حتى في الظروف الاستثنائية، كما في حالة الزلزال الأخير، لمزاج أنظمة السيطرة بحكم الأمر الواقع ومشغّليها، تبعاً للسياسات الأمنية، ويعني هذا بعبارة أدق ألّا مكان للبعد الإنساني حتى وإن حالت البلاد إلى ركام والبشر إلى أشلاء.
ولعل أشد صور الفساد قتامة، وأكثرها انحطاطاً، ذلك الفساد الذي يواكب حلول الكوارث الطبيعية، وهو ذات الفساد الذي يحُول دون وصول المساعدات إلى مستحقيها.
بالنظر إلى طبيعة القوى المسيطرة في المناطق المنكوبة غربي سوريا، يمكننا إدراك الإفادات التي تتحدّث عن حصول سرقات، وممارسة آليات ممنهجة تستقطع عبرها الجهات حاملة السلاح المساعدات لصالح عناصرها. هذا الوضع يحيلنا في الواقع إلى وجود جريمة قد ترقى في حدّتها جرائم الحرب.
قريباً من ذلك كان إرسال الإدارة الذاتية مشتقات نفطية ومواد إغاثية إلى المدن المنكوبة في مناطق سيطرة المعارضة، وكذا مناطق سيطرة النظام، تعبيراً فعلياً عن التضامن الوطني، ولا يهم هنا البحث في ما وراء القرار. ما يهم فقط هو أنه كيف يمكن البناء على خطوة كهذه مستقبلاً.
لكن المثير في هذا الإطار هو رفض المساعدات من قبل سلطات المناطق المنكوبة على حساب مصلحة السكان المفجوعين، بالتالي التقليل من فرص منح السوريين التقاط بصيص أمل بالتزامن مع موت كان يمكن تحويله إلى نوع من الحياة.
كان من المتوقّع أن تخضع مساعدات شمال شرقي سوريا إلى المناطق المتضرّر لدورة الفساد والسرقة، إلّا أن تغليب رفض إدخالها في لحظة الذروة وتفاقم الحاجة إليها إنما نبع من حسابات سياسية يأتي في مقدّمتها الإمعان في عزل الإدارة الذاتية عن بقية المناطق السورية، وتحجيم موقفها الأخلاقي من منكوبي الزلزال.
فيما المفارقة تكمن في أن الأطراف السورية التي رفضت المساعدات، تسعى إليها في أوقات أخرى تحت وطأة حاجاتها وتسييراً لمصالحها، بل وتعيّن وسطاء للحصول على المشتقات النفطية.
في مقلب “الحكومة المؤقّتة”، برزت تعليقات الرفض على لسان رئيس الحكومة عبدالرحمن مصطفى، الرجل الذي لا يعرفه السوريون، أو بمعنى أدق تعرفه الحكومة التركية، إذ بدا أقرب إلى المترجم منه إلى المسؤول عن كيان إداري أوجدته حاجة تركيا في شمال غربي سوريا.
ترجم مصطفى الأوامر التركية للميليشيات ورفضها دخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة، ودائماً عبر كيل اتهامات لقوات سوريا الديمقراطية، ومحاولة التفتيش في نوايا مرسلي الإغاثة، والطبيعي أن موقف رئيس المؤقتة، وأطنابه من “معارضين”، قوبل باستهجان السوريين الذين وجدوا في كل مساعدة إنقاذاً لأروح المزيد من السوريين، بل إن بعض المعارضين ممن استبدّت بهم مشاهد الدمار والموت العميم ذهبوا إلى رجاء الحكومة المؤقتة قبول مساعدات شمال شرقي سوريا، بعد أن فشلوا في إقناعها.
لاحقاً وتحت الضغط والحرج وتعثّر وصول الإغاثات الدولية، ستوافق الحكومة المؤقتة على دخول المساعدات المقدّمة من “العشائر والمدنيين” في شرق الفرات.
لكن لا يمكن النظر إلى الموافقة إلّا بوصفها موافقةً تركية، إذ لا يمكن تصوّر أن الضغط الشعبي واتصالات شخصيات معارضة وأخرى عشائرية دفعا المؤقتة إلى الموافقة، وفي مجمل الأحوال أصدرت الإدارة الذاتية تعليمات فتح جميع المعابر أمام حركة المساعدات، فقد نجحت نهايةَ المطاف في تمرير مساعداتها، وبناءً عليه قبلت الإدارة الذاتية “الفتوى السياسية” وتقبّلت تذاكي الحكومة المؤقتة التي سوّفت قبول المساعدات بذريعة أنها مقدّمة من العشائر ومدنيي شمال شرقي سوريا، وبذا تخلّت الإدارة الذاتية عن حقها في أن تحمل القافلة شعارها (اللوغو) سدّاً للذرائع.
بدوره بدا النظام لامبالياً في تعامله مع قوافل المساعدات والإغاثة من شمال شرقي البلاد المتوجهة إلى مناطق سيطرته ورفضه إدخالها، دون تبيان الأسباب الموجبة لعرقلة مسيرها، بيد أن المساعي لإرسال فرق الهلال الأحمر الكردي والمساعدات الطبية والإغاثية إلى حي شيخ مقصود المنكوب بحلب تكلّلت بالنجاح.
لكن في المقابل، أفرزت كارثة الزلزال انقساماً حميداً أيضاً، إذ ظهر إلى سفح الحدث سوريون نبلاء تساموا على التقسيمات التي تفرضها السياسة والأجندات الإقليمية، سوريين في الداخل والدياسبورا(المهجر) جمعوا المساعدات وتحرّكوا على الفور مدفوعين بكل ما هو إنسانيّ، وآخرين أصروا على السقوط الأخلاقي والتمييز بين الضحايا على أساس المنطقة والقومية، ففي تركيا مثلاً جرى التمييز في كثير الحالات بين المنكوبين السوريين والأتراك، وفي جنديرس جرى التمييز في مساعدة المنكوبين على أساس قومي، وفق شهادة مصوّرة لضحايا، حدث ذلك أيضاً في آليات توزيع الخيام والطعام والخدمات الإسعافيّة وحرمان الكرد منها.
على الجانب التركي كان لهول الكارثة دورها في تقليص هامش حضور الحسابات السياسة لصالح دور وقوّة المجتمع، لذا برزت “دبلوماسية الكوارث” مرة أخرى، إذ ستشهد تركيا وصول فرق إنقاذ والمساعدات من عدوّتيها التقليديتين، اليونان وأرمينيا، إذ أن من شأن رفض الحكومة التركية لأي مساعدة خارجية أثره في تحميلها المزيد من المسؤوليات التقصيرية إزاء تعاملها مع الكارثة ومعاقبتها في الانتخابات المقبلة. والعكس مما حصل في تركيا شهدته سوريا، ليس على المستوى الخارجي فحسب، إنما على المستوى الداخلي أيضاً، إذ كرّست مناطق سيطرة النظام والمعارضة جميع أشكال القطيعة بين المناطق السورية، مطمئنةً إلى أنها ستسلم من المساءلة.
بكثير من التشاؤم يمكننا الحديث عن الكوارث القادمة التي خلّفها الزلزال، إذ ستستمرّ الحرب على أي حال، ويطال الفساد والسرقات الإغاثات والمساعدات، وتتراكم مشكلات الناجين وتتفاقم حاجاتهم إلى المسكن والغذاء والدواء. والأقسى من ذلك ستبدأ دورة الألم المديدة الناجمة عن الفقد وخسارة الأحبة.
الله معك، يا حكيم
هنادي زرقه
مقالة في “السفير العربي” 15 شباط 2023
بهذه الجملة ودّع أهالي جبلة طبيبيهما فايز عطّاف وزوجته هالة سعيد. خاطباهما بصيغة المفرد لا لأنّهم يميّزون بينهما، بل لأنهم يوحّدون ويطابقون، ولا تقلّ محبتهم لهالة عن محبّتهم لفايز. احتشد البشر على الشرفات وفوق الأرصفة يلوّحون ويولولون. كان يكفي أن يرحل فايز عطّاف وهالة سعيد ليكون ما حصل أعنف زلزال تتعرض له المدينة على الرغم من جميع الزلازل الرهيبة التي عاشتها سوريا وتعيشها في هذه الفترة. لم يحظَ بجنازتهما رئيس أو ملك, فالناس لم تنس اليد البيضاء التي امتدت إليهم طوال عقود, وأتت الجنازة مهيبة تليق بالمحبة التي أغدقاها على هذه المدينة وسواها. لم يكونا مجرد طبيبين ألمعيين. وبالنسبة إليّ، لم يكونا مجرد صديقين رائعين. كانا “ظاهرة” بكل ما للكلمة من معنى.
كان ذلك في عام 1997, كنت طالبة جامعية وأعمل في معرض للكتاب في بهو المتحف الوطني في اللاذقية, حين دخل شاب في الثلاثينيات من عمره برفقة فتاة صغيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات إلى الجناح الذي أعمل فيه، وراح يتمعّن وينتقي, له ولصغيرته. لم أستطع أن أزيح بصري عنهما, لأعلم بعد ذلك أنّه الطبيب فايز عطّاف الذي سبق له أن أنقذ حياة كثيرين في جبلة إثر حادث القطار الذي صدم حافلة عمومية على أطراف المدينة, وذاع اسمه لمهارته وسرعة إدارته للموقف الحرج وإنسانيته المفرطة. وسوف أعلم بعد ذلك أيضاً سبب وجود صغيرته معه بمفردهما, إذ كانت زوجته في فرنسا تكمل اختصاصها في الأمراض العصبية, وسوف تعود لتكون أول طبيبة مختصة بمرضي الزهايمر وباركنسون, الأمر الذي سيجعلها لاحقاً أهم شخص في حياتي لسنوات طويلة.
