من زوايا الذاكرة (٦)

الدكتور جون نسطة

وصلنا إلى مدينة لايبزغ الشهيرة في تاريخ ألمانيا، فيها جامعة تأسست قبل 850 سنة،وفيها تقع اول مطبعة في العآلم،ويقام فيها في السنة الواحدة معرضان،تجاري وصناعي في الربيع والخريف،بالاضافة الى معرض الكتاب.وفيها ايضا اثار لتواجد الأديب الألماني الأكبر غوته، مثال القبو الحانة كان يزورها لتعاطي خمرته الممزوجة بالماء والمعروفة،اي الحانة،عالميا تحت اسم Auerbachs Keller.

وفي بداية الستينات بنيت في لابزيغ دار أوبرا كبيرة بعد تهدم السابقة بقنابل الحرب العالمية الثانية.

التحقنا بمعهد هيردر لتعليم اللغة الألمانية، وأقمنا في بيت للطلبة قريب جدآ من المعهد الذي يشكل المكان الرئيس لتعليم اللغة لكل طالب أجنبي يرغب بالدراسة في ألمانيا الديموقراطية.

كان فريقنا من أكبر الفرقاء الأجانب في المعهد وكنا لا نزال نطلق على أنفسنا اننا من لبنان بناء على توصية رفاقنا الألمان حرصا على علاقتهم الرسمية مع الجمهورية العربية المتحدة.

كان الدوام من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية عشر ظهرا ثم فرصة غذاء تمتد حتى الثانية بعد الظهر نعود بعدها إلى المدرس حتى الرابعة بعد الظهر. كان المطعم يقع في نفس بناء مسكننا ويقدم ثلاث وجبات يومياَ. طعام الغذاء كان فيه حرية الخيار لثلاثة أطباق مختلفة وذلك لقاء سعر يكاد يكون رمزيا.

في الفصل الأول من أيلول حتى شباط كانت الدروس كلها منصبة على اللغة …قواعد تمارين …محادثة وكتابة إنشاء. وفي الفصل الثاني بدأنا نتلقى دروسا تتعلق بمواد علمية من علم الاحياء لمن يرغب بدراسة الطب وفيزياء ورياضيات لمن يرغب بدراسة الهندسة وهكذا.

 وعدد من الرفاق الصغار السن الذين لا يحملون شهادة البكالوريا، أن يدرسوا في المدرسة الشعبية العليا لتحصيل هذه الشهادة التي تأهلهم لدخول الجامعة ولهذا لم نتمتع بعطلة دراسية على الاطلاق.

في بداية الفصل الثاني أيضآ، خصص لنا أستاذا رقيقا، مهذبا، ودودا، مثقفا ماركسيا يناقش معنا في الساعة الأولى الموضوعات الاساسية المطروحة في جريدة الحزب الاشتراكي الموحد ألمانيا الجديدة وفي مقدمة هذهِ الموضوعات كانت الأوضاع في جمهورية الكونغو ونضالات القائد الكبير لومومبا، الذي كان يناضل من أجل استقلال وحرية بلاده من الاستعمار البلجيكي الشرس.

وبعدها في شهر كانون الثاني من العام 1961 جرى اختطافه وقتله على يد العميل موريس تشامبي، على أثر ذلك أطلق اسم لومومبا على معهد اللغة وعلى اسم الشارع، الذي يقع عليه المعهد وأقيم له تمثالا في نفس الشارع.

كان راتبنا المنحة المجانية، الشهري، يبلغ 280 مارك، ندفع مبلغ 10 مارك أجرة شهرية للسكن ومثله اشتراكا حزبيا. وكنا منظمين في فرق حزبية تضم 5الى6رفاق، تعقد اجتماعا دوريا كل اسبوع، يجري فيه الحديث عن السياسة وموقف الحزب من الاحداث، وعن الحملة المستمرة من اجل إطلاق سراح الرفيق فرج الله الحلو، علما بان قيادة الحزب كانت على معرفة اكيدة باستشهاده، وهذا شيء لم أرضي عنه بقرارة نفسي، وشكل لي أزمة داخلية، ولكن هكذا كانت تقتضي السياسة.

ويجري في الاجتماع بحث الأوضاع الدراسية لكل رفيق على انفراد، وحث الجميع على الإجتهاد، ومساعدة من يحتاج لدعم او دروس اضافية من قبل الرفاق المتمكنين.

كانت قيادة الحزب قد اتخذت قرارا ينص على ضرورة ان تكون الدراسة الجامعية لكل الرفاق محصورة بالدراسات العلمية، هندسة، فيزياء، كيمياء، الخ.

كنت أميل إلى دراسة التاريخ أو الفلسفة أو علم الاجتماع والسياسة وكان هذا أمرا مرفوضا فتوجهنا، أنا وبعض الرفاق بسؤال الى القيادة عن امكانية دراسة الطب فكان الجواب لا مانع.

كان الرفيق طيب تيزيني،الذي كان يرغب أيضا بدراسة الفلسفة مضطرا مثلي لان يدخل الى كلية الطب مع عدد لا بأس به من الرفاق. ولكن وفي نهاية الفصل الأول، أصبح مقتنعا، عمليا، بأنه غير مؤهل على الاطلاق لهذه الدراسة، وانتسب بعدها باستثناء إلى كلية الفلسفة. كان الطيب رجلا مجتهدا دؤبا، منكبا على القراءة والدرس. أذكر أنه أمضى مدة ثلاثة شهور يقرأ في كتاب أصول الماركسية اللينينية. كان يحفر بالصخر كل حياته العلمية.ولم يكن مهتما بالعمل الطلابي، ولم يكن يسعى الى مناصب حزبية.

