اليابان البلاد الأخرى الشيوعية

تقديم وعرض الدكتور منذر أبو مروان اسبر

تضمنت ” اللوموند ديبلوماتيك ” ، الصحيفة الشهرية الفرنسية المشهورة في عددها الصادر آب ٢٠٢٥، تقريرا لمراسل الصحيفة الخاص السيد رينو لامبير بعنوان :

“اليابان البلاد الأخرى الشيوعية”

ـ١ـ

اليابان وبداية الحزب الشيوعي الياباني

مايلفت النظر كما طرح التقرير أن الطبعة الأولى الكاملة لأعمال ماركس وانجلز، لم تكن طبعة انكليزية ولا ألمانية ولا فرنسية وانما كانت طبعة تمت في اليابان، البلاد التي عرفت ولادة واحد من أكبر الأحزاب الشيوعية في العالم .

والواقع أنه إلى جانب هذه الميزة ،لابد من القول إن اليابان تتمتع بخصوصية أنها واحدة من كبريات الاقتصاد في العالم .

والى جانب نمطها الإنتاجي الرأسمالي احتفظت بعلاقات اجتماعية ومؤسسات مختلفة عن البلدان الرأسمالية في الوقت الذي عملت فيه هذه العلاقات والمؤسسات على تدعيم وتغذية النهوض الرأسمالي الياباني .

هذه العلاقة المتبادلة بين بنية الانتاج اليابانية وبين البنى الاجتماعية أوجدت مفعولا متبادلا للاقتصاد على الثقافة وللثقافة على الاقتصاد .

كان هذا بفضل قوة شعور الانتماء المتجذر للمجتمع الياباني والذي يعود إلى الجماعة الريفية اليابانية ، الشعور الذي انتقل منها إلى المنشأة الرأسمالية وحتى إلى التنظيم الاداري للبلاد .

ولقد كان من نتائج هذا الشعور المتجذر لجم ظهور النزعة الفردية معززا بذلك التضامن الداخلي الياباني ، وموجها طاقات الجميع لخدمة أهداف المنشأة الاقتصادية الملتحمة في نهاية المطاف مع قوة الرابطة الوطنية للبلاد .

أن العلاقات الاجتماعية داخل المنشأة الاقتصادية نفسها تفسر وجود نظام من التشغيل الدائم مزدوجا بالتوافق داخلها بما يسهل سير اشتغال الرأسمالية اليابانية .

والواقع أن الدولة قد لعبت ومازالت تلعب دورا هاما منذ بداية التصنيع الياباني توجيها وتحفيزا للاقتصاد الرأسمالي ، وهذا على عكس النموذج البريطاني الرأسمالي ، بحيث يمكن القول إن الرأسمالية اليابانية هي رأسمالية دولانية لاسيما بوجودعلاقات قوية بين الإدارة العليا للدولة وبين رجال الأعمال تدعيما للمنشآت الكبرى دون أن يعني ذلك استبعادالبنى الفوقية البرلمانية .

في هذا الإطار عمل الحزب الشيوعي الياباني الذي تشكل عام ١٩٢٢ والذي ضم ٢٥٠ الف منتسبا إليه في ذلك الوقت كما يذكر رينو لامبير مبينا أن معظم أعضاء الحزب الذي التقى بهم يشيرون إلى حذرهم من السلطات، لماذا ؟

لأن هذه السلطات الرسمية يمكنها استخدام قانون عام ١٩٥٢ المتعلق بردع اخطار الأعمال الهدامة بما سمح لرئيس الوزراءالراديكالي شنزو آبي ، استخدامه أعوام ٢٠٠٦ـ ٢٠٠٧ وأعوام ٢٠١٢- ٢٠٢٠ ضد الحزب بذريعة أنه” يستمر في سياسة العنف الثوري “.

بهذا يشير لامبير إلى أن أول سيدة رئيسة للحزب كانت توموكو تامورا عام ٢٠٢٤ والتي صرحت في لقاء معها في مقر الحزب في حي يويودجي ” نعاني الريبة ازاءنا في أننا نريد إقامة نظام ديكتاتوري للحزب الواحد في حين أننا نريد اخراج البلاد من هذا النظام ” نظام الحزب الليبرالي الديمقراطي المستمر في الحكم ردحا طويلا والذي قامت بتشكيله امريكا ( وكالة المخابرات المركزية ) عام ١٩٥٥ ضد مايسمى بالتهديد الشيوعي.