ولد فايز عطّاف في عام 1962، وهو العام نفسه الذي ولدت فيه هالة سعيد. وكانا من أسرتين كادحتين لا تهتمّان بشيء قدر اهتمامهما بتعليم أولادهما. وسوف أتعرّف على والد هالة، العامل في مبنى المحافظة في اللاذقية، وعلى والدتها السيدة أمينة، ربّة المنزل اللذين لم يخرج من بيتهما المستأجَر سوى الأطباء والأساتذة الجامعيين والمهندسين اللامعين. وسوف أعلم أيضاً عن أخت لهالة قضت شابة وتركت وراءها ثلاثة أطفال, لم يتجاوز أصغرهم الشهرين, تعهدتهم والدتها بالرعاية ليصبحوا ثلاثة أطباء أيضاً، حتى بتنا أمام بيت يكاد لا يماثله أي بيت سوري آخر في رفعة تعليمه وتفوّق أبنائه. وسوف أتعرّف أيضاً على والدة فايز التي يتعلّق بها، حياة السوسي، وتربيتها عائلة كبيرة تخرَّج منها الأطباء والجامعيون.
كانا من بيئتين فقيرتين لا رهان لهما سوى التعليم. وجعلتهما ميولهما الماركسية ينحازان إلى الفقراء, في تناغم من دون تكلّف أو كثير نقاش, كأنهما آلتان موسيقيتان تعزفان في انسجام عصّي على التقليد موسيقاهما الخاصة المتفردة.
اختارا أن تكون عيادتيهما في قلب المدينة, قرب الكراج، حيث يسهل الوصول إليهما من جميع أطراف المدينة ومن الريف. ومع أنّ العيادتين كانتا في طابق مرتفع من المبنى، فإنَّ المرضى كانوا يملؤون الدرج والممر المؤدّي إلى العيادة, ليس لأنهما من أمهر الاختصاصيين فحسب, بل لأنّ جميع المعدمين كانوا على ثقة أنّ هذين الطبيبين لن يتقاضيا منهما أيّ مقابل, بل سيدفعان ثمن الأدوية ونفقات العمل الجراحي إذا ما لزم الأمر.
كان فايز وهالة جمعية إغاثة قبل أن تُعرَف مثل هذه الجمعيات وقبل حوادث سوريا الدامية الأخيرة. ولطالما حاول هؤلاء الفقراء ردّ الجميل لهذين الطبيبين, بطريقة المقايضة البدائية: طب وكرم إنساني تقابله خضار ورقية أو بيض أو عسل أو زيت وزيتون, أو فاكهة, أو ربما قليل من الفطائر المحشوة بالسلق, أو طعام مطبوخ, أو سطل لبن أو حليب, هدايا بسيطة يتحدث فايز وهالة عنها بفرح عارم ويقتسمونها مع أصدقائهم.
عُرِف فايز بثقافته الواسعة المتنوعة، قارئاً نهماً للفكر عموماً والفكر الماركسي على وجه الخصوص، مع تركيز على الفكر الديني ونقده. كما كان متابعاً لأهم المجلات في العالم العربي، ومتابعاً مدققاً للمسلسلات التلفزيونية ومستمعاً جيداً للموسيقى. كان مولعاً بأم كلثوم, في حين كانت هالة مولعة بالشيخ إمام. وأزعمُ أنّ فايز كان من أهم قراء الرواية في سوريا, ولو توفر له الوقت لكان من أهم من كتبوا في النقد الروائي. مع أنه كان مدهشاً في استغلال الوقت, يقرأ في استراحة بين عمليتين جراحيتين ويحمل معه الكتب في السيارة أينما ذهب, ويبدأ صباحه بتصفح الجرائد والمواقع الالكترونية, إلى جانب متابعته المدهشة آخر المستجدات في عالم الطب.
من يعرف هالة عن قرب, يعرف مدى تواضعها, هي الأستاذة المساعدة في كلية الطب, رئيسة شعبة الأمراض العصبية في جامعة تشرين, تنزل إلى السوق وتنتقي حوائجها بنفسه، من الطعام إلى آخر الحوائج. تلقي التحية على الجميع فيردونها بمحبة قلّ نظيرها. قالت لي: “أحب هذه المدينة, فيها أمهر الصناعيين وأطيب الناس”. كانت هالة امرأة ذات شخصية نادرة, طبيبة حاسمة وصلبة وفي الوقت نفسه امرأة حنونة أشد الحنان ومتعاطفة بطريقة مغايرة لطريقة جميع النساء اللواتي عرفتهنّ. امرأة قوية ومستقلة بالفعل من دون ادّعاء. تستيقظ في الصباح الباكر كي تعدّ محاضراتها وتعدّ الطعام لأسرتها, وفي أوقات امتحانات ولديها تغلق عيادتها لأنها “أمُّ” في المقام الأول، كما كانت تردد أمامي, لكنها تبقى على اتصال دائم بمرضاها وطلابها, حتى إننا أحصينا لها ذات مرة عدد الاتصالات الواردة في يوم واحد من تلك الأيام، فكان 87 مكالمة.
لم يكن لدى هالة سيارة خاصة شأن كثير من المدرسين ومحدثي النعمة, بل كانت تستقل وسائط النقل العمومي في ذهابها إلى الجامعة, ولا تجد حرجاً في اقتناء ثيابها من متاجر الثياب الأوربية المستعملة. وسوف تدهشك في أناقتها وترتيبها, وحتى في طريقة العلاج المنهجية التي تتبعها.
أسّس فايز عطّاف وثلة من أصدقائه فرعاً لجمعية العاديات في مدينة جبلة. اهتمت هذه الجمعية بالأنشطة الثقافية والآثار, ورعت مهرجاناً دُعي “مهرجان جبلة الثقافي” استضاف خيرة مثقفي ومفكري العالم العربي وشعرائه وموسيقييه, من أمثال جورج قرم وعباس بيضون وقاسم حداد ومحمد علي شمس الدين وعزمي بشارة وسماح إدريس وعبد المنعم رمضان وعبد الله ابراهيم ونصير شما وخالد الهبر, كما دعم كثيراً من الشعراء الشباب والمسرحيين في سوريا.
انتقل فايز وهالة إلى البيت الذي دكّه الزلزال في عام 2006, وهو في المنطقة التي, إذا جاز التعبير, تفصل ديمغرافياً طائفتي المدينة, قريباً من الكورنيش البحري, كأنهما اختارا أن يكونا في القلب من كلّ شيء. لم يكن أثاث بيتهما فخماً, كانا يردّدان على الدوام: ما معنى أن يكون لديك طقم كنبات فخم؟ بماذا ينفع؟ كانت المكتبة هي الشيء الوحيد الفخم في هذا البيت, كتب متناثرة في كل مكان, وفي غرفة كل من ولديهما كتب تخصه وحده, ولوحات جميلة تزين الجدران وصور لهما ولأبنائهما, كان ما يميّز هذا البيت شعورك بالحياة والدفء والأمان.
لم يكن فايز وهالة مقتنعين بالطريقة السائدة لتوزيع الثروة. ولطالما ردّد فايز على مسامعي: “كيف يمكن أن أتقاضى مبالغ ضخمة عن ساعة عمل واحدة في حين أنّ المدرّس أو الصناعيّ المهنيّ يتقاضى أقل مني بعشرة أضعاف عن ساعة العمل نفسها؟” وانطلاقاً من هذه الفكرة التي آمنا بها، هو وزوجته، خصّصا مرتّبات شهرية لعدد كبير من العائلات المحتاجة وطلبة الجامعات من دون أن يعلنا عن ذلك. وكان فايز يصرف مرتبات إضافية للممرضين والمستخدمين في المشفى الخاص الذي يعمل به قائلاً: “إن رواتبهم متدنية جداً, وهذا غير عادل البتة”.
لا يستطيع فايز عطّاف النوم إذا تعب مريض له بعد إجراء عملية جراحية. وكثيراً ما أطلق لحيته, حتى إذا ما تجاوز مريضه مرحلة الخطر عاد إلى حلاقة ذقنه. كانا يزوران مرضاهما في البيوت ولا يتقاضيان أيّ نقود لقاء ذلك, على الرغم من أزمة المحروقات التي عانت منها سوريا.
تغلغل فايز في حياة مدينة جبلة, فكان يعرف عائلاتها جميعاً. يعرف أسرارهم وحكاياتهم. كان صديق الجميع, ولطالما قال لي: “سوف أكتب رواية هذه المدينة يوماً ما”, لكن الموت غدر بنا قبل أن يغدر به. وتمتع فايز وهالة بقدرتهما على الاحتفاظ بالأصدقاء, فكانا لا يهملان أحداً, بل يواظبان على السؤال عن الجميع وتدبّر الوقت لزيارة أصدقائهما أو الاحتفاء بهم, كما كانا شديدي الارتباط بعائلتيهما, وداعمين كبيرين لأهلهما في شيخوختهم, ولأصدقائهما في محنهم.
