العدد التاسع والثمانون من جريدة المسار – حزيران ٢٠٢٤

  • الافتتاحية: هل يمكن تفسير السياسة بالثقافة؟
  • إسرائيليون ضد سياسة إسرائيل – مصطفى هيثم سعد
  • حل الدولتين: هل فعلاً ليس هناك دولة فلسطينية؟ – رامز باكير
  • الجماعة السياسية – محمد سيد رصاص
  • المحكمة الجنائية الدولية الدائمة – (مكتب الدراسات والتوثيق بهيئة التنسيق الوطنية)
  • يوتوبيا تحت شـمس المـتـوسـط: هجرة الأفكار والحركات التحررية من أوروبا إلى مصر بين 1848 و 1920

باستثناء الافتتاحية والبيانات الموقعة من الحزب فإن النصوص والمقالات الواردة في العدد لا تعبّر بالضرورة عن  رأي الحزب.


الافتتاحية:

هل يمكن تفسير السياسة بالثقافة؟

في كانون الثاني عام 2014 قتل مؤسس تنظيم «داعش» الفعلي سمير الخلفاوي (الملقب بـ«حجي بكر»)، في بلدة تل رفعت شمال حلب على يد فصيل مسلح سوري معارض. فوجئ المهاجمون لبيته حيث قتل بأن المنزل لا يحوي نسخة من المصحف بل كومبيوترات وكروت «سيم» وجهاز GPS مع مخطط تفصيلي لبنية «داعش» مكتوب بخط يده مع مهمات تنفيذية محددة لأجهزة التنظيم. في التحقيق المطول الذي نشرته مجلة «دير شبيغل» الألمانية، عن ذلك بما فيها صور الوثائق، يوم 18 نيسان 2015، يروي صحافي عراقي شيعي عن ابن عمه الذي كان يخدم مع الخلفاوي ،الذي كان ضابط مخابرات في قاعدة الحبانية الجوية بفترة ما قبل سقوط بغداد بيد الأميركي ،الوصف التالي للخلفاوي: «لم يكن إسلامياً بل ذو نزعة قومية». عندما سرح الحاكم الأميركي، بول بريمر، الجيش العراقي وألغاه كمؤسسة، اشتغل العقيد السابق في المخابرات سائق تكسي ثم سرعان ما التحق بالزرقاوي مؤسس «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» عام 2004، وبعد مقتل الأخير عام 2006 دخل الخليفاوي إلى سجن بوكا حتى 2008 حيث تعرف إلى أبو بكر البغدادي، وعندما قتل جميع أفراد قيادة «دولة العراق الإسلامية» في نيسان 2010 بغارة أميركية على مقر اجتماع تلك القيادة قام الخلفاوي باستدعاء البغدادي وتنصيبه «أميراً» وشكّل مجلس القيادة الجديد، وكان نصفه من ضباط الجيش والاستخبارات العراقية السابقين، وأصبح هو المسؤول العسكري ، وكان هو من أقنع البغدادي بإرسال الجولاني إلى سورية أواخر 2011، ثم ذهب إلى هناك أواخر 2012 ،وعندما رأى نمو «جبهة النصرة» الكبير قام بإقناع البغدادي لكي يعلن «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) يوم التاسع من نيسان 2013.

عند السني المتدين هناك «عِدّة» في المنزل: المصحف وصحيح البخاري وسجادة الصلاة، وبخاصة في منزل رجل يعيش سراً ولا يختلط بالناس ولا يذهب إلى المسجد. لم تكن تلك العدّة موجودة في ذلك المنزل في تل رفعت. هناك روايات تتداول شفهياً وصلت إلى الصحف الأجنبية، بأن الخلفاوي لم يكن فقط غير متدين في زمن صدام حسين بل كان يشرب الخمر. لا يمكن تفسير تحوله في مرحلة ما بعد سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي يوم 9 نيسان 2003 (لاحظوا إعلان تأسيس «داعش» في الذكرى العاشرة لذلك اليوم) عبر الثقافة و«الهداية الدينية» بل عبر ممرٍّ من مسربين: المحتل الأميركي والأحزاب الشيعية السياسية التي تولّت الحكم بفعل التحالف الأميركي ــ الإيراني في العراق المغزو والمحتل بكل ما تعنيه السلطة والحكم من مصالح اقتصادية ــ اجتماعية. لا يمكن تفسير خلعه القميص العروبي من دون هذا الممر وارتدائه القميص السلفي الإسلامي الجهادي: أي جاءت إسلاميته الجديدة رد فعل على ذلك.

