ظهرت الحركات الاجتماعية في العالم كنتيجة لعوامل متعددة يتعلق بعضها بالجانب السياسي _ الأمني وبعضها الآخر يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والحقوق المدنية والحريات العامة والخاصة ،وهي تسعى في الغالب لتغيير الوضع القائم وتحقيق مكاسب سياسية أو حقوقية أو اجتماعية أو اقتصادية ،هذا وقد تعرض العديد منها للمد والجزر أو لتجاذبات مختلفة وذلك تبعا لطبيعة الأنظمة القائمة أو للأهداف والمطالب التي قامت من أجلها ،كما نجد البعض منها تحول من احتجاجات سلمية إلى احتجاجات تصادمية أو صراع مسلح إلا أنه يمكن القول أن ظاهرة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية منذ القرن الثامن عشر ازدادت وتيرتها وساهم تطورها في تحقيق الكثير من المكاسب في مختلف المجالات الديمقراطية والحقوق المدنية الاقتصادية كما أدى البعض منها إلى انهيار أنظمة وصعود أنظمة أخرى.
ففي الدول الغربية نجد الاحتجاجات قد عمت مختلف الولايات الأمريكية بعد عام ١٨٤٨ وإعلان الاستقلال حيث اصبح مطلب حق الإضراب في مقدمة مطالب الاحتجاجات الشعبية حتى تحقق لها ذلك واصبح حقا دستوريا وقانونية للشعب الأمريكي، وبفضل هذا النجاح وبفضل تلك الاحتجاجات العامة تحقق للمرأة الأمريكية صدور تشريعات تتعلق بحقوقها ومساواتها بالرجل ،كما برزت في القرن التاسع عشر حركة الحقوق المدنية في أغلب الولايات الأمريكية بعد الانتهاكات العنيفة لحقوق المواطنين السود وكان من أولويات تلك الحركة إنهاء التمييز العنصري ضد السود وقد برز خلالها الزعيم مارتن لوثر كينغ الذي اغتيل عام 1968.
أما في بريطانيا فقد ظهرت عام ١٩٦٧ رابطة الحقوق المدنية المطالبة بإنهاء التجاوزات على حقوق الأقلية الكاثوليكية الرومانية واحترامها الأمر الذي أدى إلى إصدار تشريعات تستجيب لتلك المطالب بالإضافة إلى العديد من الاحتجاجات التي تطالب بتحسين أوضاع العمال ، وفي فرنسا كان هناك العديد من الاحتجاجات والاعتصامات في كل عام وكان من أهمها ما تم التعارف علية بأحداث مايو لعام ١٩٦٨ حيث عمت الاحتجاجات المدنية جميع المدن الفرنسية واستمرت لأسابيع عديد تخللها اعتصامات الطلاب والجامعات والمصانع وتوقفت الحركة الاقتصادية حينها في الدولة الفرنسية مما أدى ذلك إلى استقالة الرئيس ديغول عام 1969.
كما نجد بين أعوام ١٩٧٠ و١٩٩٠ قد عمت الاحتجاجات العديد من دول أوربا الغربية وبفضلها تم فيها تحولات ديموقراطية مثل إسبانيا والبرتغال، كما استطاعت الحركات الاحتجاجية الاجتماعية والسياسية السلمية في دول شرق أوروبا مثل تشيكوسلوفاكيا وبولندا أن تنجح في فرض دساتير ديموقراطية ضمن حدودها القومية حيث نجد أن حركة التضامن البولندية عام ١٩٨٠ التي أشعلها فاليسا وهو عامل كهرباء في حوض السفن غير متعلم ليجعل منها باكورة الاحتجاجات في أوروبا الشرقية وقد ساهمت إلى حد كبير في انهيار الاتحاد السوفيتي كما نجد أن شخصية فاليسا الكاريزمية دورا في تحريض العمال، هذا وقد كانت مطالبهم في بداية الاحتجاجات لا تتجاوز تحسين ظروفهم الاجتماعية والمطالبة بالسماح لهم في الإضراب ثم تطورت إلى المشاركة في الحكم مع الحزب القائد، وقد استطاعت تلك الحركة أن تحشد أكثر من عشر ملايين محتج على الأوضاع وفق التقارير الصحفية آنذاك وقد استمرت الحركة في الاحتجاجات حتى استطاعت استلام السلطة عبر انتخابات رئاسية عام ١٩٩٠ فاز بها فاليسا بنسبة عالية من أصوات الناخبين وأصبح في أوربا الشرقية من أبرز رموز الإصلاح السياسي بعد الزعيم التشيكي دوبتشيك زعيم ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨.
