إعادة بناء الدولة في سوريا – مازن كم الماز

شكل انهيار مؤسسات الدولة السورية مع سقوط النظام البائد امتحانًا صعبًا للسوريين و خاصة للسلطة الجديدة كما لقواهم المجتمعية و نخبهم أيضًا … تشير الأمثلة السابقة كما في الصومال و العراق و ليبيا إلى المخاطر المحتملة لهذا الانهيار ، إذ أدى انهيار مؤسسات الدولة إلى درجات متفاوتة من الفوضى و استبدلت مؤسسات الدولة الحديثة البيروقراطية بحكم ميليشيات أو بدولة عاجزة و فاشلة خاضعة لسيطرة الميليشيات على حساب صلاحياتها و قدراتها على الاضطلاع بوظائفها … بهذا المنظور يمكن للمرء أن يشيد بنجاح البلاشفة و بعدهم الشيوعيين الصينيين في إعادة إنتاج دولة مركزية بعد تمكنهم من قيادة ثورات أو انتفاضات انتهت بانهيار أنظمة بمؤسساتها خاصةً في بلاد واسعة مترامية الأطراف و متعددة القوميات و الاثنيات … هذا قد يشكل نقطة لصالح السلطة الجديدة في سوريا التي يجمعها بالبلاشفة و الشيوعيين الصينيين أنها منظمات ايديولوجية شديدة المركزية و عالية التنظيم ، لكن من جهة أخرى فإن هذه الصفات التي تتمتع بها القوة التي تشكل مركز السلطة الجديدة لا تغطي على تشرذم قواها و تعدد ولاءاتها و مرجعياتها كما يكشفه تأخرها و ربما عدم قدرتها على دمج و توحيد القوى المسيطرة على الأرض المتحالفة معها ما قد يهدد الوصول إلى مثل تلك النتيجة … لا تشكو الفصائل أو الميليشيات العراقية و تلك الليبية من خلافات ايديولوجية حقيقية بل من خلافات شخصية بين قادتها و تمثيلها ل و اعتمادها على منطقة أو عشيرة محددة ، يشبه هذا حال الفصائل السورية أيضًا التي لا تشكل هيئة تحرير الشام سوى أحدها ، و يمكن هنا تفهم قرار السلطة الراهنة بتجنيس آلاف المقاتلين الأجانب الذين يشكلون قوة موثوقة بالنسبة لها أكثر من حلفائها المحليين الذين يشكلون منافسين محتملين دائمًا … يجب هنا أيضًا ألا ننسى أن القوات الأميركية الغازية و معها مؤسسات الدولة الأكبر في العالم التابعة للبنتاغون و لوزارة الخارجية الاميركية لم تفلح في بناء نظام بديل عن نظام صدام الذي أسقطته لأسباب تتعلق ببنية القوى و التيارات السياسية و النخب العراقية و بالتأكيد أيضًا بواقع المجتمع العراقي و انقساماته الطائفية و العشائرية … كان استبدال النظام العراقي القديم بنظام هش خاضع لسيطرة الميليشيات خيارًا صريحًا لأبرز القوى السياسية العراقية بعد إسقاط صدام و خاصةً للميليشيات التي قدمت إلى العراق (مثل فيلق بدر ، الذي قدم من ايران) و تمكنت من فرض و تعزيز نفوذها الاجتماعي ثم الدولتي على الرغم من وجود القوات الأميركية … ملاحظة الشبه بين تلك الميليشيات و القوى و بين قوى السلطة السورية الحالية ما يثير المخاوف من تكرار السيناريو العراقي في سوريا … يعتمد الكثير في الواقع على تلك القوى و على السلطة القائمة أيضًا ، على سلوكها و رغباتها و استعدادها للخضوع لنظام أو لسلطة مركزية و قدرة هذا النظام على تلبية مصالحها و توقعاتها و في نفس الوقت قدرة القوى المجتمعية على العمل المشترك المتجاوز للطوائف و الانتماءات المناطقية و العشائرية ، و المؤسف هنا هو أن تطبيق النموذج العراقي قد يلبي بالفعل طموحات و مصالح الفصائل المكونة للسلطة الحالية في دمشق على حساب دولة مركزية متهافتة ضعيفة و مجتمع ممزق و مستباح و أنه أيضًا قد يكون مرضي و يتناسب مع حدود إمكانيات و قدرات نواتها الصلبة في هيئة تحرير الشام … التشابه مع الجار اللبناني خاصةً سنوات الحرب الاهلية الطويلة و تشتت المجتمع و قواه الأهلية و السياسية و أيضًا مع الجار العراقي ، ليس أقلها في شكل و مرجعية النظام السابق و خطابه القومي العربي و “علمانيته” المزعومة يعيدنا إلى النقاش الدائر حول التعددية و سلبياتها