شكلت الثورة على مر العصور إحدى أدوات التغيير الأساسية لمواجهة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، مستهدفةً إعادة تشكيل هذه البنى وفقًا لرؤيتها، ورغم صعوبة قيام ونجاح الثورة في سوريا لأسباب بنيوية متعددة تتعلق بالنظام الأمني الذي كان قائمًا من ناحية، وذاتية ترتبط بحركية الثورة في مجتمع قواه الأساسية قوى تقليدية من ناحية أخرى، فإنَّ سقوط النظام وبدء المرحلة الانتقالية في إطار ديمقراطي هي المرحلة الأصعب، نظرًا لأن المرحلة الانتقالية بطبيعتها مرحلة تتصف بالاضطراب والتعقيد وعدم الوضوح، لكونها مرحلة يتم فيها بناء توازنات جديدة ضمن النظام السياسي للدولة. لذلك يستحيل أن يكون مسار الانتقال السياسي مسارًا خطيًا دون تعرجات، ولا توجد وصفات سحرية أو ثابتة للانتقال الديمقراطي لاسيما في الحالة السورية بعد 54 عامًا من التصحر السياسي.
هنا تنطرح الإشكالية الأساسية أمام الثورة السورية بعد سقوط النظام السوري، وهي إمكانية الأيديولوجيا الثورية، بما تحمله من مخزون أصولي إسلامي على الانتقال إلى مرحلة بناء الدولة في إطار ديمقراطي. لا سيّما أنَّ الحالة الثورية الحالية تُنظّر لحالة القطع مع الواقع السابق وقصه من جذوره والتصميم على إبداله بتمامه بواقع جديد، إضافة إلى إقصاء كل فكر مغاير أو حتى غير متطابق مع فكرها، وهو ما يتنافى مع نزعة الفلسفة الديمقراطية التي تسمح لكل الأفكار بالنمو وطرح نفسها بطريقة عقلانية ومطردة بعيدًا عن المواقف المسبقة، وتعمل بشكل أكيد على المراكمة والحفاظ على المؤسسات القائمة بعيدًا عن أشكال الإقصاء والإلغاء.
هذه الإشكالية واجهتها معظم الثورات في العالم على مر التاريخ، أو ما يسمى الخيار الصعب بين تحطيم كل شيء في النظام السابق أو إعادة هندسة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة عقلانية منفتحة تتيح للجميع المشاركة مع استبعاد قوى النظام السابق الفاسدة، وتبني على الإيجابي في المؤسسات القائمة. ولم يثبت حتى الآن أن ثورة نجحت في تحطيم كل ما سبقها من أفكار مهما بلغت قوتها، وذلك لأن القوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في الأنظمة السابقة على الثورة تترك آثارها البعيدة المدى على المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، لا بل إن محاولة التدمير المباشر والفوري تؤدي بطبيعة الحال كما حدث على مستوى مختلف الثورات، ولا سيما الفرنسية في الماضي وثورات الربيع العربي حاليًا، إلى انتكاسات كبرى تعيدنا إلى عهود الاستبداد وتمنع الثورة من تحقيق أهدافها الكبرى على مستوى الحريات وبناء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي أكثر عدالة. وبالعكس، فإن إعادة هندسة المؤسسات القائمة والمصالحة ضمن المجتمع مع عدم التنازل عن مبادئ الثورة، تضمن الوصول الآمن إلى أهداف الثورة بأقل الخسائر الممكنة كما حصل في جنوب إفريقيا ورواندا.
إذن، فإن التجارب العالمية تؤكّد على ضرورة التفريق بين بنية الدولة وبنية النظام، بين أصحاب القرار في مؤسسات النظام السابق، وبنية هذه المؤسسات التي هي مجرد أدوات تضمن الحفاظ على بنية الدولة وتمنعها من الانهيار، بين الإقصاء والإلغاء لقوى سياسية لجميع القوى السياسية التي لا تتوافق مع الخط الإيديولوجي لسلطة الأمر الواقع الحالية، والتواصل والتفاهم مع جميع القوى السياسية بما يفسح المجال لفكرة الديمقراطية لكي تنمو وتحقق أهدافها في ضمان بناء الدولة وتحقيق السلم الأهلي، ووضع قواعد سليمة للبناء الديمقراطي من أحزاب وقوى مجتمع مدني وإلا مات الجنين الديمقراطي السوري قبل أن يولد، وأعيد خلق بنى مشوهة متخلفة عاجزة عن بناء الدولة لافتقادها الحيوية التي تمنحها الديمقراطية بمختلف مضامينها وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