أما في البلدان العربية فقد بقيت تقريبا بعيدة عن رياح التغيير الديمقراطي واستمرت المنطقة بشكل عام تعيش أزمات متعددة ومركبة سياسية وديمقراطية واجتماعية واقتصادية وبقيت متخلفة عن اللحاق بالدول التي حققت انتقالا ديمقراطيا سلميا رغم أن أغلب البلدان العربية عاشت مع بداية الألفية الثانية موجة احتجاجات شعبية واسعة وسلمية في كل من المغرب وتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ومؤخرا في السودان، احتجاجا على أنظمة حكم استبدادية فاسدة استمرت مسيطرة على السلطة عقود عديدة هيمنت خلالها على مقدرات البلاد فأفقرت شعوبها وحرمتهم من أبسط الحقوق المدنية والسياسية والأمنية والاقتصادية وحقوق الإنسان، وقد اطلق على تلك الاحتجاجات ب(الربيع العربي) وشكل حينها بعد انطلاق شرارتها في تونس وهروب الرئيس التونسي للسعودية عام ٢٠١١ ثم تلا ذلك موجة الاحتجاجات العامة في مصر وتنحي الرئيس المصري عن السلطة أملاً كبيرا بانهيار أنظمة الاستبداد العربي وساد انطباع عام بأن التحولات السياسية والديموقراطية أتية لا محال.
وقد تميز هذا الحراك ابتداء في أغلب البلدان بالظهور القوي لناشطين حقوقيين وسياسيين فاحتلت المطالب الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية مساحة واسعة في النشاط السياسي كما استجابت بعض الدول منها لمطالبهم الإصلاحية كما حدث في المغرب عند صدور دستور جديد عام ٢٠١١، وفي تونس وبعد تجاذبات سياسية حادة بين القوى السياسية وبفعل التأثير القوي للحركة الشعبية فيها تم تغيير النظام القديم وبناء نظام جديد وصدور دستور جديد عام ٢٠١٤ ذو توجهات ديمقراطية وإنسانية، كما تم تحولا ديموقراطيا جزئيا في مصر بعد الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العاصمة وأغلب المدن الكبرى وصدر خلالها تشريعات توحي بتغيرات ديموقراطية قادمة و صدر دستورا ديمقراطيا بفعل تأثير حركة ٢٥/كانون الثاني من نفس العام إلا أنه لم يعمر طويلا حيث انه تم تعليقه بأقل من عام على صدوره بفعل هيمنة الجيش على السلطة.
وعلى ذلك سرعان ما تبددت تلك الآمال التي عاشتها شعوب المنطقة العربية التي لم تدم بفعل الهجوم المضاد من قبل قوى الاستبداد والفساد وأوقفت تقدم الإصلاحات والتغيرات الديمقراطية التي طبقت، ففي مصر استطاع الجيش أن يعود مجددا للسيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية وأن يحد من الحياة الديمقراطية ، وفي ليبيا لم تعمر الحياة البرلمانية طويلا بسبب الصراع المسلح بين القوى الداخلية والقبلية فسيطرة الميليشيات المسلحة على المشهد السياسي ودخلت عليه قوى خارجية فرنسية وروسيا وتركية لدعم الأطراف المتنازعة على السلطة.
أما في اليمن فأصبحت يمنان نتيجة للصراع المسلح المذهبي فيها (شيعي وشافعي) وسيطرة الميليشيات الحوثية على العاصمة صنعاء بدعم من ايران وتم قتل الرئيس السابق علي صالح على يد الحوثيين كما ازداد المشهد السياسي تعقيدا بعد تدخل كل من السعودية والإمارات في الصراع الدائر فيها.