في بداية الإنتقال إلى الجامعة كان علينا أن ندرس اللغة اللاتينية، بشكل مختصر، وبالجانب الذي يتعلق بدراسة الطب.

خلال عام كامل تعلمت اللغة الألمانية بشكل متقن وحصلت على بكالوريا ألمانية، وانهيت دورة لتعلم اللاتينية المختصرة. ولم أتمتع بإجازة صيفية طبعا.

في شتاء العام 1960 على العام 1961، مرت على مدينة لا يبزغ موجة صقيع غير معهودة وصلت فيها درجات الحرارة الى عشرين تحت الصفر وأحيانا أكثر مترافقة بكميات عالية من الثلج مما ادى الى توقف الدراسة، وإغلاق المدارس والعديد من المؤسسات والشركات توفيرا للطاقة. كانت الثلوج متراكمة على الطرقات والارصفة، بشكل يعيق السير. قامت منظمتنا الحزبية بالتطوع إلى جانب الشبيبة الالمانية الحرة لتنظيف الشوارع والارصفة من الثلج والصقيع لمدة إسبوع، مما ترك أثرا طيبا لدى رفاقنا الألمان.

بدأ الفصل الأول بكلية الطب بدراسة التشريح، والفيزياء البيولوجية والكيمياء البيولوجية وعلم الوظائف وهو علم هام جدا بثقافة الطبيب.

كنا 600 طالب مقسمين الى قسمين وكل قسم موزع على فصائل عديدة تضم كل منها 20 حتى 25 طالبا. يجتمعون لبحث أوضاعهم الدراسية والسياسية وترتيب مواعيد الفحوص.

من الجميل أن اذكر أن هذا الفصيل الذي يضم أيضا طلابا اجانب، كان يسمي طالبا ألمانيا بصفة الراعي يساعد كل طالب أجنبي خلال فترة الدراسة.

كان من نصيبي شاب ألماني يدعى هايلمان. من صفاته الجدية في كل المواقف لا يعرف الضحك ابدأ ولا يشارك باي حديث إجتماعي،متمكن من الفيزياء والرياضيات منكب على الدراسة بشكل دائم.كان يشرح لي أحيانا بعض الامور المعقدة والتي كان لها علاقة بعلوم الفيزياء .

في بداية الفصل الأول انتقلنا عون وأنا إلى بيت للطلبة مشاد حديثا قريب جدا من كليات الطب ويضم طلابا من كل بلاد العالم ومنهم اردنيون، وعراقيون، ولبنانيون، وكلهم تقريبا كانواْ شيوعيين يدرسون على حساب جمهورية ألمانيا الديموقراطية. في هذا البيت الحديث كانت أغلب الغرف مجهزة لطالبين، ومن الطبيعي ان يكون صديقي عون شريكي في هذه الغرفة.

في هذا البيت كان هناكَ مكتبا يمثل عمادة الجامعة، ووزارة التعليم العالي يرعى أمور الطلاب من كل النواحي الدراسية والاجتماعية ويتقبل الشكاوى والطلبات ويرأسه رجل إسمه فيشر، صاحب قرار ودراية بكل أمور عمله منفتح ومتفهم.

في هذه السنة قمنا بتأسيس أول رابطة للطلاب السوريين في لايبزيغ وكنت انتخب دائما لعضوية هيئتها الإدارية، وأحيانا لرئاستها.

وعلى النطاق الحزبي لابد من ذكر أنه في لايبزيغ كان هناك منظمة حزبية صغيرة قبل حضورنا نحن إلى هنا يرجع تأسيسها إلى العام 1957، بمبادرة من الرفيق خير الدين جبريني، والتي كان من عدادها على ما أذكر الرفاق جورج هزيم ديب ومروان بالي وأحمد رسول وأخرين. تم ضمهم الى المنظمة وتوزيعهم على فرق حزبية متعددة.

على رأس هذه المنظمة الكبيرة نسبيا تشكلت قيادةٍ، على الطريقة الستالينية البكداشية، أي بدون انتخابات او مشاورات مع كل الرفاق، مؤلفة من الرفاق عبد الله حنا، رئيسا، وسلطان ابازيد، وزياد إدريس وجون نسطه، وتكليف الرفيق عون جبور بمهمة مسؤول مالي، نظرا لدقته ومهارته في هذا المجال، دون ان يكون من عداد الهيئة القيادية تلك. كانت الفرق الحزبية تنتخب أمينا لها ومسؤولا ثقافيا وكذلك ماليا وتكتب تقريرا عما دار في اجتماعاتها الدورية وكان أعضاء قيادة المنظمة يتوزعون بنفس الوقت على عضوية الفرق الحزبية هذه لضبط الأمور كليا.

كان رفاقنا من مجموعة لبنان قد توزعوا بقصد الدراسة على عدة مدن ألمانية اهمها دريسدن وروستوك وبرلين وانتظموا هناك حزبية. ولهذا كان هناك لجنة حزبية عليا تشرف وتقود كل المنظمات في ألمانيا الديموقراطية وكانت مؤلفة على ما أذكر من الرفاق الدكتور احمد فايز الفواز، رئيسا، وخير الدين جبريني، وعبد الله حنا، ومطانيوس عقل.

كان على طلاب الجامعات الالمانية القيام في شهر أيلول من عام بمساعدة الجمعيات التعاونية الفلاحية على قطاف البطاطا الغذاء الرئيسي وتجميعها باكياس، ليتم توزيعها على المدن الالمانية المختلفة.

لم يكن هذا الواجب مفروضا على الطلاب الأجانب. ولكن منظمتنا الحزبية قررت بأن يقوم كل الرفاق بالتطوع والمشاركة في هذا العمل.

من العدد ٤٨ من جريدة المسار