مجلة:” فورين بوليسي ” مسألة وسؤال حق إسرائيل في الوجود

النص للكاتب والأستاذ المتقاعد من جامعة بنسلفانيا :آيان لوستيك

تاريخ المقال:1 آيلول 2025 ، رابط المقال: https://foreignpolicy.com/

  • هيئة الترجمة في الحزب الشيوعي السوري(المكتب السياسي)

بعض الناس حول العالم، بمن فيهم اليهود الداعمون لإسرائيل، يطرحون أو يُطرح عليهم سؤال ما إذا كان لإسرائيل حق في الوجود بعد الآن. تنتشر هذه الحوارات الخاصة والعامة نتيجة لحرب غزة ومستويات العنف والدمار التي تصل إلى حد الإبادة؛ هجوم إسرائيل على إيران وتوسعها في سوريا؛و رفض إسرائيل تقديم أي خطة سلام مع جيرانها؛ وقمعها للفلسطينيين في الضفة الغربية بنظام فصل عنصري .

جوابي على هذا السؤال هو: نعم، لدولة إسرائيل حق في الوجود، لكن نظام إسرائيل الذي يقوم على “امتياز يهودي-صهيوني” قد لا يكون كذلك.

معظم الناس لا يفكرون مثل السياسيين، وهذا يعني أنهم يخلطون بين فئات السياسة دون إدراك. الدولة هي كيان محدد جغرافيًا ومعترف به كعضو في الأمم المتحدة أما النظام فهو النظام القانوني داخل الدولة الذي يحدد ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به من قبل مؤسساتها وكيفية اختيار الأشخاص لشغل المناصب وآداء الوظائف المصرح بها. الحكومة هي المجموعة المحددة من الأفراد الذين يشغلون تلك المناصب في وقت معين ويتخذون قرارات السياسة.

كمثال فرنسا هي دولة و الجمهورية الخامسة هي النظام القانوني داخل الدولة الفرنسية منذ عام 1958. إيمانويل ماكرون هو رئيس الجمهورية الفرنسية، وهي مجموعة من المسؤولين صناع القرار المصرح لهم بوضع السياسات وفقًا للإجراءات والقوانين ضمن نظام الجمهورية الخامسة فحسب .عبر هذا التمييز الثلاثي—الدولة، النظام، السلطة—يمكن فهم مصير الدول التي تحولت سلوكياتها إلى وصمات دولية. وعندها فقط يمكننا رؤية السؤال الحقيقي عن إسرائيل الذي يشغل أذهان الناس الآن .

عندما يشير اليهود إلى أمرين في مقارنة قد توحي بمعادلة لا يقصدونها، يقولون “لِهَبْدِل” (أي: ليُفهم أن هناك اختلاف). وهكذا أقول “لِهَبْدِل” وأنا ألفت الانتباه هنا إلى مصير دول المحور وبالأخص ألمانيا— مصير يُظهر الفرق بين موقف المجتمع الدولي من حق دولة في الوجود وحق نظام معين داخلها. ألمانيا وإيطاليا واليابان احتلّها الحلفاء، ثم سُمح لها بالانضمام إلى الأمم المتحدة كدول شرعية—ولكن فقط بعد استبدال الأنظمة النازية والفاشية والإمبريالية التي أدخلت تلك الدول في الحرب.

اقتراح وزير الخزانة الأميركي هنري مورغنثاو عام 1944 يوضح الحذر الشديد في إعلان دولة بلا حق وإنهاء وجودها .

خطة مورغنثاو تخيلت أوروبا بعد الحرب مع فقدان ألمانيا وجودها كدولة صناعية. ستُعطى أراضي ألمانية واسعة لدانمارك وفرنسا وبولندا. ستُدول منطقة الرور الصناعية والمناطق المحيطة بها. ستهدم جميع مصانع الأسلحة والجيش بأكمله. وللأجل القريب، لن يُسمح لأي مؤسسات تعليمية تتجاوز المدرسة الابتدائية بالعمل. الدول التي دُمرت من الحرب ستتلقى عمالة ألمانية قسرية لمساعدتها على إعادة الإعمار. ستُقسم الأراضي الألمانية المتبقية إلى ثلاث دول منفصلة زراعية بشكل رئيسي. وأي مشاكل اقتصادية أو اجتماعية يواجهها الألمان نتيجة لهذه الإجراءات ستكون مسؤوليتهم الوحيدة لحلها “مع الموارد المتاحة تحت الظروف . “

ميزة بارزة في خطة مورغنثاو كانت أن هذا الاقتراح الأقصى نفسه تراجع عن المطالبة الصريحة بإبادة الدولة. فقد كانت ألمانيا مسؤولة عن إشعال الحربين العالميتين وعن إطلاق أفظع مجازر الإبادة في تاريخ البشرية، لكن إنهاء وجود دولة كبرى وقوية لا يزال يُعد أمرًا مبالغًا فيه. بدلاً من معاقبة الدولة الألمانية، تم تحميل النظام النازي الذي حكم الدولة الألمانية المسؤولية. وبالطبع، كان الغرب بحاجة إلى دولة ألمانية قوية لمواجهة التهديدات السوفياتية في أوروبا الوسطى والغربية، لكن المبدأ الذي تم التمسك به هو التمييز بين المعايير التي تُطبق على الدول وتلك التي تُطبق على الأنظمة. فبدلاً من ازالة الدولة الألمانية، جرى إزالة النظام النازي من أوروبا.