وفي سورية فالوضع فيها يزداد سوءاً على كافة الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية فلا يزال أكثر من نصف الشعب السوري بين نازح ومهجر وعشرات الألوف في المعتقلات أو مغيبين قسريا لا يعرف مصيرهم ، وتزداد كل يوم معاناة الشعب من جراء ارتفاع أسعار المواد الأساسية فأصبح أكثر من ٨٠٪ من الشعب السوري دون خط الفقر وعاجزا عن تأمين اهم مستلزمات استمرار حياته، كما ازدادت معاناته اليومية بسبب سياسة التقنيين المطبقة على الكهرباء والغاز والخبز والمازوت والبنزين مع ارتفاع أسعارها الجنوني، وسياسيا أصبح الحل السياسي التوافقي بين المعارضة والسلطة وفق بيان جنيف واحد لعام ٢٠١٢ والقرار الدولي ٢٢٥٤ لعام ٢٠١٥ مرتهنا لإرادة الدول الخارجية الفاعلة بالأزمة السورية وتحديدا الروسي والأمريكي وبالتالي أصبح الحل السياسي بالنسبة للمعارضة السورية كالسراب تلهث ورائه لتطبيقه.
بينما أصبح عند السلطة السورية من الماضي وفق تعبير وزير الخارجية السورية ويستمر النظام في عرقلة التقدم في مسار صياغة دستور جديد أو إصلاحا دستوريا بعد تغير ميزان القوى على الأرض وسيطرته على ما يقارب ٧٠٪ من أراضي الدولة السورية بمساعدة القوات الروسية والميليشيات الإيرانية والعراقية ومليشيات حزب الله اللبناني على، هذا إضافة إلى أن مفهوم السيادة الوطنية أصبح خارج المفاهيم الوطنية بسبب وجود خمسة جيوش اجنبيه، أمريكية وروسية وتركية وإيرانية وإسرائيلية على الأرض السورية وعلى ثرواتها الوطنية وأصبحت تلك الجيوش الأجنبية تتصرف فوق أرضها وفي سماءها دون حسيب أو رقيب.
أما في السودان ورغم اعتقال الرئيس البشير وبعض رموز الاستبداد والفساد فيها فلا تزال الاحتجاجات الشعبية مستمرة دون توقف في أغلب المدن والولايات السودانية بسبب هيمنة القيادات العسكرية على مجلس الحكم الانتقالي ورفضهم تسليم السلطة لحكومة مدنية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية والمضي قدما بالتحولات الديمقراطية المتفق عليها مع قوى التغيير الديمقراطي، ومن جهة أخرى وخلافات لما كان سائدا في أغلب احتجاجات الدول العربية فإننا نجد أن نخب الحركة الاحتجاجية في السودان قد امتازت في توجيه المسار الديمقراطي السلمي بعقلانية عالية ووعي سياسي مميز حيث بقيت محافظة على سلمية الاحتجاجات وعلى وحدة الدولة السودانية وترابها الوطني منذ انطلاقتها عام ٢٠١٩.
وفي نفس السياق، يمكن القول إن العفوية في الاحتجاجات التي عمت العديد من الدول العربية وفقدان الخبرة التراكمية عند قادة الاحتجاجات وغياب التأطير الفكري والأهداف والبرامج الواضحة والتوجيه العقلاني لها وعدم بروز شخصيات كاريزمية جامعة وموحدة وتأخر الأحزاب السياسية الديموقراطية المعارضة في بعض الدول بالانخراط مبكرا بالاحتجاجات والإفادة من خبراتها السياسية التاريخية في العمل الشعبي – التحريضي، والنزوع نحو العمل المسلح عند البعض الآخر، إضافة إلى التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية.
في تلك الاحتجاجات، كانت تلك العوامل مجتمعة عند البعض من الاحتجاجات أو في جزء منها، سببا كافيا في فشلها في تحقيق نقلات نوعية سياسية ديموقراطية في هيكلية أنظمة الحكم العربية.
ويبقى السؤال الهام والعام، هل تبق الأنظمة الاستبدادية الشمولية في المنطقة العربية على هذا النحو مهيمنة على رقاب العباد وخيرات البلاد أم سيظهر ربيعا عربيا أخر جديدا مستفيدة قيادته من أخطاءها السابقة وتجاوزها لتحقق تحولا وطنيا ديموقراطيا تحترم من خلاله حقوق المواطنة المتساوية للجميع دون تمييز والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة ودولة حيادية اتجاه الأديان وحريات عامة وخاصة مصانة.