– ٢ـ

امريكا واليابان والحزب

كانت أمريكا بعد ماقامت به واحتلالها لليابان عام 1945ترى أن بلاد مشرق الشمس متخلفة مثل البلدان الآسيوية المسؤولة عن صعودالفاشية فيها ، واذا عملت على تطعيم اليابان بالديمقراطية الليبرالية لتجعل “سويسرا الآسيوية ” حسب تعبير الكاتب وذلك على الطريقة الأمريكية ،اي “الثورة الديمقراطية من فوق”.

إلا أن المفارقة كانت في أن قوى الاحتلال الأمريكية التي يقودها الجنرال دوغلاس ماك آرتور شرعت بإصلاحات واسعة سرعان ماتراجعت عنها .

لقد كانت هذه الاصلاحات من الأهمية بحيث “يمكن الحكم عليها بالبلشفية” :

اصلاح زراعي ، تفكيك المونوبولات الصناعية ، دمقرطة الاقتصاد ،دعم النقابات ، ادخال اسبوع عمل ب٨ساعات يوميا ، الحق في التظاهر والاضراب ، دمقرطة الانتخابات ، حقوق المرأة في الخلية الاسروية .

لقد كانت إصلاحات نقلت اليابانيين من رعايا إلى مواطنين متساوين وبترخيص رسمي للحزب الشيوعي وأطلاق سراح الشيوعيين الذين كانوا معتقلين عدة سنوات قبل ذلك .

ولقد رحب الحزب الشيوعي بهذه الاصلاحات معتبرا أن الجنرال دوغلاس ماك آرتور يقوم بمهمة الحزب خروجا من المرحلة اليابانية شبه الاقطاعية إلى تحقيق الثورة البورجوازية الديمقراطية(مايذكرنا على صعيد أخر بقيام بسمارك بتوحيد ألمانيا عام 1870 وعلى انه يقوم بمهمة الماركسيين في توحيد الطبقة العاملة الألمانية ) .

الا أن السياق التاريخي للأحداث دفع امريكا إلى الانقلاب على ماقامت به .

ذلك أن الديمقراطية الفتية من شأنها أن تنفخ في أشرعة الحزب الشيوعي والحركات الاجتماعية التقدمية من جانب، ومن جانب آخر فإن الصين التي كانت قلعة ضد الشيوعية مع تشانج- كاي- تشيك ، القومي اليميني ،،قدوقعت في ايدي ماوتسي تونغ عام1949 فاندلاع الحرب في كوريا .

ثمة إن التطعيم الديمقراطي لأمريكا قد فقد مهمته في السياق الآسيوي الجديد بحيث أن مشروع إستبدال الفاشية بالديمقراطية قد حل محله استعادة الشخصيات العسكرية وسواها المتهمة بالارهاب والاجرام إلى الدولة اليابانية !! وبدء ملاحقة الحركة الاجتماعية التقدمية والحزب الشيوعي.

بهذا كان على الحزب أن يقوم بانطلاقة جديدة ، حتمها أيضا الفشل الذريع في الكفاح المسلح عام 1950 تحت ضغوط موسكو وبكين وعلى غرار ماتم في استراتيجية الكفاح التحرري للصين بالانطلاق من الريف باتجاه المدينة .

لقدارسل الحزب وحدات للتعبئة الشعبية في الأرياف اليابانية بأمل اندلاع الثورة دون أن يكون للحزب أية تجربة في المقاومة المسلحة وفي الوقت الذي كان فيه الجنرال الأمريكي آرتور قد قام باصلاح زراعي لتحسين ورفع المستوى المعيشي للفلاحين . والنتيجة أنه كان لابد من استراتيجية جديدة الحزب .

. ـ ٣ـ

استراتيجية جديدة

مع سنوات الفشل التي أدت إلى انشقاقات الحزب ، قام الشيوعيون بوضع استراتيجية جديدة صادق عليها مؤتمرهم الثامن .

كمن صلب هذه الاستراتيجية في أولوية التحرر الوطني ، كما يقول برنامج الحزب :

” ما تحتاجه اليابان هو الثورة الديمقراطية وليس الثورة الاشتراكية “، ثورة تضع فيما تستطيع من تحقيقه ،حدا للتابعية إزاء الولايات المتحدة الأمريكية .