مع ظاهرة انتشار «داعش»، هناك آراء تطلق بأن «داعش» يفسر بـ «القرآن» و«السيرة النبوية» وابن تيمية وابن عبد الوهاب وحسن البنا وسيد قطب. الغريب أن أصحاب هذا التفسير للسياسة عبر النصوص هم من الماركسيين حيث تفسر السياسة عند ماركس بوصفها بنية فوقية تستند إلى بنية تحتية اقتصادية ــ اجتماعية. الماركسي غير معذور بذلك. أما آخرون، من ليبراليين وغيرهم، فيمكن أن يكونوا في إطار التفسير الثقافي للسياسة. ولو أن الليبرالية في الغرب قد تجاوزت ذلك، وأصبحت تسلّم بالتفسير الماركسي للسياسة بوصفها تقوم وتبنى وتحرك أساساً وفق العامل الاقتصادي- الاجتماعي  وإن كانت تأخذه لحسابها الخاص. لا يستطيع هؤلاء الماركسيون، ويجب وضعهم بين العديد من الأقواس، تفسير اضمحلال الحزب الشيوعي العراقي بين يوم 1 أيار 1959، عندما أنزل مليون شخص (أغلبهم شيعة) لشوارع بغداد وبين انتخابات عام 2005، عندما فازت الأحزاب والحركات الشيعية العراقية بأغلبية مقاعد البرلمان، ولم يستطع الحزب الشيوعي أن ينال سوى مقاعد معدودة كانت أقل من أصابع اليد الواحدة، حملوا حملاً عبر قائمة مشتركة مع آخرين، كما لا يستطيعون تفسير ارتفاع حزب الدعوة من كتاب مؤسسه السيد محمد باقر الصدر: «فلسفتنا» عام 1959 الذي يبنى على التضاد الفلسفي مع الماركسية إلى حزب يتولى السلطة مع نوري المالكي وحيدر العبادي. هذه «الماركسية» تنحدر إلى مسارات تحليلية لا علاقة لها بالماركسية، تفسر السياسة بالثقافة، وتفسر تحولات الناس الفكرية – السياسية بـ«الجهل» و«التخلف» و«ضعف الثقافة»، وبأنهم «غنم» أو «طرش»، وهي مصطلحات لا يمكن أن يتبناها إلا فاشيون ونازيون على طراز موسوليني وهتلر، ينظرون إلى الناس والمجتمع من منظار «القائد الملهم»: الدوتشي والفوهرر ويقتلون المخالف الفكري ــ السياسي تماماً كما يفعل الداعشيون، وليس ماركسيون يؤمنون بالجماهيروبصراع  الطبقات وبالديموقراطية.
ينتشر هذا التفسير الثقافي للسياسة أيضاً عند آخرين من غير الماركسيين. موجة بدأت مع انحسار «الإسلام السياسي» منذ سقوط حكم مرسي في القاهرة، حيث قدرت إحدى الصحف الغربية بأن «حكم الإخوان المسلمين قد أنتج مليون ملحد بين المسلمين المصريين في عام واحد»، تماماً كما أنتج البعثيون في بغداد ودمشق موجة من النفور من العروبة، وأيضاً كما يلاحظ كل من يزور إيران الخمينية ــ الخامنئية، بأن الشباب الإيراني أقل تديناً بكثير من الشباب العرب. هذه الموجة تنتج رد فعل فكري ــ ثقافي ــ سياسي يأخذ شكل «إلحاد سطحي» و«يسارية طفولية» و«علمانية» لا تقوم على بنائية فكرية بل على رفضية فكرية لـ«آخر»، وتتحدد كمضمون من خلال الرفضية وليس البناء المضموني الذي يقوم ليس بدلالة (الآخر)، بل بدلالة (الذات). يمكن أن يكون ذلك ليس فقط مؤشراً على انحسار الإسلاميين، وإنما على بدء موجة يسارية جديدة، ولكن إن لم يتم تحويلها من «رفضية» إلى (بنائية)، فإن مصيرها سيكون التلاشي مثلما حصل مع «اليسار الجديد» الذي نشأ عند العرب كرد فعل على هزيمة حزيران 1967، عند أحزاب وحركات قومية: «حركة القوميين العرب» التي تحولت كل فروعها للماركسية، مثلاً، ثم انتهى ذلك لتبدأ موجة إسلامية في فترة ما بعد وفاة الرئيس عبدالناصر عام 1970.
في السبعينيات كانت بلدة الموحسن، على الفرات قرب مدينة ديرالزور جنوباً، تسمى بـ «موسكو الصغرى» بسبب طغيان وجود الشيوعيين هناك على أي اتجاه سياسي آخر بما فيه حزب البعث الحاكم. وفي انشقاق 3 نيسان 1972 وقف شيوعيو الموحسن كلهم مع جناح خالد بكداش الموالي للسوفيات، برغم الأرجحية الواضحة لجناح المكتب السياسي، في مدينة ديرالزور. في عامي 2012 و2013 كان هناك نمو كبير لـ«جبهة النصرة» في الموحسن ثم لاقى «داعش» أرضاً خصبة هناك في عام 2014. هل يفسر هذا التحول الفكري ــ السياسي بـ«الثقافة» أم من خلال تفسيره بالتهميش الاقتصادي ــ الاجتماعي لسكان منطقة الفرات حيث الثروات الأساسية لسوريا: الماء والقطن والنفط؟..حالة (الموحسن) كان هناك شبيه لها في بلدة سلقين بمحافظة إدلب  في الأزمة السورية منذ عام2011كانت أرضاً خصبة لجبهة النصرة: هل يمكن تفسير هذه والتي كانت تسمى في السبعينيات والثمانينيات باسم (موسكو) بسبب كثرة الشيوعيين فيها،ثم الحالة السياسية بالثقافة، أم يجب البحث عن شيء آخر؟


إسرائيليون ضد سياسة إسرائيل

مصطفى هيثم سعد

“رواق ميسلون”- أيار 2024

العدد13

https://rowaq.maysaloon.fr/archives/9856?fbclid=IwZXh0bgNhZW0CMTEAAR29L7nf-bMu1lO9FhAr-upIfDgfbhp4Xk2G-koVWaHS39ubcAvu0qXW7H8_aem_AXTaqq_ij49MH0lKEtuL98inrp8d3nDy4sjarsIZgt42Cz0YorhSEyFA-9jIQSXbKYiAn-CQDkE5zIbIQg6MQTUs

تاريخيًا، وبعد تشتت اليهود منذ السبي الروماني لم ينشأ لديهم إلا اتجاهان فكريان.

الاتجاه الأول هو خط يهودي متدين يرى أن الحفاظ على الهوية اليهودية يتم من خلال التمسك بالدين والشعائر والطقوس وذلك كما جاء في كتبهم المقدسة بانتظار المسيح المخلص (المسيا).

والاتجاه الثاني جاء مع حركة التنوير الأوروبية وخاصة في مطلع القرن الثامن عشر، كان ينادي ويرى أن على اليهود الاندماج والذوبان في المجتمعات التي يعيشون ضمنها. (الهسكالاه).

