رغبات مفارقة – مصطفى سعد

الاستبداد والقمع لسنوات وعقود من الزمن أدخلت البلاد في غوما (غيبوبة) سياسية، فعلى الرغم من وجود عشرات آلاف معتقلي الرأي من مستقلين وأحزاب خلال حكم حافظ وبشار الأسد، إلا أنه لم تكن هناك حياة سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة.

ولم تُمارس السياسة إلا بشكل سري اقتصر على توزيع مناشير وكتابة صحف سرية أيضا وسرد وتحليل للأخبار الداخلية والخارجية، على الرغم من اهتمام المواطن السوري بالصحف والأخبار المحلية والإقليمية والدولية.

وبسبب غياب الصراع السياسي والحياة السياسية غالبا ما كانت السياسة تقرأ وتحلل عبر الأماني والرغبات، لا اعتماداً على الفهم العميق والموضوعي لإمكانيات الناس وتوازن القوى الإقليمية والدولية وقراءة الوقائع بشكل موضوعي وعلمي.

ليس على صعيد الناس فقط بل حتى على مستوى النخب والأحزاب.

في آذار من عام 1979 على سبيل المثال كانت افتتاحية جريدة الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) تشيد بالثورة الإيرانية وترى أن رياح الحرية قادمة إلينا من الشرق وهذا ما اعترض عليه الراحل الكبير إلياس مرقص الذي كان خارج الحزب تنظيمياً.

في ذات العام الذي احتفل فيه قسم كبير من قوى اليسار وجماهيره بسقوط عميل الامبريالية محمد رضا بهلوي، كانت القوى الإسلامية وأتباعها يعدون الأيام المتبقية لحكم حافظ الأسد ويتحدثون بثقة عن مرحلة قادمة قريباً جدا تكون سوريا تحت حكم عدنان عقلة كرئيس للجمهورية ووزير الدفاع فيها إبراهيم اليوسف.

لم يطل الزمان حتى خاب أمل الطرفين السابقين وحطم الواقع تصوراتهم، ومع اعتقال الأسد لمعارضيه من كل التيارات وقصف حماه في شباط 1982 عم الصمت البلاد حتى عام 2000،الذي شهد انهيار شعار قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد، هذا الشعار كان يعبر عن رغبة قسم من السوريين أيضاً.

راهن القسم الأكبر من المعارضين والمثقفين على العهد الجديد مؤكدين أنه عهد إصلاحي فيه قطيعة مع العهد السابق وليس استمرارا له، الرغبات والتفكير الرغبوي لا يعني عدم وجود حيزا بسيطاً من الموضوعية.

انتشرت المنتديات الحوارية وبدأ نشاط المجتمع المدني في سوريا ليصرح وزير الاعلام السوري عدنان عمران في 29 كانون الثاني 2001: “نشطاء المجتمع المدني هم دعاة استعمار جديد” وبعدها بأيام وفي 18 شباط تحديدا يجري اجتماع بين نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام مع أساتذة جامعة دمشق ليقول: “قد يكون هناك خلل ما في هذه المؤسسة أو تلك، نناقش الخلل لكن لا ننسف ما هو قائم. هذا يجب أن يكون واضحا لأننا لا نسمح بشكل من الأشكال أن تتحول سوريا لا لجزائر ولا ليوغسلافيا ولا غيرها. هذا الأمر يجب أن يكون واضحا ومسؤولية المثقفين أن يساعدوا في تعزيز الوحدة الوطنية وفي تطوير المجتمع الوطني في البلاد”.

وتم القضاء في الشهر نفسه على ربيع دمشق وبدأت حملة الاعتقالات التي أكدت أن نظام بشار الأسد استمراراً لنظام أبيه.

بعد غزو العراق واغتيال الرئيس رفيق الحريري مر نظام الأسد بفترة ضعف أوهمت معارضيه بسقوطه وأيضا بدأت التحليلات التي تقول شهر ويسقط النظام ليرد آخر بل أقل من شهر، توالت الشهور والسنوات حتى بدأ الربيع العربي.