لم يستخدم فايز عطّاف ياء المتكلم في حديثه ولو مرة واحدة أمامي, فكان يقول: “أنا ذاهب إلى العيادة أو البيت أو الأرض أو السيارة, أكره ياء المتكلم, أكره فكرة التملك”. ومن يعرفه جيداً, يعرف أنه لم يجمع ثروة ولم يهتم بذلك على الإطلاق. وعلى الجانب نفسه، كان فايز وهالة حضاريين بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى, فقد يقاطع فايز شخصاً لمجرد أنه ألقى منديلاً ورقياً في الشارع. كان يردد دوماً: “هذه الشوارع هي بيوتنا أيضاً وصورتنا”.
لم يتدخّل فايز وهالة بخيارات ولديهما في الدراسة, فاختارت سارة أن تدرس الأدب الانجليزي وأبدعت فيه, فغدت مدرّسة في الجامعة, أما رام فاختار أن يدرس الطب البشري, ورام وسارة لا يقلّان إنسانية وأخلاقاً عن والديهما.
حين بدأت حوادث ما دعي “الربيع العربي”, شهد الشارع الذي يسكنا فيه إطلاق نار كثيف من القناصات المنصوبة على أسطح البنايات, وكثيراً ما قضى فايز وهالة وأولادهما الليل في الحمام والممرات. كان انحياز فايز وهالة واضحاً منذ البداية, “نحن إلى جانب الضحايا من أي طرف كانوا, فجميعهم سوريون”.
حين وقعت تفجيرات مدينة جبلة في أيار عام 2016, كانت انفجارات متزامنة في كراج الانطلاق وفي مشفى جبلة الحكومي وقرب المشفى الخاص الذي يعمل فيه فايز. أصيب كثير من الناس بالهلع وهم يتساءلون ما مصير الدكتور فايز, هل هو بخير؟ سوف يخبرني فيما بعد عن الأشلاء في الممرات والناس التي قضت حرقاً في هذا التفجير, وسوف يتابع مرضاه في مشافي أخرى ومدن أخرى, ويهتم بهم بعد العمليات بأشهر مادياً ونفسياً بصحبة زوجته.
كانت عيادتهما من الشواهد التي يمكنك أن تسبر المزاج العام للمدينة من خلالها. في هاتين العيادتين سوف تجد سكان الريف والمدينة، ومرضى ومراجعين من جميع الطبقات والمهن والطوائف. ولسوف يخبرني فايز كيف تغير الناس منذ 2011 حتى الآن, وكيف بدأت تلك الحواجز التي انتصبت بين الطوائف تتحلل وتذوب أمام أزمات الفقر والوقود والمواصلات, وكيف عاد الناس يتشاركون الهموم ذاتها.
تعاون فايز عطّاف وهالة سعيد منذ عام 2011 وحتى لحظة رحيلهما مع “جمعية أبناء المحبة” التي كانت تديرها الراحلة مها جديد. أنقذوا هناك كثيراً من الضحايا, ولم يتقاضيا أيّ أجر لقاء ذلك, بل إنهما, في كثير من الأحيان، كانا يدفعان.
في آخر حديث مطوَّل بيننا, أخبرني فايز إنه وهالة زارا مريضة أرمنية لهما في كسب, ولم يكن هناك سوى هذه العائلة التي تقطن قرب المقبرة الأرمنية, قال لي: “لا شك أنهم يحرسون قبور موتاهم, ومن دون وعي يؤكدون انتماءهم إلى هذا المكان. لن أغادر هذه البلاد, هذه البلاد لي ولأصدقائي وأولادي, سوف أحرس مقابرها, لن أترك هذه البلاد لأحد, إذا ما غادرنا جميعاً من سيبقى؟”
لم يرث فايز وهالة من والديهما سوى الأخلاق وكرم النفس والسمعة الحسنة ولن يورثا ولديهما غير ذلك الذكر الطيب والأخلاق الرائعة.
كان فايز قد عاد لقراءة الكتاب المقدس منذ أشهر قليلة. ولطالما كان معجباً بالمسيح الذي افتدى البشرية. لا أعلم الآن، وقد رحل، لِمَ تتردد في رأسي أغنية “أنا الأم الحزينة وما من يعزيها”, فتحضر صورة فايز وهالة في رأسي “فليكن موت ابنك حياة لطالبيها”.
يرحل فايز وهالة, فأتذكر أنامل فايز التي خاطت جروح المدينة في السابق ووحدّتها في رحيله, ضحكة هالة وردّها على كل من يطلب منها شيئاً: “من عيوني”. وأرى صور الذين حاولوا نزع الأنقاض عن بيتهم من جميع طوائف المدينة، من الريف والمدينة, بيتهما الذي ذهب لكنه غدا جسراً يعبر عليه الأهلون بعضهم تجاه بعض. عشرون ثانية كانت تلك التي خطفتهما, لكن البشرية تحتاج إلى مئة عام كي تنجب من يدانيهما.
الزلزال يجهز على آثار تاريخية صمدت خلال الحرب
سامر محمد اسماعيل
“اندبندنت عربي” 8 شباط 2023
تعرضت سورية عبر تاريخها الحديث والمعاصر إلى عشرات الهزات الأرضية، وكان أقواها الزلزال الذي حدث فجر السادس من فبراير (شباط) الجاري، والذي يذكر بزلزال ضرب مدن الساحل السوري عام 1822 وبالقوة نفسها تقريباً، أي 7.5 درجة على مقياس ريختر، وحدثت زلازل عدة في منطقة أنطاكية بين أعوام 458 و 526 و 528 و 526 و 859 ميلادية، وفاق عدد الضحايا وقتذاك مئات الألوف بحسب الموسوعة العربية في جزئها الـ 10.
وفي كل مرة كانت تتعرض فيها البلاد لهزات أرضية كان الدمار يلحق بالآثار والأوابد التاريخية والعمرانية، كما يقول الباحث والمؤرخ في مجال علم الآثار بسام جاموس متحدثاً إلى “اندبندنت عربية” إنه “حدثت زلازل كثيرة في بلاد الشام، ومنها زلزال شهير في حماة عام 1157 وسقطت وقتذاك قلعة شيزر، كما تأثرت حلب وأهلها من الزلزال وتهدمت قلعة الرحبة ومدينة عرقا وتصدعت مباني أنطاكية”.
وبحسب المؤرخ جاموس فقد دمر زلزال عام 1170 مدناً كبرى في سورية، ومنها أنطاكية وجبلة واللاذقية وحلب وحماة وحمص وطرابلس، وضرب زلزال عام 1287 مدينة اللاذقية، فيما أدى زلزال عام 1403 إلى دمار أجزاء من قلعة المرقب وتأثرت جبلة واللاذقية وبعض القلاع، ومنها قلعة المهالبة، بينما ضربت زلازل مدمّرة مدينة اللاذقية في القرن الـ 19، وبخاصة زلزال عام 1872 الذي دمر عدداً من الأوابد التاريخية والأثرية في المدينة.
الطاحونة العثمانية
وتفيد التقارير الأولى الواردة من بعض المدن السورية المنكوبة التي تعرضت لزلزال الإثنين الماضي عن أضرار طاولت معظم المواقع الأثرية نتيجة الهزة الأرضية، فقد تعرضت قلعة حلب لأضرار طفيفة ومتوسطة، منها سقوط أجزاء من الطاحونة العثمانية وحدوث تشقق وتصدع وسقوط لأجزاء من الأسوار الدفاعية الشمالية الشرقية، كما سقطت أجزاء كبيرة من قبة منارة الجامع الأيوبي، وتضررت مداخل القلعة وسقطت أجزاء من الحجارة، ومنها مدخل البرج الدفاعي المملوكي، وتعرضت واجهة التكية العثمانية لأضرار.
كما تضررت بعض القطع الأثرية المتحفية داخل خزن العرض وظهرت تصدعات وتشققات على واجهة المتحف الوطني في حلب.
ونشرت المديرية العامة للآثار والمتاحف على حسابها الرسمي في “فيسبوك” معلومات أولى وصوراً عن الأضرار التي شملت السوق الأثرية القديمة في حلب، إذ يقوم الفنيون في مديرية آثار حلب بمعاينة المدينة القديمة التي تعرضت لأضرار وانهيارات وتصدعات في كثير من المباني السكنية الخاصة.
وتعرض حي العقبة التاريخي المتاخم لسور المدينة الغربي لأضرار وانهيارات، وهو غير بعيد عن باب أنطاكية، وكذلك الأمر في حي الجلوم التاريخي الذي تعرض بدوره لأضرار إنشائية بالغة منها سقوط أسقف وجدران وأجزاء من واجهات، كما تأثرت بيوت خاصة تاريخية في جادة الخندق بأضرار متوسطة وطفيفة وتفيد المعلومات بسقوط عدد من مآذن الجوامع التاريخية في حلب.
الواجهات التاريخية
وفي مدينة حماه تأثرت مبان تاريخية في المدينة مما أدى إلى سقوط أجزاء من بعض الواجهات التاريخية لهذه المباني، ومنها أجزاء من واجهة عقار تاريخي أثري على ارتفاع طابقين من شريحة الجلاء، إضافة إلى حدوث تشققات وتصدعات في الواجهات والجدران من مبان أخرى تاريخية، ففي حي الباشورة التاريخي تضررت واجهة العقار رقم (982) من المنطقة العقارية الثانية بسقوط أجزاء من واجهته الرئيسة وتصدعها، ومن مدينة السلمية أفادت التقارير التي نشرتها مديرية الآثار والمتاحف عن سقوط أجزاء من القسم العلوي لمآذن جامع الإمام إسماعيل مما أدى إلى تصدع واجهة الجامع، وشوهدت أجزاء متساقطة من الجدران الخارجية لقلعة شميميس التاريخية.
