افتتاحية العدد 103 : الضرورة السورية لعقد المؤتمر الوطني العام:

يترك سقوط الديكتاتوريات مشكلات كبرى، كما رأينا في ليبيا واليمن في الأربعة عشر عاماً الماضية، ويبدو أن مرحلة ما بعد 8 كانون الأول 2024 في سوريا تقول بمشكلات مماثلة إن لم تكن أكبر بعد سقوط نظام حافظ الأسد وابنه.

ولكن من يراقب الثمانية أشهر ونيف التي تفصلنا عن ذلك اليوم السوري يلاحظ أن هناك مشكلات جديدة قد نشأت عن سياسات السلطة السورية الجديدة وممارساتها، في الساحل بآذار الماضي، وفي صحنايا وأشرفية صحنايا بأواخر نيسان وأوائل أيار، وفي محافظة السويداء بتموز الماضي، حيث بان من هذه المحطات الثلاث الدموية أن السلطة الجديدة ليست لكل السوريين، عندما ظهر بهذه المحطات ممارسات وانتهاكات، ومجازر في المحطتين الأولى والثالثة، قامت بها تشكيلات مسلحة ،منضوية في مؤسسات رسمية، على أساس طائفي بحق مدنيين، وهذا واضح في التقرير الأخير عما حصل بالساحل الصادر عن الأمم المتحدة، ولو أنه يؤكد أنه “لم يجد أي دليل على وجود سياسة حكومية محددة أو خطة لشن هذه الهجمات”، أو قامت بها تشكيلات غير رسمية أو أفراد تحت أعين القوات الرسمية أو من خلال إغماض عينيها، هذا غير السماح لتشكيلات أتت من محافظات سورية، بأن تقوم بحملات عسكرية على محافظة سورية، كما حصل مؤخراً بمحافظة السويداء من ما سمي بـ”فزعة العشائر”، التي كان من الواضح أنها برضا السلطة القائمة في دمشق.

لم تظهر هذه المحطات الثلاث فقط أن السلطة ليست لكل السوريين، بل أظهرت أيضاً أنها غير مسيطرة على الأرض، وكذلك عدم سيطرتها على تشكيلات رسمية تتبع لها إدارياً، وحتى بان عدم إدراكها بأنها مسؤولة عن كل “ضربة كف” تحصل على الأرض السورية، سواء كان ضارب هذا الكف من مواليها أم من معارضيها.

ثم من يراقب هذه المحطات الثلاث، يلاحظ بأن من ورّط السلطة أو مواليها أو بعض تشكيلاتها في ما حصل من مجازر بالساحل كان خصومها من أفراد النظام السابق الذين قاموا بحركة عسكرية منظمة، وفق تقرير الأمم المتحدة المذكور، وربما كانوا يريدون من خلال ما ارتكبوا من مجازر بحق قوات الأمن العام وبحق مدنيين على الطريق الساحلي دفع السلطة أو مواليها إلى ارتكاب مجازر مضادة لخلق خنادق من دم بينها وبين مواطنين سوريين من طائفة معينة، بعد أن أظهرت السلطة الجديدة في فترة 8 كانون أول 2024 -6 آذار 2025 صورة ثانية غير الصورة التي أعطاها النظام السابق عن “توحش الاسلاميين ونيتهم بالذبح الطائفي”، والأرجح أن الهدف الرئيسي لمن قام بحركة 6 آذار كان ليس السيطرة على الأرض بل كسر هذه الصورة للسلطة الجديدة وإجبارها على ألا تكون لكل السوريين، وهذا ما نجح به القائمون بتلك الحركة، الأمر الذي رأيناه يتكرر بعد خمسين يوماً عندما اندفع موالون للسلطة الجديدة إلى استهداف أفراد من الطائفة الدرزية بعد شريط مفبرك، ومن دون أن تقوم السلطة بحجزهم ومنعهم وقمعهم عن هذا الاستهداف الذي شمل الجامعات، ثم كانت الطامة الكبرى في شهر تموز الماضي عندما كانت قراءة السلطة الخاطئة للوضع في محافظة السويداء قد دفعها إلى تحرك عسكري باتجاه المحافظة أوقعها في مجابهة مع اسرائيل وقامت قوات تابعة لها، أو موالية لها أو تدعي الولاء لها، بممارسات ومجازر وسلب ونهب وتهجير بحق مدنيين على أساس طائفي جعلت الموالين للوحدة الوطنية السورية أقلية بين أبناء المحافظة مع أنهم كانوا أكثرية قبل يوم 12 تموز 2025، مع تسجيل ممارسات مماثلة قامت بها مليشيات مضادة للسلطة في محافظة السويداء بحق العشائر البدوية.

كل ما سبق يدفع لمراجعة المسار السوري لما بعد يوم 8 كانون أول 2024، بعد أن وضح أن المسار القائم يقود البلد إلى اضطراب أكبر من الاضطراب الذي أنتجه حكم بشار الأسد، وإذا كانت ديكتاتورية حافظ الأسد وابنه قد قادت سورية إلى الخراب فإن أي ديكتاتورية لاحقة ستقود سوريا إلى التفكك والتشظي، ومن الواضح أن انفراد فرد واحد بالحكم، أو استئثار تيار أيديولوجي سياسي بمفاصل السلطة والإدارة والمناصب، قد أصبح وصفة تقود سوريا للهاوية.

ليس صدفة أن مجلس الأمن الدولي في بيانه بخصوص أحداث السويداء في 10 آب 2025 قد أسمى السلطة السورية بـ”المؤقتة” وليس “الانتقالية”، وفي الوقت نفسه دعا إلى انتقال سياسي عبر “عملية الانتقال السياسي في سوريا وفق المبادئ التي ينص عليها القرار 2254″ ، أي ليس عبر الانتقال السياسي الذي رسمه ما أسمي بـ”الاعلان الدستوري” الذي أصدرته السلطة في 13 آذار الماضي، وإنما عبر نص القرار الدولي 2254 الذي يقول بـ”عملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكما ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين يحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر” .

هذا القرار الدولي برقم 2254 الذي رفضه بشار الأسد بإصرار ومثابرة منذ إصداره في عام2015 وعمل على اغتياله وفشل، واليوم نرى الأسرة الدولية بما فيها بعض رعاة السلطة السورية الجديدة يقومون بنفض الغبار عنه ووضعه على رأس جدول الأعمال الدولية تجاه سوريا، ومن الواضح أن سجل الأشهر الماضية السورية قد دفعهم لذلك.

الآن ، إذا كان الطريق الذي رسم من أجل تطبيق القرار 2254 قد كان يمر بمؤتمر جنيف، فإن هذا الطريق قد أصبح يمر بدمشق عبر (مؤتمر وطني عام) تحضره القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية عبر ممثلين تقوم بانتخابهم لتمثيلها بهذا المؤتمر، والذي تنبثق عنه سلطات تنفيذية وتشريعية ولجنة دستورية لصياغة دستور جديد تجري الانتخابات على أساسه، للبدء في مرحلة انتقالية سورية تنقل سوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية.