من زوايا الذاكرة (١٨)

الدكتور جون نسطه

دخلت الى مدرسة المشاة في المسلمية في حلب، للمرة الثالثة، بعد عمليتين من التسريح من قبل وزير الدفاع، والالتحاق بمشفى المواساة الجامعي.لم أكن أعرف من رفاقي الأطباء في هذه الدورة احداً.

كان عدد الأطباء ثلاثة، وعدد المهندسين نفسه.

طلب مني الالتحاق بمهجع لبعض الأطباء بسعة ستين سريرا معدنيا ضيقا.

كان بجانبي مباشرة على جهة اليسار، طببب أسنان شاب في الثالثة والعشرين من العمر يدعى مازن بدر الدين علوش، طويل القامة جميل المحيا، أبيض اللون بل شاهق البياض، وعيون سوداء ،ينمان عن ذكاء واضح. كنت وأنا في الرابعة والثلاثين من العمر، بالنسبة له شيخا مهترئاً.

هذا المازن، الذي حاول بالبدء ان يسخر مني، بإساءات محرجة وتعليقات متذاكية، شاء القدر أن نصبح على علاقة متينة ولصيقة امتدت إلى يومنا هذا.

مازن كان خلال دراسته في جامعة دمشق، قريب من حركة فتح الفلسطينية،ودخل من خلالها في دورات تدريب عسكرية، رجل مؤمن بالله والآخرة. كنا نجلس لساعات طويلة في حوار ونقاش لا ينقطع، حاولت فيها أن أعرض له إيماني بالفكر الماركسي وبالاشتراكية العلمية، التي لم يسمع بها عن قرب سابقاً، مع الأيام، أصبح يصغي أكثر ويطرح أسئلة بغاية الاستفادة ،والتوغل في المعرفة. وعرفته أيضاً بأهداف حزبنا الشيوعي (المكتب السياسي)، وببرنامجه السياسي، الذي راق له كثيراً وأصبح من أنصاره.

وفي نفس المهجع تعرفنا مازن وأنا على شاب، طبيب مختص بالجراحة العصبية، خريج غلاسكو في بريطانيا، يدعى مهدي قسوات من دمشق. رجل أشقر الشعر، أزرق العينين، صاحب نظرة سريعة وثاقبة بنفس الوقت، معتدل القامة، يتمتع بحيوية فائقة، وبحركات سريعة، لطيف، مهذب، رقيق، قريب من القلب، مهضوم، سريع الملاحظة. في أحاديثنا معه تبين لنا أنه رجل مصاب بنوع من انفصام الشخصية، ما ان يبدأ الحديث عن الوضع السياسي، حتى يتحول من رجل عادي ومتوازن، الى رجل مصاب بداء العظمة المفرطة، وادعاء الزعامة على الشعب السوري بأكمله… وكان يقول أنا الدمشقي، صاحب البلد، وليس “الريفي الجاهل” الدخيل على دمشق.

وما إن ينتقل الحديث الى الجانب العملي اليومي حتى يعود الى طبيعته الاولى، براغماتي، عقلاني، يقدم خدماته ويعرضها علينا بكل أريحية. كان يرخي لحية على الذقن فقط، سكسوكة بالدارج. ومع الوقت أصبح اسمه بناء على اقتراحي، أبو سكسوكة. وبنفس الوقت تعرفنا على طبيب دمشقي حامل شهادة البورد الأمريكية، في اختصاص الأمراض الصدرية عند الأطفال، وهو إختصاص نادر جدا، ويدعى لؤي نصري، من سكان شارع أبو رمانة في العاصمة.

كان لؤي شاب طويل القامة، متين البنيان، طليق اللسان عند الحاجة، عميق المعرفة بالعلوم الطبية، مرح في وسط يعرفه، جاد في غير هذا الوسط.

كنا نستيقظ صباحا في الخامسة، ونغتسل ونلبس ثيابنا خلال عشرة دقائق لا غير، ثم ننضم الى صف التدريب، حيث يؤخذ التفقد،ونتوجه بعدها إلى رياضة الصباح، بعد تسجيل المرض، من قبل المرضى، ومن بعدها نذهب الى قاعات الفطور المقتصد، ثم الى قاعات المحاضرات، ومن بعدها الى التدريب العملي بأشكاله الأولى من المسير بالصف الى الركض، الى القفز فوق الخنادق الخ.

في احدى الصباحات جاء إلينا في الصف الصباحي مدير المدرسة وكان برتبة عقيد، وسأل عن أمهر الاطباء في هذه الدورة، فأجاب الضابط الملازم بأنه حسب معلوماته، هم ثلاثة، محمد مهدي قسوات، ولؤي نصري، وجون نسطة،فتوجه بنا الى مكتبه،وقال والدتي مصابة بإصابة فجائية  في رأسها، وأطبائها لا يعرفون إذا كان سبب الاصابة نزيف في أحد الشرايين، أم جلطة دموية. وأنا اريد أن تذهبوا معي الآن إلى منزلي في حلب وتفحصوها، وتشخصوا الإصابة. أطباءها لا يستطيعون العلاج الا بعد التشخيص.

توجهنا نحن الثلاثة بسيارته وبرفقته، وفي الطريق رجوته أن نتوقف عند أول صيدلية كبيرة، طلبت من الصيدلاني إبرة بزل قطني رفيعة، وتابعنا السفر الى المنزل،قام الدكتور مهدي، وهو جراح عصبية، بفحصها بشكل دقيق، ثم قمت أنا بإجلاسها على حافة السرير وعقمت لها ظهرها، وأدخلت الابرة بين الفقرات القطنية إلى القناة النخاعية وحصلت على السائل الدماغي، وكان ملوثا بالدم. فقلنا للعقيد،تشخيصنا الواضح هو نزف دموي،يقوم بالضغط على بعض المراكز العصبية في الدماغ، ويسبب بعض الفالج في الأطراف والوجه الخ.

كان سرور العقيد واضحا على محياه، فتقدم نحونا بالشكر الجزيل وقال أنا أمنحكم أجازة مفتوحة بكامل الدورة، تحضرون متى تشاؤون، وتتغيبون، بدون محاسبة، متى ترغبون.

وبالفعل أصبحت أنام، عند عائلتي في حلب في أكثر ليالي الدورة،ومدتها الاجمالية ثلاثة أشهر، داومت فيها دواما كاملا مدة عشرين يوما فقط.

تعرفنا في الدورة على طبيب، اخصائي في الأمراض الهضمية، خريج فرنسا، اسمه موسى حنا، أصبح من عداد شلتنا أيضا. وأصبح الدكتور مهدي قسوات يدعونا لتأسيس حركة سياسية بزعامته، وسميناها حركة التعاضد الوطني، برئاسة العضض الاعظم محمد مهدي قسوات، والعضض الأعظم المساعد الأيمن لؤي نصري، ومساعد العضض الاعظم الأيسر جون نسطه، باعتباره يساريا، ولؤي الدمشقي باعتباره يمينيا، ومجلس قيادي الأعضاض المؤسسين.

واعد لنا الدفتر الفلسفي للحركة، ونظاماً داخليا ايضا.

فيه تراتب العضوية على الشكل التالي، عضض، ومستعضض، اي مرشح للعضوية، وبصاص، أي من بدأ يرى أو يسمع بالحركة ويرغب بمعلومات اوفر عنها.

كنت أنا الدينمو المحرك لهذه الحركة، التي بدأت بتوسيعها وضمت أسماء عديدة، أذكر منهم الدكتور محمد سعيد النابلسي، وشقيقيه،العميد مصطفى، والعميد عبد الله، والصحفي والكاتب نصر الدين البحرة، والمؤرخ محمد محفل ومصطفى شاكر، وفيما بعد الدكتور هشام سنان والكثير الكثير من الاعضاض، واصبحنا نعقد اجتماعات موسعة، يلقي فيها العضد الأعظم خطاباته المزلزلة، شارحا أهداف وفلسفة الحركة،المعارضة للنظام اللا شرعي وأنه هو من سينقذ الوطن بأفكاره الحديثة والمجددة لروح الأمة،وسط الضحك والمزاح، والاستمتاع بالجنون.