ولكن الحزب لم يأخذ بهذا التطور فيه وحسب وانما سيدافع أيضا عن حكم القانون والحركات الاجتماعية ، و”سيقوم في أعوام ١٩٧٠باستبدال مرشحين من الأوساط العمالية بمرشحين آخرين ، مثقفين ومحامين واطباء وكوادر المنشآت الاقتصادية .

كما أن سيرورة التطور فيه ستجعله يتخلى عن مفردات يخاف الناس منها :

“حزب الطليعة ، الخلية الحزبية ، ديكتاتورية البروليتاريا”

وفي عام ٢٠٢٠؛سيصدر موقفا نقديا لروسيا ضد عدوانها على أوكرانيا ، الأمر الذي اهتم ورحب به الإعلام اليميني كله .

بهذا التطور بعلائمه المذكوره فإن الحركة التقدمية اليابانية تعلن عن ميزة فريدة ، لماذا؟ لان العالم الذي تزهر به أحلامها ، يدعو إلى توحيد النظر إلى الماضي القريب أكثر من المستقبل .

ذلك أن دستور ١٩٤٧ يجسد المثال الديمقراطي والسلمي لليابان ،بيد انه ما أن تم الشروع بالعمل به حتى أصبح مهددا من قبل اليمين القومي المتطرف الذي وضعت امريكا شخصياته في مواقع القرار السياسي ضد الديمقراطية ولإطلاق عسكرة اليابان الممنوعة في الدستور لاستخدام البلاد كحليف وازن ضد أعداءأمريكا.

هل من نقد على الحزب الشيوعي ؟ نعم بماسمي برخاوته أو وسطيته وبوجه خاص ، من قبل ” اليسار الجديد ” الياباني أعوام 1955 وما بعدها . فهذا اليسار عمل بشكل واسع لان يجعل من ايار 68 حدثا لاخافة الطبقات المسيطرة قبل أن يقع جزء من تنظيماته في الكفاح المسلح .

وعلى عكس ماكان يحدث في ألمانيا وإيطاليا التي عرفت ولادة يسار راديكالي متطرف ومنخرط في الكفاح المسلح ، فإن منظمات اليسار الياباني المشار إليها ، قامت باستهداف بعضها بعضا بل وقيام بعضها بممارسة العنف ضد اعضائه.

هذه الانحرافات اليسارية الداعية إلى الكفاح المسلح ابتهجت لها وبها الفئات المسيطرة التي لم تترك لحظة إلا بربط العنف لابهذه الانحرافات وحسب وانما بالشيوعية دون أن يوجد لديها على مايدلّل على ذلك .

ولهذا ففي أعوام ١٩٧٠ ـ ١٩٨٠ حصل الحزب كما ينوه الكاتب الصحافي على ١٠%من اصوات الناخبين بماجعله القوة الثالثة المعارضة . وهذه النسبة وإن لم تستمر على ماهي عليه فإن للحزب 11″مستشارا ” في الغرفة العليا ( مجلس الشيوخ 248عضوا ) و8 نواب في الغرفة الدنيا ( البرلمان 465نائبا) .

خاتمة

أن قوة الحزب الشيوعي الياباني عدا عما يحتله من اكتساب مواقع في اليابان ، تكمن بوجه خاص في المناطق المحلية اليابانية بسبب الاخلاص الدائم لأعضائه في الوقت الذي تقول رئيسته تامورا أنه يشكل المعارضة الأولى في طوكيو ويوزع صحيفته “الراية الحمراء” على مليون نسمة للدفاع عن الديمقراطية والتنديد بفضائح المجتمع السياسي التي تلقى رواجا واهتماما عند اليابانيين .

في هذا كله فإن الحزب يصرّ على أمر أساسي في أن أمريكا حرمت اليابان من سيادته طارحا بذلك التحرر الوطني سبيلا لاستعادتها .

فهذا واقع مهين للنخب اليابانية ولأمة استطاعت عبر ثلاثين عاما بعد استسلامها في الحرب العالمية الثانية لأن تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي ، المرتبة التي أهلتها لها الخصوصية المتميزة اليابانية التي اشرنا إليها منذ البداية ، في قلب النظام الراسمالي العالمي .