هكذا، يمكن للأنظمة أن تصبح شريرة دون أن تُلَوِّث الدول التي تعمل داخلها. ويمكن استبدال الأنظمة دون إنهاء وجود الدول التي تحكمها. بعد ست سنوات من نزع النازية، سُمِح للجمهورية الفدرالية، التي تقع مقراتها في بون، أن تعمل بمفردها. وفي عام 1990، اختفى النظام في ألمانيا الشرقية، وأصبحت الأراضي والسكان الذين كانت له سلطة عليهم جزءًا من الجمهورية الفدرالية. الحكومات التي أنتجها ذلك النظام حظيت باحترام العالم، لأن النظام الذي أنشأها قُبل كشرعي.

من جديد، توجد دولة ألمانية واحدة كبيرة مزدهرة وقادرة عسكريًا في وسط أوروبا—دولة لا يُطعن في حقها بالوجود. والحكومات التي أفرزها نظام بون تحكم الآن كامل ألمانيا.

صحيح أن الدول يمكن أن تختفي. فقد اختفى الاتحاد السوفيتي عام 1991. لكن مقارنةً بمعدل استبدال الأنظمة، فإن مثل هذه الاختفاءات نادرة الحدوث. ففي عام 1989، تغيرت أنظمة في جميع أنحاء أوروبا الشرقية بينما استمرت الدول التي كانت تحكمها قائمة. استبدل نظام جمهورية الشعب إلى حد كبير النظام القومي الذي حكم الصين قبل الحرب العالمية الثانية. استبدلت إيطاليا الفاشية بالجمهورية الإيطالية. وأصبحت اليابان الآن ملكية دستورية وليست إمبراطورية. ومؤخراً، استبدل آية الله روح الله الخميني نظام بهلوي في إيران بالجمهورية الإسلامية، ورغم وجود مطالب عديدة بتغيير النظام في إيران، لم يتحدى أحد حق الدولة الإيرانية في الوجود. وفي التسعينات، عزل العالم جنوب أفريقيا وباتحاده مع المؤتمر الوطني الأفريقي تخلصت الدولة من نظام الفصل العنصري، ودون إنهاء أو حتى مناقشة حق دولة جنوب أفريقيا في الوجود.

إسرائيل دولة أُنشئت بواسطة الحركة الصهيونية، وأُبْرِزت بتفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، واعترف بها العالم في 1948. ثم أصبحت المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للحركة الصهيونية النظام الأول، ولحد الآن الوحيد، للدولة .

حتى العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية والبالغ عددهم مليونين يواجهون العديد من القوانين والتنظيمات التي تميّز ضد الإسرائيليين غير اليهود، وبشكل خاص ضد العرب، سواء بشكل صريح أو ضمني. في عام 2018، أقرّ البرلمان الإسرائيلي بيان دستوري لطبيعة نظامها: قانون أساسي بعنوان “إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي”. أعلن هذا القانون أن اليهود فقط لهم حق تقرير المصير في البلاد، واعتبر الاستيطان اليهودي “قيمة وطنية”، وجرد اللغة العربية من وضعها كلغة رسمية. وكان واضحًا من خلال رفض معدّي القانون للتعديلات التي تشير إلى مساواة جميع المواطنين أنهم يقصدون إبراز التمييز.

بالرغم من أن النظام الإسرائيلي نجح في إنشاء مؤسسات فعالة، واقتصاد ديناميكي، وجيش قوي، إلا أنه فشل في تشكيل حكومات قادرة على تحقيق السلام مع جيران الدولة عبر حلول ترضي حتى بشكل أدنى الكارثة الفلسطينية التي نجمّت عن عملية إنشاء الدولة وتوسعها.

هنا تكمن النقطة الحاسمة. ترفض حكومة إسرائيل إنهاء الحرب التي تبدو في جوانب مختلفة كوسيلة لحماية مسيرة زعيمها، أو كنفخة انتقام مؤقتة لكنها غير مرضية، أو كحملة تطهير عرقي متزايدة الوضوح. أخبار الأطفال الجياع الذين يُطلق عليهم الجنود الإسرائيليون النار أثناء محاولتهم الشديدة للعثور على الغذاء تثير بلا شك تساؤلات حول ما إذا كان الأفراد أو المجتمع الدولي ما زال لديه واجبات لتعترف بشرعية النظام الإسرائيلي الذي أنتج الحكومة التي تحت رعايتها تُدمّر المجتمع الإنساني في غزة .