بعد إنتهاء الدورة العسكرية في مدرسة المشاة توجهنا نحن الأطباء الى دمشق للمشاركة في دورة طبية عسكرية بإشراف رئاسة الخدمات الطبية في الجيش العربي السوري. وهناك بدأ الحديث عن الفرز المتوقع للأطباء على قطعات الجيش وعلى المستشفيات العسكرية في المدن.

كنت أرغب بفرزي الى مستشفى حلب العسكري، حتى استطيع متابعة عملي في المشفى الايطالي ومشفى الدكتور اسكندر قسيس في حلب. توسطت رجل الأعمال الكبير المتعهد المهندس مدحت أبو خاطر، ابن عمتي، رحمه الله ،بان يسعى لي بهذا المسعى. فتكلم مع مدير شؤون الضباط في الأركان العامة العميد ممدوح عبارة، طالبا منه فرزي إلى حلب،فوافق.

وبنفس الوقت سمع العقيد الدكتور مصطفى سلاخو،طيب الله ثراه، رئيس  قسم التخدير في مستشفى المزة العسكري، عن وجود طبيب تخدير في هذه الدورة،فرغب بفرزي الى هناك، لأنه كان الطبيب المختص الوحيد في ذلك القسم، ويرغب بمساعدة أحد غيره. تكلم هو بدوره مع قيادة الجيش وقائد الخدمات الطبية العميد ماجد العظمة، الشخصية البارزة، وصاحب النفوذ القوي بالجيش. قام ممدوح عبارة بمناورة ذكية عندما فرزني الى احدى القطاعات المقاتلة على الجبهة، وطلب مني عدم الالتحاق، على أن يقوم بنقلي من هناك إلى مدينة حلب.

باءت مناورة العميد عبارة بالفشل وتم فرزي إلى مشفى 601 مشفى القاعدة في المزة بدمشق، وسط انزعاجي، وخيبة أمل ابن عمتي.

قبل التحاقي بالعمل في مشفى المزة العسكري في المزة، سافرت برفقة الدكتور مهدي قسوات، على متن سيارته البيجو، الى حلب، لنقل العائلة، مع حوائجنا الشخصية، الى مدينة حمص، بيت العائلة. ومن ثم تابعت معه إلى مدينة دمشق.

التحقت بالعمل في بداية شهر كانون أول عام 1973، اي بعد انتهاء الحرب وبداية حرب الاستنفار. استقبلني الدكتور العقيد الدكتور مصطفى سلاخو، بالترحاب، ورافقني للتعرف على غرف العمليات في قسم الجراحة العامة والجراحة العظمية، وهم أربعة غرف، ثم عقد اجتماع لطاقم العاملين في قسم التخدير، من الطبيب المجند احمد كنامة، من مدينة دير الزور، والذي سوف يتسرح بعد أيام، ومن حوالي ثمانية ممرضي تخدير برتبة مساعد، ومساعد أول، يقومون عمليا بإجراء عمليات التخدير، ويستعينون وقت الحاجة بالطبيب المختص.

العقيد مصطفى سلاخو من قرية المليحة في غوطة دمشق، ويسكن فيها، اختص في بريطانيا وهو في مطلع الأربعين. رجل لطيف بل في غاية اللطف، مهذب، بعثي غير متعصب، مسلم غير ملتزم، صاحب نكتة، محبوب من قبل العاملين معه.