وفي طرطوس تضررت بعض المباني داخل قلعة المرقب، ومنها أضرار طفيفة ومتوسطة جراء سقوط أجزاء من حجارة بعض الجدران أو واجهات المباني، ومنها كتلة من برج دائري في الجهة الشمالية حيث الأبراج الدائرة الشمالية، كما أدت الهزة إلى سقوط الجرف الصخري في محيط قلعة القدموس وانهيار بعض المباني السكنية المتوضعة في حرم القلعة. ولا تزال أعمال المسح مستمرة كما يخبرنا نائب مدير مديرية الآثار والمتاحف في سورية همام سعد، لكنها تحتاج مزيداً من الوقت بسبب الظروف الجوية السائدة.
ويقول سعد في حديث خاص إلى “اندبندنت عربية”، “لم يصلنا من مدينة حمص معلومات دقيقة عن أضرار في المواقع الأثرية والتاريخية وكذلك مدينة تدمر الأثرية، لكن المعلوم حتى الآن أن مآذن الجامع الكبير في القصير سقطت بالكامل”.
البشر قبل الحجر
ويضيف سعد “سارعت المديرية العامة للآثار والمتاحف في اليوم التالي لحدوث الزلزال إلى معرفة حجم الضرر الحاصل على المواقع والمباني الأثرية، ووفقاً للمعلومات الأولى فهناك أضرار كبيرة في العديد من المواقع الأثرية تتفاوت ما بين الخفيفة والكبيرة، إلا أن حجم الكارثة والعدد الكبير للضحايا جعلانا نضع الإمكانات كافة في خدمة إنقاذ الناس، فالأولوية في هذه الحالات هي لإنقاذ المواطنين الذين عاشوا ونموا بين تلك المواقع الأثرية، والتي بلا وجود الإنسان فيها تبقى من دون روح، وكذلك لا ننسى أن الظروف المناخية السيئة حالت دون وصول فرق المديرية إلى المواقع البعيدة”.
وحول سؤالنا عن خطة عمل تقوم عليها المديرية العامة للآثار في الأيام المقبلة بعد الانتهاء من إنقاذ المتضررين قال سعد “لدينا خطة تتمثل بإنشاء فرق في كل محافظة لمعاينة الأضرار وتوثيقها، والقيام بأعمال إسعافية للمباني الآيلة للسقوط، ولا ننسى بأن هناك مبان كثيرة كانت قد تضررت نتيجة الحرب وجرت ضمنها أعمال إسعافية سابقاً، لكن للأسف فإن الزلزال زاد الوضع سوءاً كما هو الحال في متحف معرة النعمان”.
وفي حلب واللاذقية اللتين تعتبران الأكثر تضرراً تعاني كوادر مديرية الآثار والمتاحف من وضع سيئ جداً كما يخبرنا همام سعد ويضيف، “موظفو مديرية آثار حلب لا يزال العديد منهم ينام مع عائلته في متحف حلب خوفاً من حدوث هزة أرضية أخرى، لكننا نأمل في أن تكون الأمور خلال الأيام المقبلة أفضل، وأن تساعد الظروف المناخية في القيام بتلك الأعمال، لكن إمكانات المديرية محدودة وكذلك كوادرها مقارنة مع العدد الهائل للمواقع الأثرية، وذلك في ظل غياب أية مساعدة من الخارج بسبب العقوبات”.
وهناك بعثات مجرية وإيطالية وروسية كانت تعمل على ترميم مواقع أثرية عدة في سورية تضررت بسبب المعارك، لاسيما في تدمر وعمريت وقلعتي الحصن المرقب، لكنها الآن متوقفة وتأتي للعمل في الربيع.
ولكن تظل اللجان الفنية للمديرية عاجزة عن الوصول إلى مواقع في شمال سورية وغربها بسبب سيطرة قوات المعارضة عليها، ومنها المدن المنسية وقلعة سمعان ومنطقة عين دارا والنبي هوري في عفرين، وقد تعرضت لسرقات كبرى قامت بها عصابات ومافيات لتهريب الآثار الدولية.
من الأخطاء التحليلية المزمنة: سوء تقدير التيارات السياسية الغربية
محمد صالح الفتيح
(من صفحته على الفيسبوك)
أشرت في المنشور السابق للتيار الشعبوي في أوروبا – وهو التيار الذي يتلاقى طبيعياً مع روسيا، ويلقى الدعم بمختلف أنواعه منها. وأجد هذه فرصة للإشارة لنقطتين. الأولى، تتعلق بامتعاض شخصي مزمن لدي والثانية قد تكون أكثر أهمية للقارئ، لهذا يمكن لمن يريد أن يتجاوز امتعاضي الشخصي، في الفقرة التالية، ويقفز للمهم بعدها.
امتعاضي الشخصي يتعلق بمقاربة بعض من يقدم نفسه على أنه محلل أو كاتب سياسي ويمزج بين ما يعتبره موقفاً أخلاقياً وبين التحليل الموضوعي للأحداث. كثيرون في العالم العربي ينظرون – غالباً عن وجه حق – للولايات المتحدة على أنها مصدر الشرور ومصائب الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث عموماً. لا اعتراض لدي على هذا. المشكلة تبدأ مع انتقال هؤلاء من هذا الاعتقاد لمحاولة تحليل الأحداث الراهنة والمستقبلية فتتلخص تحليلاتهم بموقف واحد وهو أن الولايات المتحدة ستهزم.
ولا يهم كثيراً الطرف الذي يراهنون على أنه سيهزمها: راهنوا سابقاً على ترامب، والآن على روسيا، وبعد عامين إلى خمسة أعوام سيكون رهانهم على الصين. مثل هذا “”التحليل”” يحتوي مغالطات هائلة. ولكن المشكلة الأكبر لدي هي إصرار هؤلاء – المستمر بالمناسبة – على القول إن الولايات المتحدة – ومعها الدول الأوروبية – لن تتدخل لدعم أوكرانيا عسكرياً وستتركها لتسقط أو تستلم أو تجبرها على القبول بصفقة مع روسيا (هؤلاء تصيبهم حالة نشوة عارمة في كل مرة يتحدث فيها هنري كيسنجر عن ضرورة قبول أوكرانيا بالتنازل لروسيا عن بعض أراضيها).
المشكلة أننا خلال الأشهر الأحد عشر الماضية نسير بوضوح باتجاه معاكس تماماً لما يقوله هؤلاء. ولكن بالرغم من ذلك لا زالوا كما هم، ولا أحسبهم سيتغيرون. قد يصدق هؤلاء أن دوافعهم أخلاقية وسليمة – أي تمني هزيمة أميركا – ولكن ما يفعلونه هو تشجيع طريقة تفكير غبية ومنفصلة عن الواقع، ومؤامراتية ولا تقود سوى للتخلف.
الخطأ الفادح لمغالطة هؤلاء الباحثين المزعومين يظهر تحديداً فيما يحصل في الدول الأوروبية وموقفها من ملف الطاقة الروسي وملف تسليح أوكرانيا. هناك رهان مستمر على أن التيار الشعبوي والانكفائي الحذر هو ما سيهمن في أوروبا. وهذه قراءة خاطئة بطبيعة الحال. توقعي الشخصي لخطأ هذه القراءة يعود لتواتر مؤشرات عدة خصوصاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، حتى قبل الحرب الروسية-الأوكرانية. التيار الشعبوي الأوروبي صعد لظروف استثنائية، خصوصاً تزامن الأزمة المالية العالمية (2007-2008) مع أزمة المهاجرين الأجانب والمهاجرين الأوروبيين، خلال توسعة الاتحاد الأوروبي.
ولكن هذا الصعود بدأ يتراجع بعد أن ظهر بوضوح أن اليمين المتطرف لا يمتلك تصورات اقتصادية ولا يملك سوى خطاب كراهية فقد زخمه وبدأ السياسيون اليمنيون يكتشفون الواقع القاسي (انظروا للتغيير في خطاب جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية التي فازت في أواخر أكتوبر/تشرين الأول وكيف باتت معتدلة في السياسة الأوروبية.
إيطاليا أكبر متلقي للمساعدات الاقتصادية الأوروبية وهذا أجبرها على الاعتدال وخطاب صندوق الاقتراع لا علاقة له بالواقع). ولكن فيما يخص الحرب الروسية-الأوكرانية، هناك ما هو أهم. وباعتبار الحديث اليوم عن تسليح أوكرانيا، وتحديداً بالدبابات، فلنقي نظرة على مقاربة ألمانيا.
خلال السنوات القليلة الأخيرة كان هناك صراع واضح في ألمانيا. التركيز الإعلامي، خصوصاً العربي، كان على “حزب البديل لأجل ألمانيا” وهو حزب شعبوي متطرف وغبي، ولكن الصراع الحقيقي كان بين الصوت المعتدل ممثلاً بأنجيلا ميركل وحزبها، من جانب، والتيارات التي تطالب بسياسة خارجية أكثر نشاطاً، بما في ذلك عسكرياً وأمنياً.
