منذ أفول النظام الأسدي، وفي ظلّ فراغ هائل خلّفه سقوط ذلك النظام، الذي ظلّ لعقود يقبض على مفاصل الحياة اليومية والسياسية كافة، تتشكّل سلطة الأمر الواقع وتتكوّن منفردةً تحت ضغوط دوليّة متعددة الاتجاهات، ومن دون أيّ توجّه واضح في أيّ مسار تمضي، وعن أيّ انتقال تتحدث، وهل ثمَّة انتقال أصلًا؟
لم تتوانى السلطة الجديدة منذ اللحظة الأولى لتملّكها زمام البلاد في أنْ تتجاوز حتى الصلاحيات التي حددتها لنفسها، فاتخذت قرارات سياديّة من دون أنْ ترتكن إلى أيّ شرعيّة، سوى غلبة، هي حصيلة متغيرات إقليميّة أكثر منها غلبة عسكريّة، واستغلالًا للحظة نشوة عاشها ملايين السوريين احتفاءً باندثار نظام عانوا الويلات في ظلّ استبداده. غير أنَّ السلطة التي اتخذت في خلال هذه الأشهر التسعة خطوات عديدة ثمَّ تراجعت عنها، لم تحاول أنْ توّسع نطاق شرعيتها أو الفئات الاجتماعيّة التي تساندها، فاكتفت بمؤتمر حوار صوريّ رديء من دون صلاحيات حقيقيّة؛ و”مؤتمر نصر عسكريّ” لم يشمل أيّ قوى لم تكن على وفاق مع السلطة الجديدة في الأصل؛ ومؤتمرات اقتصاديّة على مدار الساعة مع عديد من الجهات والمؤسسات والشركات التي تحمل في طياتها إشارات استفهام لا حصر لها، وأرقام يشكك كثير من الخبراء الاقتصاديين في صحتها.
لم تبنِ هذه المؤتمرات التي لا تنقطع ثقة بين السلطة وفئات اجتماعيّة أوسع، ولم تستغل نشوة اللحظة التاريخيّة التي تنطوي على احتمالات مفتوحة لتؤسس لشرعيّة صلبة، بل أخذت تستنزف السلطة من رصيدها بسرعة، وسط سخط شعبيّ عابر للأقوام والمناطق والمعتقدات يتصاعد يومًا تلو الآخر. وإن كانت السلطة قد حاولت أنْ تبدو في مظهر السلطة العصريّة غير العالقة في تاريخ أبرز فصائلها الأيديولوجيّ، فإنَّها، حاليًا، على مستوى الممارسة والخطاب، لا تزال تبدو عديمة الشكل، أو متلوّنة إلى حدٍ يجعلها بلا لون، فتحاول الجمع بين مظاهر وخطابات لا يُمكن الجمع بينها. ففي حين قارن رئيس السلطة المؤقتة، أحمد الشرع، ضمنيًا التمييز على أساس الطائفة بالتمييز العرقيّ، قارب وزير الخارجية، أسعد الشيباني، مشكلات العهد البائد من منظور الأكثرية والأقلية. وفي حين تؤكّد السلطة على مبادئ المواطنة المتساويّة، تُرفع راية التوحيد في مسير تدريبي لقوات وزارة الدفاع في محيط العاصمة دمشق بعد 9 أشهر على سقوط النظام؛ يركّز الخطاب الرسميّ على المواطنة، من ثمَّ يقفز مباشرةً إلى حديث عن المكوّنات. هكذا يوحي انعدام الشكل أو اللون بأنَّنا عالقون في نظام، وإن اختلف شكله، هو مأساة ومهزلة في المرتين.
جاءت السلطات الجديدة حاملةً معها بُنى جاهزة تكوّنت خلال تجربتها في إدلب، وألحقتها بالنُظُم القائمة أصلًا، بل وحلّت بعضها محل المسميات التي ارتبطت بأدوات الاستبداد العتيقة للنظام البائد. فأصبحنا نجد “مكتب شؤون الشباب” بدلًا من “اتحاد شبيبة الثورة”، و”الشؤون السياسيّة” بدلًا من “فرع الحزب”. والفضاء العام الذي حاولت القوى السياسية والمجتمعية أنْ تستعيده بعد سقوط النظام، تُصدر تباعًا قرارات تضيقه تدريجًا، مثل قرار رئاسة جامعة اللاذقية بمنع أيّ تجمع سياسي أو اجتماعي من دون موافقة مسبقة من الجامعة عقب وقفة نظمها عشرات الطلاب لاستعادة ذكرى زميلين لهم قضيا في مجازر الساحل، والتشديد على أهمية الحصول على موافقات للقيام بأي تجمّع من دون إبداء أيّ أسباب حتى وإن كان ذلك في مكان خاص! وبدأت حالات استدعاء مواطنين بسبب التعبير عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي من دون أيّ مذكرة قضائيّة.
ربما القاسم الأبرز إلى يومنا هذا بين النظامين على المستوى السياسيّ، هو رفض السلطة الجديدة التعامل مع أيّ تنظيمات سياسيّة، وتجاهل القوى السياسيّة الوطنيّة-الديمقراطيّة ، ورفض الاعتراف حتى بهذه القوى، في استمرار للتفرد بالحكم وصورة القائد “الأب” وخطاب التخوين، مضافًا إليه التكفير أيضًا، لتتيح الفرصة الأمثل لتكاثر المنابر الطائفيّة، دون انتباه إلى أنَّ غياب الحيويّة السياسيّة شكّلت، وسوف تشكّل، التربة الأخصب لنمو الحركات والتيارات ما دون الوطنيّة، وتصاعد وتيرة الخطابات التي ترى في الاستعانة بالخارج خيارًا لا مفرّ منه.
خلف المؤتمرات المتواصلة والصور البراقة واللحظات التي يُراد لها أن تكون مؤثرة، تقبع سوريا هزيلة ومنزوعة الأنياب ولا تملك قدرة كبيرة على أنْ تصرخ، بعدما عانت ما عانته من الاستبداد والاقتتال الداخليّ والأزمات الاقتصادية المهلكة لشعبها، وبعد أنْ فوّت النظام البائد كلّ الفرص التي أتيحت له لإطلاق انتقال سياسيّ، لا تزال ثمَّة حاجة ماسة إلى أنْ تكون هذه الحقبة من تاريخ سوريا حقبة تأسيس لجمهورية جديدة، وانتقال حقيقيّ، فلا تتكرر مأساة ما مضى ولا مهزلته.