و إيجابياتها ، للإجابة يكفي أن ننظر إلى الوضع في البلقان الذي يشبه منطقتنا و الذي قال عنه بيسمارك “أن حربا كبرى ستقوم ذات يوم بسبب حادث تافه في تلك المنطقة “… عدا عن ما يزيد عن القرن و نصف من الثورات و الحروب التي شهدتها تلك المنطقة بداية بالثورة الصربية ١٨٠٤ مرورًا بشرارة الحرب العالمية الأولى و التي استمرت بشكل أو بآخر حتى قيام يوغسلافيا الشعبية الاتحادية التي تمكن نظامها من استيعاب هذه التناقضات و التوترات بمزيج من القمع و اللا مركزية و مركزية الحزب الشيوعي قبل أن تشهد موجة جديدة من الحروب و الإبادات مع تفكك النظام السابق حتى فرض توازنات هشة من قبل الناتو و امريكا و الاتحاد الاوروبي ، بينما تمكنت دول أو مجتمعات أخرى من خلق تعايش مستقر بين “مكوناتها” ليس فقط تحت نير استبداد يقمع كل تلك المكونات بل أحيانًا تحت ظل أنظمة ديمقراطية لا مركزيةً ؛ هذا فقط للتدليل على المخاطر الكامنة في وجود هويات متعددة متجاورة أو متساكنة … بل نجد مثلًا أن الاحتقانات الأهلية في بغداد في مراحل مختلفة من تاريخها لم تقتصر على العلاقة بين الشيعة و السنة فقط بل شاهدنا ما هو أقسى منها بين الحنابلة و الشافعية في بغداد و غيرها لدرجة إصدار بعض مشايخ المذهب الشافعي فتوى بأخذ الجزية من الحنابلة … عادةً ما تراجعت تلك التوترات و الصدامات مع اشتداد قبضة الحكم المركزي أو أحيانًا بالمزج بين مركزية القرار السيادي و لامركزية واسعة فيما يتعلق بأمور الحياةاليومية للناس ، هذا ما شاهدناه في يوغسلافيا تيتو و في النظام الملي العثماني الذي منح كل جماعة دينية أو أهلية درجة من التسيير الذاتي بشرط تأدية الضرائب المفروضة و الاقرار و الالتزام بسيطرة الدين الإسلامي السني الصوفي تحديدًا على الفضاء العام و الوظائف العامة … لدينا نموذجان هنا أيضًا ، معاوية الذي يطيب لبعض موالي السلطة الحالية في الشام الاستشهاد به و مثال الأسد الأب ، قرب الأول و اعتمد على مثقفين و موظفين مسيحيين عملوا سابقًا في مؤسسات الدولة البيزنطية لتنظيم و تسيير أمور سلطته الاجرائية بينما كان يعتمد في ثبيت حكمه و محاربة خصومه على قادة عسكريين موثوقين من العرب المسلمين فقط و من اليمانية تحديدًا مما أثار حفيظة القبائل القيسية و وصل الصراع بين الطرفين في خراسان مثلًا حدًا من العنف سهل فيها مهمة الدعاة العباسيين … يجب أن نذكر هنا أن حكم معاوية كان طور التأسيس لحكم سلالته و أن خلفائه قد استخدموا سياسات مختلفة تمامًا بما في ذلك القمع المفرط ضد رموز و أشخاص و أماكن مرتبطة بالمقدس مباشرةً عند اللزوم … و أن نذكر أن النظام الملي العثماني قد أصبح قاصرًا فيما بعد عن تحقيق الاستقرار المنشود بعد أن بدأت الأفكار و النزعات القومية تزداد تأثيرًا و انتشارًا بين شعوب الدولة العثمانية … بالمقابل فإن ظهور فيدراليات مستقرة كما في سويسرا و بلجيكا و امريكا كان نتيجة لتطور محلي لقوى رأس المال و ما رافقها من نزع للهويات “قبل الوطنية” أو ما قبل الدولة الوطنية و هو طريق يبدو مسدودًا أمام مجتمعاتنا حتى اليوم … صحيح أننا في مرحلة انتقالية لكن السلطة الحالية لا تتصرف كذلك ، إنها تتصرف كسلطة باقية و تسعى لترسيخ هيمنتها على مفاصل الدولة ، ما يوجد منها على الأقل و يبدو أنها تسعى لإيجاد أفضل شكل لتلك الهيمنة يلقى قبول القوى الإقليمية و الدولية الرئيسية مع محاولتها إعادة بناء المؤسسة الأمنية و العسكرية بما يضمن تلك السيطرة و يحافظ على ذلك القبول ، ولا يعني هذا بالضرورة إعادة بناء دولة سورية قادرة و لا ديموقراطية بالضرورة خاصةً إذا عنى ذلك تقليص صلاحيات القيادة الراهنة أو فتح المجال أمام استبدالها ديمقراطيًاً.

———————————————————————————–