انظروا مثلاً للبيان الانتخابي لحزب الخضر – الذي يمسك حالياً بحقيبتي الخارجية والاقتصاد في ألمانيا. هل تصدقون حقاً أن ألمانيا قد صاغت خلال ثلاث أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا خطة دفاعية ترفع عملياً إنفاقها الدفاعي خلال عقد من الزمن بحوالي 400 مليار يورو بما فيها 40 مليار يورو لمشروع طائرة مقاتلة من الجيل السادس؟! الحرب الروسية-الأوكرانية أعطت فقط زخماً أكبر لتيار سياسي وفكري أوروبي كان ينمو بعيداً عن عدسات الإعلام التي قدمت له خدمة جلية عبر التركيز على اليمين الشعبوي.
هذا التيار السياسي كان يظهر في الكتب ونقاشات مراكز الأبحاث. هذا مثلاً كتاب لباحثين ألمانيين نشره مركز “IISS” البريطاني في يونيو/حزيران 2021 ويتحدث عن واجب ألمانيا في الدفاع عن أوروبا والقيم الليبرالية الغربية، بما في ذلك عبر زيادة إنفاقها الدفاعي والتصدي لروسيا تحت قيادة بوتين. ما ظهر في الكتاب يتقاطع مع ما يحصل الآن ومع ما تقوله عدة أحزاب ألمانية. التغيير في موقف ألمانيا مهم. هي ليست مجرد قوة اقتصادية وسياسية ولكنها أيضاً قلب الصناعة الدفاعية الأوروبية. نصف الدبابات الأوروبية تصنعها شركة “Rheinmetall” الألمانية التي تصنع أيضاً قسماً أكبر من المدرعات الأوروبية وتقدم المكونات لدبابات دول أخرى (بما فيها مدفع دبابة Abrams الأميركية). لهذا قرار ألمانيا الأخير بتقديم الدبابات لأوكرانيا هو قرار طبيعي في ضوء التطورات السابقة، بعيداً عن التفكير الرغبوي.
أعتذر عن الإطالة وعن الحديث عن مشاعري الشخصية في منشور تحليلي ولكن ما هو أسوأ من الغباء هو الاستغباء، بغض النظر عن حسن النية المزعوم.
الديمقراطية كأداة لحكم الجماهير
مازن كم ألماز
ليست الديمقراطية اقتراحًا أو مطلبًا شعبيًا، إنها مثل القومية والدين بأشكاله المختلفة وحتى الماركسية، محاولة أخرى لإقناع الناس، العاديين، المحكومين، بالإذعان لحكامهم و لحرمانهم من أية أسباب للثورات والتمرد أو مخالفة أوامر ورغبات حكامهم… ليس العقد الاجتماعي كما يقال، عقدًا بين الناس أو البشر بعضهم ببعض، إنه عقد بين الحكام و المحكومين، يتعهد فيه الأولون بإستخدام مستوى “منطقي” من القمع غير الهمجي مقارنة بالأنظمة غير الديمقراطية، و بدعوة الناس إلى “صناديق الانتخابات” ليختاروا حكامهم من بين ممثلي وفئات الطبقة أو النخبة الحاكمة في محاولة لإقناع المحكومين بإمكانية تغيير واقعهم على مأساويته وذلك من داخل المنظومة الحاكمة نفسها.
إنها طريقة أخرى ، آخر صيحة في عالم السياسة الفوقية “كعلم” لحكم الجماهير، تمامًا مثلها في ذلك مثل الدين و القومية و الماركسية الخ… كلها طرق مختلفة لإقناع الناس أنهم يحكمون بطريقة جيدة، أو كما يفضل ليبراليو هذه الأيام التي تمر فيها الديمقراطية بأحد أسوأ أزماتها: بأفضل الطرق المتاحة و الممكنة للحكم ، أنهم يحكمون من قبل حكام جيدين، أفضل من يمكن أن يحكمهم والأكثر جدارة بأن يحكمهم; تارةً لأن من يحكمهم هو من نفس الشعب (القومية) أو من نفس الطبقة (الماركسية) أو من نفس الدين أو الطائفة (الدولة الدينية أو الثيوقراطية)، و الهدف في كل مرةً هو إقناع المحكومين بالامتثال لأوامر ونواهي حكامهم و حرمانهم من دواعي الثورة و التمرد أو تجاهل هذه الأوامر و عدم إطاعتها.
ليست الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه، إنها طريقة لحكم الشعب بأقل ما يمكن من الاضطرابات والثورات، لإقناعه بضرورة الامتثال لسادته، الديمقراطيين هذه المرة… تعهد السادة الديموقراطيون بأن يكون قمعهم لمحكوميهم “متوازنًا” و “محدودًا”، أقل همجية بكثير من قمع “الأنظمة غير الديمقراطية”، قمعًا مبرراً بضرورات مصلحة المجتمع، وكما في كل نموذج للسلطة أو الدولة، بما في ذلك دولة الرفاه العتيدة التي هي بالنسبة لكل هواة ودعاة الدولة المركزية القوية، النموذج أو المثال الذي يقصدونه عندما يحدثون الجماهير، جماهير المحكومين الفعليين أو المحتملين، عن الدولة، لكن الواقع أنه ليست الدولة هي من يطعم الناس، ما يجري في الواقع هو أن الناس، العاملين تحديداً، هم من يطعمون الحكومة، أية حكومة مع رؤسائها وجنرالاتها وسادتها.
مسار مستقبلي لتطور قوى الانتاج وأخطاره
كل فترة يتم اكتشاف شيء جديد بمجال العلم، ويتم اختراع شكلا جديدا للعلاقة بين الانسان-الانسان وبين الانسان-الطبيعة، بحيث يتم احداث ثورة بقوى الانتاج وتشكيل قفزة نوعية في إطار تلك العلاقتين.
فكان الإنتاج البضاعي يضم في إحدى علاقتيه البروليتاريا الصناعية ذات العمل اليدوي، ومع الاكتشافات التي خرجت خلال مدة تاريخية طويلة منذ القرن الثامن عشر إلى الآن، أحدثت تطوراً هائلاً في قوى الإنتاج، وبسبب مرونة البنية الراسمالية، فاستطاعت أن تحتوي ذلك التطور بما يخدم تراكمها الرأسمالي من جهة والحفاظ على سيطرتها وهيمنتها من جهة أخرى.
أما الآن ، فنحن في طور انحسار العمل اليدوي ، وسيادة العمل الذهني في عملية الانتاج بدلا عنها ، وهذا سيشكل قفزة نوعية في قوى الانتاج ، فستضحي البروليتاريا مثقفة وحاملة لرسالة وقيم انسانيين ، أو بما يطلق عليها الانتجيليسيا ، وهذا يعود إلى استمرار التطور العلمي لتحقيق أقل التكاليف لإنتاج البضاعة من جهة وتحقيق تراكم رأسمالي عالي من جهة أخرى ، ولم يكن الهدف الى الآن هو تلبية حاجات الانسان بالدرجة الأولى ، بل كان وما يزال هو تخفيض سعر السلة الاستهلاكية والحفاظ على أجر مقبول وتحقيق أرباح أعلى .بالتالي أصبحنا أمام رأسمالية جديدة ، تقوم بانتاج وسائل الانتاج بالآلات عن طريق تدخل عنصر العمل لكن بشكله الذهني ، وعن طريق استبدال العامل بالآلة ، بما يحمله هذا الشكل من علاقات الانتاج من تخفيض لقيمة قوة العمل للعامل من جهة ، ومن جهة أخرى من تقليص عدد العمال ضمن المنشأة الصناعية ، الذي سيحول شرائح من عنصر العمل لفيض من العمال الذي تسودهم البطالة والاحساس بالتهميش والفقر والعوز والحرمان ، فسيكون الرجل الآلي والمستنخ والمعدل جينيا هو القاضي والمشرع والصانع والمدير والوكيل والموظف الاداري والضابط و ..الخ .
إضافة لما سبق ، يتسابق العلماء بانتاج الرجل الآلي والانسان المستنسخ والانسان المعدل جينيا ، وإن كانت في أطوارها الأولى او الجنينية كحد أدنى ، وهذا سيعمل في حال تحققه على تقليص الشرائح العاملة والمشاركة بعملية الانتاج ، وبالتالي سيدفع بفئات أو بمجتمعات بكاملها نحو العطالة والبطالة ، تتخللها العجز أمام رجال الانتاج الجدد ، والتهميش والحرمان من قبلهم ، وهذا من الممكن أن يضع مجتمعات بكاملها داخل معادلة يضحون من خلالها بلا فائدة يجنى من وجودهم. وهذا الذي يطرح العديد من المخاوف ، وأولها تحول هذه التقنية والتكنولوجيا ضد تطور الإنسان الفاعل والعاقل ، وتطور الإنسانية ككل ، مما سيخضع مجتمعات بكاملها لسيطرة مجموعة من المحتكرين والرأسماليين الدوليين ، وهذا إذا لم يسفر عن إبادة تلك المجتمعات الزائدة عن حاجة الانتاج ، وهذا يطرح على القوى الإنسانية قيامها بصياغة دفتر شروط ومراقبة ديمقراطية لتحديد الأهداف من تلك التقنية والتكنولوجيا لفرضها على القوى الاحتكارية، وذلك للحفاظ على سلامة الإنسان المعنوية والنفسية ، وسلامة الإنسانية ،وعدم ابادة قطاع ضخم منها ودول بكاملها.
