ماهو السلام العادل؟

حول مقال الصحافي والكاتب  جان – آرنو ديرانس في اللوموند ديبلوماتيك الشهرية \نوفمبر2025 )

تقديم وعرض د. منذر ابومروان اسبر 

14_ 11_2025

مع نهاية الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة عرفت يوغسلافيا التي كانت مؤلفة من ست جمهوريات اشتراكية وهي البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود وسلوفانيا توترات عاصفة فيها أدت إلى تفككها .

ولقد بدأ هذا التفكك مع حرب البوسنة والهرسك عام ١٩٩٢ـ ١٩٩٥، الحرب المتداخلة مع الحروب  الأخرى التي نشبت على أثر المتغيرات الدولية الجديدة .

فحرب البوسنة والهرسك أدت إلى مقتل مايقارب ١٠٠٠٠٠ شخصا ونزوح الملايين من ديارهم وانتهت باتفاقيات دايتون حول السلام عام ١٩٩٥ بينما أدت التوترات بين الصرب والألبان والكوسوفو الى حرب طوال عامي ١٩٩٨ـ ١٩٩٩ وتدخل الناتو بقصف صربيا عام١٩٩٩ .

وإذا كانت الصرب قدعرفت خسائر مادية وبشرية فادحة فقد عانى الكوسوفيون والبوشناق صنوف التهجير والإبادة الجماعية  .

ولقد تخللت هذه الحروب مختلف المفاوضات السرية وسواها التي لم تجد حلاً  دون تقسيم يوغسلافيا وكان الخاسر الأكبر فيها الشعوب البلقانية .

هل تم السلام العادل في البلقان ، وهل  بالإمكان إقامة السلام العادل  ؟

هذا ما يطرحه الصحافي والكاتب  جان -آرنو ديرانس في اللوموند ديبلوماتيك الشهرية- نوفمبر 2025 قائلا :

“المفاوضات والمساومات شاركت دائما في فن الحرب ، الا إن النزاعات لاتنتهي باتفاقيات سلم حقيقية ” . هذا ما يطرح مسألة راهنة اليوم وغدا ،ألا وهي كيف نصنع السلام ، لماذا ؟ 

لأن المفاوضات التي تمت تتعلق باتفاق تقني حسب الكاتب لايقاف إطلاق النار والذي يعطي عليه  مثال  الحرب في الكوسوفو ، مؤكداً أن عملية التفاوض تمت في ثكنة عسكرية في مقدونيا باسم حلف الأطلسي ممثلاً بالجنرال البريطاني ميخائيل جاكسون وبين  الجمهورية الفيدرالية اليوغسلافية ممثلة بالجنرال ستيفوزار مارجنوفيتش، تفاوض لانهاءالقصف الجوي الأطلسي على الصرب  وانسحاب القوات اليوغسلافية من الكوسوفو وتحديد منطقة أمن عازلة بخمسة كيلومترات بسكوت المفاوضين عن  الوضعية القانونية للكوسوفو نفسها .

  والحقيقة ان وقف إطلاق النار كان  مساومة تنزع عن الكوسوفو الإدارة اليوغسلافية  بابقائها  تحت السيادة الصربية بحيث أن التعارض بين الإدارة والسيادة استمر يرهن مصير هذه البلاد الصغيرة بالأخطار عليها ،  وكان أن أعلنت الاستقلال عن يوغسلافيا عام ٢٠٠٨، الأمر الذي  رفضته بلغراد .

والواقع أنه تم لقاء مغلق بين وفد حربي صربي مع وفد آخر كوسوفي في قصر رامبوييه الفرنسي ، إلا أن الأمر لم يكن يتعلق يتفاوض حقيقيى وانما بقبول الوفدين  إطار تسوية غربية  ، رفضه الصربيون بحجة القصف الجوي الأطلسي عليهم .

الإشكالية في هذا كله، كما يشير الكاتب ، تكمن في أن الدول القوية تعيش الوهم بإمكانية التفاهم فيما بينها بعيدة عن أنظار الشعوب وعن عدسات  الإعلام وعن رقابة البرلمانات المنتخبة  لإيجاد حل لخلاف معقد أصابه الاستعصاء. لذا  استمرت اللقاءات السرية طوال عشر سنوات من التوترات  والحروب البلقانية لتجعل من التقسيم الإتني والديني محطتها .

