عن الصراع في مجتمعاتنا

مازن كم الماز


ليس مفهوم أو شعار الدولة المدنية ليس إلا يوتوبيا، حلم، وكذلك هو أداة سيطرة وبروباغندا. لنحاول فكفكة هاتين الكلمتين من أجل فهم ما الذي يقصده أولئك الذين يتحدثون عنه. أولًا، بالنسبة إلى الإسلاميين، ومن يلف لفيفهم من ليبراليين ويساريين، كانوا يُعرّفون بهذا الشعار شكل سيطرتهم المقبول اجتماعيًا والمتوافق مع الأيديولوجيا السائدة عالميًا، الليبرالية بأشكالها المحافظة والنيوليبرالية والنيو كولونيالية. في العمق، لم يغير هؤلاء هدفهم ولا تصوراتهم عن الدولة المثالية، دولتهم، ولا طبيعة علاقتها بالمجتمع الذي تحكمه. فما فعله هؤلاء هو أنهم اكتشفوا في الدولة الإسلامية القروسطية ملامح وسمات “مدنية”، وعليه أعادوا توصيف دولتهم النموذج، الدولة الثيوقراطية، دولة الاستبداد الشرقي القائمة على الحق الإلهيّ عبر ما يسمونه بالشرع، كحالة فوق إنسانية يزعمون أنهم أيضًا خاضعون إليها كبقية البشر، لكن وضعيتهم كمنفذين لها ومشرفين على تطبيقها وفرضها ومراقبة ذلك الفرض وحماية قدسيتها ومنع البشر من مس تلك القدسية، تمنحهم وضعية ملوك بابل ومنف أو طيبة في العصور الغابرة كأبناء للإله. في المقابل، بالنسبة إلى الليبراليين العرب، وهم مصابون بذات أمراض اليسار العربي السابق، وأخطرها هي جبنهم وترددهم، فالمدنية هي تخفيف لليبرالية، أيديولوجيا المجتمعات الغربية المتقدمة، بعد تعديلها بما يتناسب مع الوعي القطيعيّ السائد في مجتمعاتهم لتصبح في نظرهم الكلمة السحرية للانتقال السحري المفاجىء بضربة واحدة إلى حالة تلك المجتمعات المتقدمة. لكن وراء الأكمة ما هو أكثر من هذه السفسطة النظرية، فالمدنية الإسلامية هي طريق نخبة خليط من البرجوازية الكبرى والصغيرة ومن البروليتاريا الرثة إلى السلطة، جاء هذا الخليط من مجتمعات محافظة أصيبت بالفزع من انهيار سيطرة وصفتها الأخلاقية وسقوط هيمنة رموزها على الفضاء العام وتحرير هذا الفضاء جزئيًا بما يعنيه ذلك من انهيار كل امتيازات تلك المجتمعات المحافظة المادية والاقتصادية وتلك المتعلقة بالسلطة. في المقابل، يرى خصوم المدنية الإسلامية في شعار المدنية استمرارًا لمعظم الحريات الاجتماعية التي تحققت، أولًا بفضل محاولات عصرنة السلطنة العثمانية، ثم قدوم الاستعمار، وبعده حكومات استبدادية لم تقترب من تلك الحريات الواسعة، وحاولت خلق توازن مجتمعي بين الأجزاء الأكثر محافظة وتلك الرافضة للمحافظة عبر القمع وتزييف وعي جمعي بلا هوية ولا قيم حقيقية. قامت البرجوازية الصغيرة بمراجعة تاريخية، وقررت في مسعاها لبناء يوتوبياها أن “تتصالح” وتقبل بسيطرة الأجزاء الأكثر محافظة على السلطة والفضاء العام، مقابل قيام الأخيرة بإسقاط أنظمة الاستبداد ومشاركة السلطة معها وفتح باب الصعود الاجتماعي أمامها الذي كان شبه مسدود بوجود تلك الحكومات القمعية الاستبدادية. استند هؤلاء في “تكويعهم” الفكري والسياسي إلى تزييف متعمد وواعي لمفاهيم ليبرالية، بينما كان السبب الحقيقي وراء ذلك “التكويع” أو الانقلاب الفكري السياسي هو ضعفها الشديد لدرجة العجز، سواءً أمام الحكومات الاستبدادية أو أمام التيار الإسلامي المحافظ الطاغي. والانقسام اليوم في مجتمعاتنا هو ما بين ذلك التحالف الطبقي المحافظ الذي تتبادل الصدارة فيه أقسام من البرجوازية الكبيرة والصغرى والبروليتاريا الرثة وبين الطبقة الوسطى الأكثر “ليبرالية”، اللتان كانتا حتى الأمس في تحالف علني غير مقدس؛ وكحال الإقطاع المتبرجز الذي حكم بلادنا بعد الاستقلال والذي وقف عاجزًا أمام صعود البرجوازية الصغيرة ونجاحها أولًا في فرض ثقافتها على التداول العام، ثم في الاستيلاء على جهاز القمع الأساسي لتطيح بالحكام السابقين قبل أن تبدأ صعودها، أو انحطاطها، إلى السلطة، فإنَّ الطبقة الوسطى اليوم مهزومة سلفًا، وللأسباب نفسها التي أدت إلى هزيمة الإقطاع المتبرجز الذي شكّل حكومات ما بعد الاستقلال، وهي أنها لا تملك أنيابًا تسمح لها بفرض سلطتها أو الدفاع عن حصة ما في السلطة، وعدم امتلاكها ثقافة وفكر خاصين بها وعجزها واستنكافها عن محاولة وضع هكذا مشروع ثقافي وفكري واسع عريض ومعارض أو تغييري. يعكس هذا في العمق انحطاطًا أعمق يضرب جوهر مجتمعاتنا بفعل غياب مشاريع مقاومة جدية سوى بعض المحاولات التي تعيش في الهوامش البعيدة بعيدًا عن مركز الصراع والوعي العام، وكذلك عجز مزمن في مجتمعاتنا عن الخروج من حالة التبعية والعطالة والهدوء والاستقرار والاعتماد على الآخرين والدوران حولهم في مراوحة في المكان.