كنت أنام في هذه الفترة في فندق متواضع في شارع العابد فوق بار فريدي، الذي كان زواره غالبا من مثقفي دمشق وشعرائها، ونشأت بيني وبين صاحب الفندق أبو سفيان، بسرعة،علاقة مودة وصداقة، وأصبح يقدم لي خصومات سخية على أجور الغرفة، التي أقيم فيها، لقاء تنظيم دفاتر دخول الفندق، ومصاريفه، لأنه كان شبه أمي، أو هكذا يتظاهر، لأنه فوضوي وماجن.

بدأت بالبحث عن سكن أنقل إليه عائلتي إليه بدمشق، من مدينة حمص. يساعدني في ذلك رفيقي العزيز أبو إبراهيم، ميخائيل ديب، الذي عثر على بيت يقع في حي القصاع، امتداد شارع بغداد، بعد المشفى الفرنسي بمئتي متر، مقابل كنيسة الصليب.

بيت متواضع الفرش إلى أبعد الحدود الممكنة، مؤلف من ثلاثة غرف مع غرفة جلوس وحمام ومطبخ صغيران، لا تصل الى أغلب غرفه الشمس، بعض حيطانه مصابة بالرطوبة. واجرته 320 ليرة سورية بالشهر الواحد. وراتبي من الجيش كان حوالي 120 ليرة بالشهر، وفي الشهر الاول كان 30 ليرة بعد خصم ثمن البدلة العسكرية، برتبة مرشح ضابط.المهم نقلت عائلتي إلى البيت الجديد وبمساعدة الدكتور ابو سكسوكة مهدي قسوات وسيارته الخاصة.

علاقتي الحزبية الرسمية استمرت عن طريق الرفيق أبو ابراهيم، الذي في يوم من الأيام دعاني للمشاركة في اجتماع لأصدقاء الحزب في بيته الواقع في حي القصاع، قصور، ويشارك فيه الرفيق ابراهيم بكري عضو المكتب السياسي، وطلب مني أيضا أن ألقي كلمة تدور حول قيادة خالد بكداش السلبية في تاريخ الحزب الطويل. حضرت الاجتماع ومعي صديقين للحزب أحدهم الدكتور مازن علوش، الذي كان يجلس بجانبي مباشرة. ألقى الرفيق ابراهيم بكري كلمة مطولة عن نشاط الحزب الحالي وعن خطه السياسي الجديد، وبعدها قام عريف اللقاء بتقديمي باسم مستعار، أبو فهد، لالقاء كلمتي… بدأت بالحديث، وإذا بالدكتور مازن يشدني من جاكيتي طالبا مني الجلوس، لافساح الكلام لأبي فهد. لم يكن يعلم بأنني أبو فهد. الاجتماع كان ناجحا، وشارك فيه الحضور بطرح الاسئلة والنقاش من خلالها. الاسم المستعار كان مرده، بعدم السماح، من قبل النظام، للمجندين بالجيش، من ممارسة السياسة.

وبالعودة الى العمل، بعد ان تأكد الدكتور مصطفى سلاخو، من مقدرتي النظرية والعملية أصبح يداوم على العمل بشكل متقطع ولساعات قليلة،معتمدا علي.وبعد فترة قصيرة صار يجلسني على كرسيه الكبير المتحرك في صدر مكتبه، ويجلس هو بجانبي على كرسي عادي، ولما كان يأتي أحد المساعدين بطلب استشارة أو سؤال، كان يقول له اسأل المعلم، مشيراً إلي. تطورت العلاقة بيننا إلى درجة الثقة الكاملة والصداقة مع الأيام.في بيتي الجديد كانت تعقد سهرات لطيفة جدا يحضرها بشكل متزايد عدد من مثقفي دمشق وظرفاءها، أمثال نايف بلوز وممدوح عدوان ومازن علوش، وعلي كنعان ونصر الدين البحرة، والدكتور سعد النابلسي وغيرهم. ولم أكن أدعو الدكتور مصطفى، لانه رئيسي، وأنتظر المبادرة منه. حتى دعاني لأول مرة الى العشاء في مطعم القصور في الغوطة الغربية، وبعدها تتالت دعواته من قبلي.

من العدد ٦٠ من جريدة المسار