 فالخطة الأولى للسلام  قبل أن تغرق البوسنة والهرسك في الحرب قدمها الدبلوماسي البريطاني بيتر كارانتجون بما ينص على تقسيم البلاد إلى مناطق كرواتية وصربية ومسلمة.  

وفي جانفييه 1993قدم الدبلوماسي البريطاني دافيد اوين  والدبلوماسي الامريكي  سيروس فانس خطة بتفويض من الأمم المتحدة ،يقسم البوسنة والهرسك الى 10كانتونات شبه مستقلة وذلك على الركيزة الاثنية .

وفي 30 تموزطرحت 3 جمهوريات مستقلة عن بعضها بعضاً بينما دخل الأمريكيون والروس عام 1994 في المفاوضات المباشرة لتقديم تسوية لحكومة زغرب ، ماهي ؟ 

 إنها اقناع الميليشيات الكرواتية في البوسنة والهرسك  باتفاق  مع ساراييفو مقابل مساعدة الأمريكيين لزغرب  في استعادة المناطق الكرواتية التي يتواجد فيها صربيون انفصاليون .  وبهذا فإن التسوية الأمريكية التي أبرمت في 8 آذار من نفس العام قد أوجدت فيدرالية بوسنية – كرواتية. 

لكن مجموعة الاتصال التي ضمت كلا من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا قد قدمت  استكمالا للخطة الأمريكية ، اقتراح تقسيم  تنتصب أرجله على   49% من الاراضي للجمهورية الصربية (في البوسنة) و51%للفدرالية الكرواتية -البوسنية ، وكان أن تم اعتماد ذلك في المفاوضات التي تمت في نوفمبر 1995على قاعدة دايتون العسكرية .

بيد أن هذا “الاتفاق  يطرح اليوم كنموذج سئ للسلام ، لأنه قدّم تنازلات كبيرة للطرف الصربي في حين أن القوات الكرواتية – البوسنية التي سلّحها الغرب ،كان بمقدورها “تحرير البوسنة والهرسك “، الأمر الذي يقود إلى العودة  إلى مسار الأحداث .

ففي 11تموز1995قامت وحدات عسكرية بقيادة الجنرال باتكو مالوفيتش بالاستيلاء على القطاع البوسني لسريبرينيكا وقتل اكثر من 8000شخصا لأن سريبرنيكا كانت تشكّل عقبة في وجه إقامة تقسيم  لوحدات جغرافية متجانسة إثنياً ولم يعرف حتى اليوم  محتوى المفاوضات السرية التي سبقت هذا الاستيلاء  .

وفي 4آب 1995قام الجيش الكرواتي  بضوء اخضر أمريكي بعملية عسكرية ” العاصفة “، سمحت له أن يستعيد أراضي كراجيانا التي كانت محتلة منذ أربع سنوات من قبل الانفصاليين الصرب  ، عملية  ترافقت بقتل الآلاف من الابرياء وهجرة مايقارب 200000مدنيا ، واستمرت العملية العسكرية  لتقوم القوى الكرواتية -البوسنية ،  بالاستيلاء على كامل هرسك والبوسنة .

واليوم فإن مثال دايتون عن السلام يستخدم للقول أن أي سلام لايمكن أن يكون مستمرا في أوكرانيا دون هزيمة كلية وشاملة لروسيا .

بيد أن المقارنة بين صربيا ودولة نووية مثل روسيا هي “مخاطرة ” لأنها لا تعتمد في العلاقات الدولية إلا على سحق طرف للطرف الآخر أوتغيير النظام  .

غير أن حل  السلام يجب أن يتضمن التوقف الفعلي عن إطلاق النار لفتح الطريق نحو المفاوضات ونحو دينامية المصالحة ، وليس لنفق الانتقام والثأر .

فحتى الأنظمة التي ندرت ديمقراطيتها يمكن لها حسب الكاتب أن تستفيد من ميزات  هذا الحل في حين أن تغيير النظام يمكن أن يتم  مع مسار دينامية  السلام  نفسه عوضاً أن يكون شرطاً مسبقاً لهذا ا المسار  .