وصل لسوريا وقال رأس النظام ” رياح التغيير لن تمر بسوريا” وقسم كبير من معارضيه توقع سقوطه خلال الأيام أو الأسابيع الأولى لانتفاضة درعا.

مرت رياح التغيير لكن النظام لم يسقط إلا بعد 14 عام عرف السوريون خلالها كل أشكال الموت.

14 عام والتحليلات الرغبوية على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، مساء 7 كانون أول 2024 يخرج إعلامي ببث مباشر يقول فيه أن الأمور كلها تحت سيطرة الجيش العربي السوري وأن القوى الإرهابية ساعات معدودة ويتم القضاء عليها ودحرها.

سقط النظام وتحررت سوريا من آل الأسد، وصلت هيئة تحرير الشام للحكم في بلد مدمر وممزق غارق في الديون ونسيجه الاجتماعي مهدد بالتفكك مع وجود عناصر أجنبية ترفض الحل السياسي ووجود تنظيم داعش، يضاف إليها فلول النظام السابق.

هذا الإرث الثقيل تم التعامل معه بجدية أقل مما يجب وظهر ذلك بمؤتمر الحوار والإعلان الدستوري، إجراءان شكليان لا يليقان بتضحيات الشعب ولا يبنيان بلد ديمقراطي.

زاد بلل الطين التأخير في ملف العدالة الانتقالية والذي قد يكون السبب في الرد الشرس وقتل الكثير من المدنيين الأبرياء بعد حركة الفلول في الساحل يوم 6 آذار وكذلك تعاطي السلطة مع ملف السويداء.

تستغل السلطة وجمهورها الدعم الأمريكي_ التركي_ السعودي، لتبدأ بمشاريع رغبوية غير واقعية في ظل الظروف الحالية، أقلها الوعود منذ الأسبوع الأول بزيادة رواتب 400 بالمئة والحديث عن استثمارات ومستثمرين حتى أن أحد صحفيي السلطة تحدث عن إحتمالية استضافة كأس العالم عام 2038 وحملات تبرع بملايين الدولارات بينما لا يزال أهل الخيام في خيامهم.

فشل السلطة في بسط الأمن وعدم إشراك القوى السياسية وقوى المجتمع المحلي في السلطة فسح المجال للرغبات الإيديولوجية ما دون الوطنية (مناطقية، طائفية، قومية) بالظهور والتمدد لتتلاعب بعقول الكثيرين وتبيعهم أوهام وخيالات لا أساس لها.

خطاب يخلق سرديات تناسب ميوله، يًزوِر الواقع أو على الأقل لا يحكم بموضوعية وعقلية علمية على المعطيات والمدخلات فيؤدي ذلك لمخرجات تزيد من المخاطر وتزيد من التهديدات لحياة الأبرياء.

لن تقوم دولة في الساحل ولن تكون دولة اسمها باشان ولن يفيد الدعم الغربي في تثبيت السلطة ما لم تعمل لعقد مؤتمر وطني جامع لكل القوى السورية ولتفعيل مسار العدالة الانتقالية لبناء دولة المواطنة والقانون بنظام حكم ديمقراطي.

وخلق حياة سياسية حقيقية منظمة تكون وتؤسس فيها الأحزاب والقوى بشكل علمي وبنى ديمقراطية.

كل ما عدا ذلك سيؤدي لمزيد من البؤس والتخلف والدمار فالمجتمعات والدول لا تبنى بعقلة رغائبية كعقلية من يعتقد أن الذي أعدم في يوم 30 كانون أول 2006على يد القوات الأمريكية هو شبيه صدام حسين وأن القذافي في مكان “ما” ولم يمت وأن اغتيال حسن نصر الله تمثيلية وسيظهر في الوقت المناسب وأن ماهر الأسد سيحكم الساحل وسيكون سهيل الحسن وزير دفاع.