فيجب على رجال العلم اتخاذ موقف انساني من ربط العلم بالسياسة ، وذلك لاحداث توازن سياسي جديد يتيح بالتحالف بين القوى التقدمية لفرض شروط لاستعمال التقنيات المخترعة، بما يخدم الإنسان والكائن الاجتماعي، وإلا إذا مازال هذا الفصم بين العلم والسياسة داخل عقل العالم وموقفه الحيادي، فإن البشرية آيلة نحو تقليص حجم سكان الكوكب واستئثار قلة بشروط الوجود، مضاف إليه تحكمهم من خلال حاجتهم ومزاجهم بالذين سيبقون على قيد الحياة والذين يجب ابادتهم. فهذا هو المنطق الذي حكم صيرورة الدول الصناعية الضخمة من خلال تعاملها مع المجتمعات الاخرى.
إن هذه التقنية والتكنولوجيا هامة جدا لعملية الانتاج، وتحرز تقدما كبيرا وفائدة عظمى للانسانية، وذلك في حال معرفة استخدامها لصاله تطور الانسانية وسيطرتها على قوى الطبيعة، وسيطرة الانسان على عملية الانتاج، والتخلص النهائي من فوضى هذا الانتاج، لادارته بشكل عقلاني وديمقراطي وانساني.
ماهية مهام العمل الوطني الحديث
دخلت سوريا في أفق جديد بعد الجلاء ، وحصلت عدة انقلابات عسكرية كما هو معروف إلى أن استقر الحكم بعد هروب الشيشكلي ، وتناوب على الحكم فئات البرجوازية التقليدية الكبيرة ، وقد سلمت الحكم لعبد الناصر بعد تجربة ديمقراطية مميزة ودستور ديمقراطي ، وبعد الانفصال حصل عدة انقلابات بين البعثيين والناصريين ليفتح البعث عهدا جديدا مع انتصاره عليهم ، ليتناوب على الحكم اجنحة البعث من خلال صراع حاد دار في أجنحته حتى استقر الحكم بعهد الرئيس الراحل حافظ الأسد.
من خلال هذه التجربة الوطنية والسياسية ، يمكن ملاحظة كيف كان منتهاها مقرون بتسليم سوريا لوصايات واحتلالات خارجية ، حيث بسبب فقدان الاستراتيجية السياسية والرؤية الواضحة وفقا لمتطلبات سوريا آنذاك ، هذان العاملان اللذان يشكلان سياسة بما يناسب طبيعة المرحلة في أي ممارسة سياسية لدى حزب أو طبقة بكاملها ، لم يكونا موجودين في قلب النضال الوطني التحرري ، ولا شك بأن طبيعة الأهداف أنذاك لا تسمح بصياغة استراتيجية لما بعد الجلاء أو عند الجلاء ، لكن كما بينت تجربة الوحدة ثم الازمة السورية الحالية ، بأن عدم صياغة استراتيجية ورؤية واضحة وعملية للنضال الوطني قد أدى باجتماع عوامل عديدة من ضمنها ماقيل أعلاه بالدرجة الأولى ، قد أنتج احتلالات خمسة لسوريا بعد انفجار الازمة السورية 2011.
فالوصول لصيغة دستورية وتشريعية جديدة ديمقراطية ورؤية وطنية واضحة المعالم (برفضها الوصاية الخارجية والتدخل الخارجي والاحتلال من أي طرف كان) هما عاملان، إذا ما تم صياغة دقيقة لطبيعة القوى في السلطة ومواليها ، وطبيعة القوى المحركة للأزمة السورية سورية أو خارجية وكيفية ارتباط الداخل بمستوياته وطبقاته مع الخارج ، لا يمكن أن ينجح أي تحول ديمقراطي في المجتمع ولا يمكن تحقيق الجلاء من قبل الاحتلالات الخمسة عن الارض السورية.
فالديمقراطية كمطلب سياسي ودستوري وتشريعي لقسم كبير من المجتمع السوري بما فيه الموالاة ، لا يمكن انجاز مؤسساتها الخاصة والدولتية من غير وضوح وصحة الرؤية وبرامج وطنية دقيقة تلبي الحاجات الملحة للمجتمع السوري ، فإن الترابط جلي بين الديمقراطية والوطنية حيث كل منهما يؤدي للآخر وبالعكس.
إن سيرورة التحرر الوطني مرتبطة ارتباطا وثيقا في العصر الحالي بصياغة رؤية ديمقراطية للمستقبل القريب ، من أجل تفادي الضربات التي تلقتها الديمقراطية من قبل حكم العسكر والحزب الواحد والشمولية الذين مهدوا الطريق في ازمة 2011 للاحتلالات الحالية الخمسة للأرض السورية.
لا شك أن طبيعة النضال الوطني الآن يختلف عن وضع الاحتلال الفرنسي، كون الاحتلالات الخمسة جلبتها قوى سورية داخلية متعادية لحسم الصراع السياسي كل منها لها، وهذا ما يطرح صياغة جديدة لتحديد طبيعة هذه القوى واهدافها واستراتيجيتها، وصياغة جديدة للعمل الوطني تكون الديمقراطية في عمقها البنيوي، وبالتالي طرح أساليب للعمل الوطني مدنية ديمقراطية حديثة.
فالتحصين الوطني الداخلي يمر عبر سلم وباب ، ومفتاح هذا الباب هو حوار سوري سوري وفق القرارات الدولية ذات الصلة ، للوصول لصيغ للديمقراطية السورية دستوريا وتشريعيا ومؤسساتيا ومجتمعيا ومدنيا ، وهذا السلم أول درجاته هو وقف الحرب العسكرية واعتراف كل طرف باحقية مطالب الآخر ، كون أطراف الصراع تتشارك بالطبيعة ذاتها في صراعها السياسي ، لوقف حمام الدم السوري والجحيم المعيشي ولحفظ الاستقلال الوطني وسيادة الدولة على كامل اراضيها ووحدة الشعب السوري.
غياب الديمقراطية في المجتمع افرز برجوازيات تابعة مع بقايا الاقطاعية في الحكم ، آتية قاعدتها من خلال مباركة كبار رجال الاعمال بتنويعاتهم وزعماء العشائر والمؤسسة الدينية والاقليات الدينية واستخدام سلاح القمع في أسوأ الاحوال.
ان العمل الوطني الآن يطرح على جدول اعماله منع اقتسام النفوذ بين القوى الدولية والاقليمية التي ستضرب القاعدة الانتاجية للمجتمع والدولة ، الذي سيجعل بلدنا قاعدة لتفريغ الازمات الاقتصادية العالمية فيه ، وسيؤدي لاحتلال سوقي سيدفع ثمنها ابناء شعبنا وخاصة الفقراء .
يجب ان يتم التوافق الوطني في إطار العمل لأجل انجاز تسوية وطنية ، حول برنامج عمل يشكل بديلا نديا لسياسات السلطة الداخلية، يلبي الحاجات الملحة لابناء شعبنا ويؤمن مستقبل آمن للشباب ،ويحترم اخلاق العمل والكد والانتاجية ويضع في بنوده منع تهجير النخبة الفكرية والانتاجية ، لبناء قاعدة تحتية بأيدي السوريين وراسمال السوريين بالدرجة الأولى ، لاجراء عملية نهضة تنموية فكرية وانتاجية للمجتمع برمته ،يقودها السوريون و يستفيدون منها بفئاتهم المختلفة.
الضغط من أجل السلام: كيف نتجنب حرب عالمية أخرى؟
هنري كسنجر
مجلة “اسبكتاتور” البريطانية 17\12\2022
كانت الحرب العالمية الأولى عبارة عن نوع من الانتحار الثقافي الذي دمر مكانة أوروبا البارزة. فقد سار زعماء أوروبا وهم نائمون على حد تعبير المؤرخ كريستوفر كلارك إلى صراع ما كان أي منهم ليدخل فيه لو توقعوا أن العالم في نهاية الحرب في عام 1918. وفي العقود السابقة، أعربت عن منافساتها عن طريق إنشاء مجموعتين من التحالفات التي أصبحت إستراتيجياتها مرتبطة بجداول كل منها للتعبئة. ونتيجة لهذا، في عام 1914، سمح لمقتل ولي العهد النمساوي في سراييفو بالبوسنة على يد قومي صربي بالتصعيد إلى حرب عامة بدأت عندما نفذت ألمانيا خطتها التي كانت ترمي إلى إلحاق الهزيمة بفرنسا من خلال مهاجمة بلجيكا المحايدة في الطرف الآخر من أوروبا.
فدول أوروبا، التي لم تكن على دراية كافية بكيفية تعزيز التكنولوجيا لقواتها العسكرية، شرعت في إلحاق دمار غير مسبوق بعضها ببعض. وفي آب/أغسطس 1916، بعد عامين من الحرب وسقوط ملايين الضحايا، بدأ المقاتلون الرئيسيون في الغرب (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في أستكشاف آفاق إنهاء المذبحة. وفي الشرق، أبدت الدولتان المتنافستان النمسا وروسيا مشاعر مماثلة. ولأن أي تسوية يمكن تصورها لا يمكن أن تبرر التضحيات التي تم تكبدها بالفعل ولأن لا أحد يريد أن ينقل انطباعا بالضعف، فقد تردد مختلف القادة في بدء عملية سلام رسمية. ومن هنا سعوا إلى الوساطة الأميركية. وكشفت الاستكشافات التي قام بها العقيد إدوارد هاوس، المبعوث الشخصي للرئيس وودرو ويلسون، أن السلام القائم على الوضع الراهن المعدل كان في المتناول. بيد أن ويلسون ، وعلى الرغم من رغبته ورغبته وشغفه في النهاية في القيام بوساطة ، تأخر حتى بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر. وبحلول ذلك الوقت، أضاف هجوم السوم البريطاني وهجوم فيردون الألماني مليوني إصابة أخرى.