ثمة أن العلة الكبرى لاتفاقيات دايتون – باريس لا تكمن في اعطائها حصة جغرافية  أكبر للصرب،  وإنما لأنها اتخذت من المسؤولين عن الحرب صنّاعا للسلام ، المسؤولين الذين كانت التوترات الدامية في خدمتهم مع الأحزاب الاثنية – القومية التي تدّعي  أنها ممثّلة لجماعاتها الإثنية بما أكد سلطتهم في ملحق تلك الاتفاقيات، كدستور انتقالي مؤقت  حال دون أية  امكانية تعديله وكشف عن استحالة تغييره بعد ثلاثين عاما.

باختصار لقد تم نقاش سلام دايتون سرياً وفي قاعدة عسكرية بعيدة عن الأضواء وتم فرضه على مواطني البوسنة والهرسك ليشكل جدارا ضد السيادة  الديمقراطية . 

ولامندوحة عن القول إن اتفاقاً إضافياً قد تم انجازه على هامش مفاوضات دايتون في قرية ايرودت الكرواتية حول مسألة سلوفانيا الشرقية – الجزء الآخر من كرواتيا – التي يحتلها الانفصاليون الصرب وسمح أخيرا بالابقاء على جماعة قوية صربية فيها.

وهنا وبالرغم من زلزال النزاع يشير الكاتب أن اقليم فوكوفار قد فرض نفسه في بداية أعوام الألفين وذلك كنموذج ناجح  نسبيا للتعددية الاثنية التي أرادها المجتمع الدولي .

ماهو الوضع البلقاني اليوم؟ 

يؤكد  الكاتب  أن  إعادة التقسيم الحدودي تعود إلى البروز  . فاحتمال إعادة التقسيم  مع فترة ترامب الرئاسية الأولى حول الكوسوفو تهب رياحها اليوم مع فترته الرئاسية الثانية سيما وأن الرئيس القومي الصربي ميلوراد روديديك يأمل بدعمه لترامب ان يعمل هذا الأخير بإعادة التقسيم  “لإقامة حدود  صحيحة ” ترتكز  على الوحدة الإثنية  وضمان هذه الوحدة نفسها للسلام والاستقرار.

لايوافق المؤرخون والجغرافيون على ذلك لأنهم يعرفون أن “الحدود الصحيحة”  لاتوجد لماذا ؟ لان الحدود مسألة موازين قوى ، في الوقت الذي لايوجد فيه  من مثال يؤكد أن المكونات الإثنية  المتعددة لبلد كسويسرا أقل ديمقراطية وازدهارا من دول أخر أحادية الإثنية في بعض البلدان الإفريقية التي رسمت حدودها الخرائط الاستعمارية .

هل الأمر يتعلق أنه لاوجود لسلام أو أمن إلابحدود سكان متجانسين إثنياً أو دينياً؟ كلا فهذا وهم بل إنه فخ ينصب لهذه الدولة أو تلك لأن الأمر يتعلق لابتعددية الإثنيات أو الأديان وإنما  بشرعية الدولة التي يقرها المواطنون جميعا بمايجعلها قابلة لحياة السلم والسلام فيها .

في الرسالة التي وجهها مارتن لوثر كينج  من سجن بيرمانغام عام 1963 يقول بالتمييز بين “السلام الفعلي” و”السلام السلبي”، فالسلام الفعلي هو سلام غياب النزاعات أما السلام السلبي فهو الذي ينتج عن المفاوضات السرية ” التي  يتم فيها تقسيم الشعوب ، الأمر الذي يجب فضحه من قبل الاعلاميبن والمنظمات المستقلة غير الحكومبة والديمقراطيبن .

واذا كانت مقولة ايف لاكوست أن الجغرافيا تستخدم لإقامة الحروب أولاً ،  فلا بد  من القول أن رسم الخرائط السياسية  لهذه الجغرافيا إنما  يستخدم غالبا لتبرير السلام السئ المنكود  بحيث أن البوسنة والهرسك  والكوسوفو تشكل مخزن تفجر للبلقان آجلاً أن عاجلاً .

 أخيراً من هو الرابح في الحروب البلقانية  ؟ أنها أمريكا بالدرجة الأولى والتي عززت  نفوذها في البلقان ، النفوذ الذي نجده أيضا في الشرق الأوسط والذي يرسي الهيمنة  عليه ، والتدليل على أن  أية هيمنة كانت مترافقة مع الحروب ضد الشعوب ولتقسيمها .

————————————————————————————————-