مسألة ما إذا كانت أفعال إسرائيل تُعتبر إبادة جماعية هي في الأساس مسألة لغوية. أما السؤال عن حق دولة إسرائيل في الوجود فهو خطأ تصنيفي. السؤال الحقيقي، والذي يستحق اهتمام ونقاش اليهود وغير اليهود، هو: هل فقد النظام في إسرائيل الذي حكم الدولة منذ نشأتها حقه في الوجود؟ بمعنى آخر، هل فقد قدرته على المطالبة باحترام وتقدير قرارات حكوماته من الآخرين؟

لسنوات طويلة، كان الصهاينة الليبراليون يحتفظون بالأمل في أن يتم تجاوز التمييز القاسي ضد المواطنين العرب في إسرائيل، وأن يُمكن تحقيق شكل رقيق من الصهيونية يعترف بحقوق الأقليات مع الحفاظ على الطابع السياسي والثقافي اليهودي للبلاد. استندت هذه الرؤية بالدرجة الأولى إلى تأسيس دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما يوفر منصة للقومية الفلسطينية التي كثيرًا ما يشير إليها الإسرائيليون على أنها “كابوس” ديموغرافي لوجود أغلبية عربية في الدولة اليهودية المفترضة. لكن تحول إسرائيل نحو اليمين المتطرف والأصولي، والاستيطان اليهودي المكثف في الضفة الغربية، وانتصار حركة السلام الإسرائيلية بنسبة ضئيلة جدًا، قضى عمليًا على حل الدولتين التفاوضي، الذي صار مجرد سراب يستخدمه داعموه الرسميون ومعارضوه على حد سواء لأغراضهم .

على مدى ثلاثة أرباع القرن، أظهر النظام الإسرائيلي عجزه عن دمج الفلسطينيين أو التوصل إلى سلام حضاري معهم، وحتى باستثناء اللاجئين خارج البلاد، فإن عدد الفلسطينيين أصبح مساوياً تقريبًا لعدد اليهود الذين يعيشون ضمن نطاق حكم ذلك النظام. لذلك من المناسب السؤال: هل لا يزال النظام الإسرائيلي يستحق الوجود؟ ومن المهم التنويه إلى أن طرح هذا السؤال أو التوصل إلى نتيجة سلبية لا يعني الحكم على القومية اليهودية بأنها غير شرعية أو بطبيعتها استبعادية. كما هو الحال في كل الحركات القومية، فإن القومية اليهودية، وحتى الصهيونية بحد ذاتها كأحد تعبيرات القومية اليهودية، هي نسيج متنوع و نظام قانوني وأيديولوجي يقوم على الظهور كديمقراطية ليبرالية، لكنه مكرّس، فوق كل شيء، لتنفيذ وتوسيع حضور ونجاح سكانها اليهود.

من 1948 إلى 1966، حُكم مواطنو إسرائيل العرب بحكومة عسكرية ساهمت في هندسة مصادرة معظم أراضيهم. وبعد إلغاء الحكومة العسكرية في 1966، استمرت دوائر “الشؤون العربية” في وزارات مختلفة، بتنسيق مع الأجهزة الأمنية، في فرض سياسات تمييزية تجاه العرب تقوم على قمع وتجزئة فئاتهم. ومنذ 1967، يعيش أكثر من خمسة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت نسخ من الاحتلال العسكري، ويفقدون مصادر المياه والأراضي لصالح إسرائيل والمستوطنين الإسرائيليين. بلا تمثيل حكومي يُسًيطر على حركتهم ووصولهم للعالم الخارجي، ومحرومين من أي وسيلة تعبئة سياسية، ومُهمشين بشكل منهجي، يتعرضون يوميًا لعنف من جنود ومدنيين إسرائيليين، يتراوح بين مضايقات مذلة إلى أعمال قد تصل حد الإبادة.

مع القبول بوجود دولة للجميع تمارس سلطتها على كل الأراضي الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن مع حق في الوجود، نستطيع تركيز الانتباه على التحديات الحقيقية التي يواجهها الطموحون لبناء مستقبل قابل للعيش هناك. يمكن أن تنشأ التغييرات العميقة اللازمة لظهور مثل هذا النظام من الهزيمة في الحرب، أو الثورة الاجتماعية، أو التمرد الداخلي، أو خصوصاً، عندما يدعمه مجتمع عالمي مستعد لقطع علاقاته مع النظام المنبوذ، من خلال التعبئة البطيئة ولكن التحولية لجموع الناس داخله .

هذا الطريق الأخير نحو مستقبل أفضل قد يكون طويلاً، لكنه ممكن، وفي هذه الحالة أكثر واقعية من الخيارات الأخرى. ولن يُسلك إلا عندما تشعر المجموعات المتنازعة على إسرائيل بأنها مطالبة بإيجاد حلفاء حيث كان يُنظر إليهم سابقاً كأعداء.