وعلى حد تعبير فيليب زيليكو في كتابه عن هذا الموضوع، فإن الدبلوماسية أصبحت الطريق الذي لم يسلكه أحد. فقد استمرت الحرب العظمى لمدة عامين آخرين، وأسفرت عن سقوط ملايين الضحايا، الأمر الذي أدى إلى الإضرار بالتوازن القائم في أوروبا على نحو لا يمكن إصلاحه. فبسبب الثورة كانت ألمانيا وروسيا مستأجرتين، واختفت الدولة النمساوية المجرية من على الخريطة. فرنسا قد نزفت من البياض. لقد ضحت بريطانيا بحصة كبيرة من جيلها الشاب ومن قدراتها الاقتصادية لمتطلبات النصر. فقد أثبتت معاهدة فرساي العقابية التي أنهت الحرب أنها أكثر هشاشة من البنية التي حلت محلها.
ولكن هل يجد العالم اليوم نفسه عند نقطة تحول مماثلة في أوكرانيا مع فرض الشتاء لوقفه مؤقتا على العمليات العسكرية واسعة النطاق هناك؟ وقد أعربت مرارا عن دعمي للجهود العسكرية التي يبذلها الحلفاء لإحباط عدوان روسيا في أوكرانيا. ولكن الوقت يقترب من البناء على التغييرات الاستراتيجية التي تحققت بالفعل وإدماجها في هيكل جديد نحو تحقيق السلام عن طريق المفاوضات.
لقد أصبحت أوكرانيا دولة كبرى في أوروبا الوسطى للمرة الأولى في التاريخ الحديث. وبمساعدة حلفائها، وبإلهام من رئيسها فولوديمير زيلينسكي، أحبطت أوكرانيا جهود القوات التقليدية الروسية التي ظلت تغلي أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. كما أن النظام الدولي – بما في ذلك الصين – يعارض تهديد روسيا أو إستخدام أسلحتها النووية.
وقد تناولت هذه العملية المسائل الأصلية المتعلقة بعضوية أوكرانيا في منظمة حلف شمال الأطلسي. فقد حصلت أوكرانيا على واحدة من أضخم الجيوش البرية وأكثرها فعالية في أوروبا، والتي زودتها أميركا وحلفاؤها بالمعدات. بيد أن أي عملية سلام ينبغي أن تربط أوكرانيا بمنظمة حلف شمال الأطلسي. ولم يعد بديل الحياد مجديا، وخاصة بعد انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلنطي. ولهذا السبب، أوصيت في أيار/مايو الماضي بإنشاء خط لوقف إطلاق النار على طول الحدود القائمة حيث بدأت الحرب في 24 شباط/فبراير. فروسيا سوف تفك غزوها لها، ولكن ليس الأرض التي إحتلتها قبل ما يقرب من عقد من الزمان، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. ويمكن أن تكون تلك الأراضي موضوع مفاوضات بعد وقف إطلاق النار.
وإذا لم يكن من الممكن تحقيق الخط الفاصل بين أوكرانيا وروسيا قبل الحرب من خلال القتال أو التفاوض، فإن اللجوء إلى مبدأ تقرير المصير يصبح في الإمكان الاستكشاف. ويمكن تطبيق الاستفتاءات التي يشرف عليها دوليا فيما يتعلق بتقرير المصير على الأقاليم المثيرة للخلاف بصفة خاصة والتي تغيرت أيديها مرارا وتكرارا على مر القرون.
وسيكون هدف عملية السلام ذا شقين: التأكيد على حرية أوكرانيا وتحديد هيكل دولي جديد، لا سيما لأوروبا الوسطى والشرقية. وفي النهاية يتعين على روسيا أن تجد لنفسها مكانا في مثل هذا النظام.
والنتيجة المفضلة بالنسبة للبعض هي روسيا التي أصبحت عاجزة بسبب الحرب. أنا لا أوافق. وعلى الرغم من ميلها إلى العنف، قدمت روسيا إسهامات حاسمة في التوازن العالمي وتوازن القوى لأكثر من نصف ألف سنة. ولا ينبغي أن يحط من شأن دورها التاريخي. ولم تنجح الانتكاسات العسكرية التي منيت بها روسيا في القضاء على انتشارها النووي العالمي، الأمر الذي مكنها من تهديد التصعيد في أوكرانيا. وحتى إذا تضاءلت هذه القدرة، فإن تفكك روسيا أو تدمير قدرتها على وضع السياسة الاستراتيجية من الممكن أن يحول أراضيها التي تضم 11 منطقة زمنية إلى فراغ متنازع عليه. فقد تقرر مجتمعاتها المتنافسة تسوية نزاعاتها بالعنف. وقد تسعى دول أخرى إلى توسيع مطالباتها بالقوة. وسوف تتفاقم كل هذه المخاطر بسبب وجود الآلاف من الأسلحة النووية التي تجعل من روسيا واحدة من أكبر قوتين نوويتين في العالم.
وفي حين يسعى زعماء العالم جاهدين إلى إنهاء الحرب التي تخوض فيها قوتان نوويتان منافسة في دولة مسلحة تقليديا، فيتعين عليهم أيضا أن يفكروا في التأثير على هذا الصراع وعلى الاستراتيجية الطويلة الأجل المتمثلة في التكنولوجيا الفائقة الناشئة والذكاء الاصطناعي. فالأسلحة ذاتية التحكم موجودة بالفعل، وقادرة على تحديد وتقييم واستهداف التهديدات المتصورة، وبالتالي فهي في وضع يمكنها من بدء حرب خاصة بها.
وبمجرد تجاوز الخط إلى هذه المنطقة وتحويل التكنولوجيا الفائقة إلى أسلحة قياسية وتصبح أجهزة الكمبيوتر المنفذين الرئيسيين للاستراتيجية فإن العالم سوف يجد نفسه في حالة لم يتبن لها مفهوما بعد. كيف يتسنى للزعماء ممارسة السيطرة عندما تصف أجهزة الكمبيوتر تعليمات إستراتيجية على نطاق واسع وبطريقة تؤدي بطبيعتها إلى الحد من المدخلات البشرية وتهديدها؟ كيف يمكن الحفاظ على الحضارة وسط هذه الدوامة من المعلومات والتصورات والقدرات التدميرية المتضاربة؟
وحتى الآن لم تنشأ أي نظرية لهذا العالم المتجاوز، ولم تتطور الجهود الاستشارية بشأن هذا الموضوع ربما لأن المفاوضات المجدية قد تكشف عن اكتشافات جديدة، وأن الكشف عن المعلومات يشكل في حد ذاته خطرا يهدد المستقبل. إن التغلب على الانفصال بين التكنولوجيا المتقدمة ومفهوم الاستراتيجيات اللازمة للسيطرة عليها، أو حتى فهم آثارها الكاملة، لا يقل أهمية عن قضية تغير المناخ اليوم، وهي تتطلب قادة يتمتعون بالريادة في كل من التكنولوجيا والتاريخ.
إن السعي إلى السلام والنظام له عنصران يعامل أحيانا على أنهما متناقضان: السعي إلى تحقيق عناصر الأمن وشرط القيام بأعمال المصالحة. وإذا لم نتمكن من تحقيق الاثنين، فلن نتمكن من الوصول إلى أي منهما. وقد يبدو الطريق إلى الدبلوماسية معقدا ومحبطا. ولكن إحراز التقدم في هذا الصدد يتطلب الرؤية والشجاعة على حد سواء للاضطلاع بهذه الرحلة.
من زوايا الذاكرة (٢٢)
الدكتور جون نسطه
في ما سبق ذكرت بأن الوضع السياسي بين الحزب والسلطة يزداد توتراً، قابله بالحزب توترا بين اعضاء المكتب السياسي والعديد من الكوادر وبدأت السلطة العليا بالحزب تتركز بين يدي الرفيق رياض الترك والدكتور فايز الفواز.
في العام ١٩٧٧ قيل لنا بأن الحزب يمر بضائقة مالية ولهذا تقرر إلغاء التفرغ الحزبي وقطع رواتب المتفرغين ,مع أن راتب التفرغ زهيد جدا لا يتجاوز المئتان وخمسة وعشرون ل. س. لغير أعضاء المكتب السياسي أما لاعضاء المكتب السياسي فكان راتب التفرغ في ذلك الوقت خمسمئة ل.س كما روى لي الرفيق صبحي أنطون .وقيل لرفاق الحزب عليكم البحث عن عيادة خاصة مناسبة التكاليف للرفيق فايز ليعمل فيها كطبيب مختص،وينهي تفرغه.لكن مع ذلك لم يتم تفريغ الدكتور فايز ولم يتم قطع راتبه . أي أن الكلام لم يكن جديا بل نثرا في الهواء ، حيث كان هناك عددا ليس قليلا من المتفرغين في القيادة لم يعمل في حياته كلها سوى إنه موظف حزبي متفرغ.
ذات يوم زارني في عيادتي صديقي العزيز والرفيق المفضل لدي في صداقته واستقامته وخلقه الرفيع نبيه جلاحج وشرح لي وضعه المادي الصعب بعد إنهاء تفرغه.فقلت له رفيقي العزيز أنت حائز على شهادة في الحقوق وتستطيع العمل في مهنة المحاماة.فأجابني حتى تصبح محاميا عليك أن تكون عضوا في نقابة المحامين وعليك أن تدفع رسم الإنتساب ،وأنا لا ملك هذأ المبلغ وقدره الفان ل س.فقلت له المشكلة محلولة.انا أعطيك هذأ المبلغ وانت تصبح محاميا. في تلك اللحظة ونتيجة الضغط النفسي إنفرجت اسارير وجهه وفاض من عينيه فرح وسرور ،وقام بتقبيلي مرارا وتكرارا. وأشير هنا الى ان المحامي الصديق نبيه قد أعاد لي المبلغ كاملا خلال السنوات التالية .
سجل الرفيق نبيه نفسه في نقابة محامي دمشق ،والتحق بمكتب المحامي العروبي التقدمي الكبير سامي ضاحي ،وبسرعة اصبح محاميا لامعا،وانخرط في العمل النقابي وغدا أفضل نقابيا وتم انتخابه مسؤول المالية لدورات عديدة..أما رياض نفسه فتخلى عن راتبه التفرغي وحاول العمل في مكتب محاماة في حمص ،وبهذا يكون أول أمين عام بدون راتب تفرغ حزبي.
من المعلوم أن الحزب كان لديه تنظيم سري يقوده كليا الرفيق رياض ودون مشاركة أعضاء القيادة الآخرين.
تمركزت السلطة الحزبية بأيدي رياض الترك والدكتور فايز الفواز وانخفض عدد اجتماعات المكتب السياسي وتوزيع للمهمات الحزبية.بدأنا نشعر بالغربة وملاحظة فروقات المواقف السياسية والتنظيمية ،وبدأتُ حينها أشعر بخطر انقسام جديد.
في تلك الأيام كان السيد الدكتور محمد علي هاشم وزيراً للتعليم العالي وكان يأتي بزوجته إلى مستشفي نزار جمعان أغا عند الحاجة لأي مداخلة جراحية نسائية وأقوم أنا بتخديرها ورعايتها أثناء المداخلة.كان الاستاذ الدكتور الطبيب محمد علي هاشم معجب جدا بقدراتي الطبية وخاصة في اختصاصي في فن التخدير ،وكان يقول لي مثلك يجب أن يكون أستاذا جامعيا ولذلك أطلب منك ان نسافر الى دولة اجنبية للحصول منها على شهادة أختصاص ،وعندما تعود سوف أعينك فورا مدرسا جامعيا.
بناءا على الوضع الحزبي المزري وحرصا مني على الصعود المهني فكرت جديا بالسفر إلى ألمانيا الغربية للحصول على الشهادة المطلوبة.كانت بين أيدينا مجلة طبية تنشر اعلانات لبعض المستشفيات التي بحاجة الى أطباء للعمل فيها وخصوصا في ظل نقص أعداد الأطباء الألمان.
كتبت رسالة لأول مشفى الماني أبدي فيها استعدادي للعمل كطبيب تخدير ،فجاء الجواب بسرعة فائقة يدعوني للقدوم فورا. كنت مرتبط في ذلك الوقت بعقد مدني مع وزارة الدفاع السورية ،وفك العقد ليس من الأمور السهلة ،فكتبت لهم بأنني أحتاج لفترة ثلاثة اشهر لفك العقد،ولكن زوجتي وهي طبيبة أمراض داخلية جاهزة للقدوم فوراً ،فكتبوا أنهم ليسوا بحاجة لأطباء أمراض داخلية ولكنهم مستعدين لتوظيفها وإنهم مستعدين لدفع أثمان بطاقات الطائرة لي ولزوجتي وأولادي الاثنين.
وبالفعل سافرت زوجتي مع الاولاد وبدأت في العمل هناك.
وقمت أنا من جهتي ببذل كل امكانياتي واستخدام علاقاتي المتشعبة لفك العقد مع وزارة الدفاع ،رغم كونه عقدا مغريا جدا بقيمة ٢٢٠٠ ل.س شهريا موقعا من رئيس الجمهورية ،لأن وزير الدفاع السوري لا يحق له بتوقيع عقد مع احد المدنيين يتجاوز مبلغ ١٥٠٠ ل.س.
أخيرا نجحت بفك العقد بعد ثلاثة أشهر وتوجهت بالطائرة إلى مطار كولونيا وكان يوم العاشر من شهر كانون الأول عام ١٩٧٧ يوم يصادف تاريخ ميلاد حبيبتي الصغيرة منى..
قبل خروجي من دمشق نلت موافقة منظمتي الحزبية و حصلت على موافقة لجنة الحزب المنطقية مع أسفهم الشديد و مع وعد قاطع مني بالعودة بعد ثلاثة سنوات على أبعد حد.
وفي مطار دمشق كان في وداعي أكثر من خمسين رفيقا وصديقا من اتجاهات سياسية متعددة.
وصلت ليلاً إلى مكان أقامة عائلتي وكان المنزل عبارة عن غرفة واحدة ومطبخ ينامون على صوفيات منخفضة وبسيطة من حديد حيث بدا المكان يشع بؤسا وفقرا والشيء الوحيد من وسائل الراحة والرفاهية كان جهاز التلفزيون.
كانت زوجتي من معدن خاص في الصبر والأناة وتحمل للمعاناة،تركب في الصباح على دراجتها وأمامها إبني الصغير فايز وخلفها ابنتي منى متوجهة الى روضة الاطفال لإيداع فايز هناك وعمره ثلاثة سنوات وتتابع لإيصال منى وعمرها خمسة أعوام الى المدرسة ثم تتابع الى المستشفى لتعمل ثماني ساعات وتعود مع الاطفال على نفس الطريق لتقوم بشراء بعض المواد الغذائية من أجل الغذاء ،وفي المساء تقوم بتدريس منى التي لم تتعلم اللغة الألمانية بعد كل ذلك في جو بارد جدا وتراكم الثلوج في شهر كانون الاول.
وتقوم بكل هذا الجهد ستة أيام بالأسبوع دون أية شكوى أو تذمر.فالمرأة تظهر عظمتها وبأسها وصلابتها في الأيام العصيبة وليس في ساعات الرخاء والنعيم.
الحب الذي ربطنا لسنوات عديدة بدأ يتطور الى احترام شديد.
قبل أن أبدأ العمل نزلت إلى السوق واشتريت سيارة لونها أحمر ،لأن الحياة في مثل ظروفنا بدون سيارة كانت لا تطاق.
لم يكن في المدينة التي نعمل بها أي معارف أو أصدقاء والمجتمع الالماني كان قد دخل الى مرحلة متقدمة من تطور الراسمالية متخليا عن المشاعر الإنسانية شيئاً فشيئاً والإنسان لايفكر إلا بنفسه وتفوقه على زميله الآخر . بعد دخولي العمل بمرحلة أسبوع جاءني رئيس القسم وطلب بأن نقوم بزيارة مشتركة لتحضير المرضى إلى عمليات اليوم التالي ،وخلال ذلك سألني هذا مريض يشكومن الأمراض التالية ،فكيف ستقوم بتخديره وأية آلية ستقوم باستخدامها؟
فما كان مني إلا أن قلت له بأن خبرتي في فن التخدير تفوق خبرته بمراحل وإني لا أسمح له بامتحاني وأوراقي وشهاداتي هي في حوزته ويستطيع الرجوع إليها ،فقال أنا رئيس القسم ويحق لي أن أسأل ،فرفضت مجدداً فقال إذن نحن مفصولون ،بمعنى أني مفصول عن العمل.
نزلت إلى إدارة المشفى وأخبرتهم بما جرى ،فقالوا هذا ليس من صلاحياته.نحن قمنا بالمفاوضات ونحن من دفعنا أثمان بطاقات الطائرات لك ولأولادك ووظفنا زوجتك طمعا بالعمل معك.
خرجت من هناك إلى غرفة استراحة الأطباء ووجدت هناك مندوب دعاية لشركة أدوية .سألني لماذا أنا مقبوض على غير عادتي،فحدثته بما جرى فقال هذه مشكلة بسيطةً وأنا سأجد لك مكان أفضل من مكانك الحالي ،انتظرني أسبوع فقط.لم يمضي اسبوع الا ورئيس أطباء مشفى في مدينة مجاورة يتصل معي على الهاتف ويطلب أن أزوره.الرئيس السابق تراجع عن موقفه ولكن صحن البورسلان قد تكسر في نظري ولا يمكن الصاقه.
يوم الأحد الذي تلى الحادث كنت في زيارة رئيس الأطباء الجديد الذي أبدى الرغبة بالعمل معي بعد أن أخبرته عن خبراتي وعرض علي منصب رئيس القسم اي نائبه ومبلغ راتب مغري جدا.
خرجت سعيداً جداً وبدأت في العمل بعد أسبوع تماما.
على الجانب السياسي اتصلت مع الرفيق سلطان أبازيد المقيم في باريس، والذي كنت أعرفه جيدا في فترة الدراسة في لايبزيغ، وأخبرته عن عزمي متابعة دراسة التخدير، فقال لدينا فرقة حزبية في ألمانيا، فهل تريد أن تنضم اليها أم أنك تفضل العمل في الحزب من خلال الاتصال الفردي، كنت متخوفاً بعض الشيء من وجود ألغام لصالح النظام، لذا فضلت طريقة الاتصال الفردي معه.