المشكلة اليهودية بدأت بوضوح في أوروبا ليس بعد طردهم من غرناطة 1492 بل بعد معاهدة وستفاليا 1648 وما نتج منها من بداية نشوء الدولة القومية، والتي تعني بشكل أو بآخر بالمفهوم اليهودي السائد ضعف اليهود داخل هذه المجتمعات فزادوا من قوقعتهم وانغلاقهم على ذاتهم، تميزوا باللباس والعادات عن باقي المجتمع وسكنوا بأحياء خاصة بهم، مع تأكيدهم فكرة أنهم شعب الله المختار وأن الآخرين (أغيار أو غوييم) أي بشر من درجة أقل، ونقطة التفوق الأهم من تلك المظاهر والادعاءات كلها هي الدور الاقتصادي الذي أدّوه واستطاعوا من خلاله السيطرة على الاقتصاد النقدي.

هذه جملة من الأسباب التي أدت لاضطهاد الأكثرية المسيحية للأقلية اليهودية، والنظر باحتقار إلى هؤلاء المرابين الذين يعبدون إلهًا واحدًا هو المال والذهب والتذكير دائمًا بأنهم قتلوا المسيح، هذه التهمة لم يُبرَّؤوا منها حتى خريف عام 1965 عندما قرر البابا يوحنا الثالث والعشرون أنه من الظلم محاسبة الخلف على أفعال السلف، ولا يجوز أن يرث الخلف أي يهود اليوم مسؤولية هذا الدم فصدرت وثيقة تبرئتهم من دم المسيح.

وهكذا وضعت المشكلة اليهودية تحت المجهر أول مرة من خلال برونو باور وهو فيلسوف ألماني من اليسار الهيغلي، رأى باور في كتابه “المسألة اليهودية” الذي نشر عام 1843 أن الحل يكمن في تخلي اليهودي عن يهوديته، ليسعى كألماني لبناء الدولة الألمانية العلمانية التي ستكفل حقوقه وحقوق غيره. متهمًا اليهود بالأنانية وأن انتماءهم ليس للأوطان والبلدان التي يقيمون فيها، وأن مطلبهم بالتحرر غير مقبول لأن لهم مطلب تحرر خاص بهم كيهود ليس كألمان ولا يخص الإنسانية جمعاء.

المفكر الكبير كارل ماركس بكتابه “حول المسألة اليهودية” الذي كتبه 1843 ونشره في العام الذي يليه. كان له هدف برونو باور نفسه ولكن من زاوية مختلفة. يرى ماركس أن المشكلة اليهودية ليست دينية والسؤال ليس كما طرحه باور من يحرر من؟ الألماني يحرر اليهودي أو اليهودي يحرر الألماني؟ بل أساس المشكلة يكمن في جوهر ومضمون التحرر، والمسألة لها أبعاد أخرى اجتماعية_ اقتصادية في المقام الأول. لذلك بحث في الأسباب الاجتماعية وكيف يمكن إلغاؤها، وطرح السؤال الأتي: ما هو الأساس الدنيوي للمسألة اليهودية؟ وأجاب: المصلحة والمنفعة، والمال الذي كان يُعدّ بمنزلة الإله الحقيقي لليهود ولكن هذا الإله لم يبق يهوديًا بل أصبح إلهًا للناس كلهم، ومن ثم يكمن الحل في تخلي المجتمعات على اختلاف دينها ومذاهبها عن “يهوديتها”، وهكذا رفض دعوة باور لتخلي اليهودي عن دينه ورأى أنها ليست الوصفة اللازمة لذلك المرض. ظهر الاتجاه الفكري الثاني (الاتجاه الفكري الأول هو الديني) عند اليهود على يد نخبة من المتنورين الليبراليين على رأسهم الفيلسوف اليهودي الألماني موسى مندلسون، لتغيير حال اليهود ورفض سيطرة السلطة الحاخامية متأثرين بالإصلاح الديني البروتستانتي وبفلسفة التنوير الأوروبية، ولمعرفتهم بأهميتهم المالية والاقتصادية مستغلين الثورة الاقتصادية، وأخيرًا للتخفيف من الظلم والاضطهاد المسيحي لهم وخاصة في أوروبا الشرقية.

انتشر هذا الاتجاه المسمى (الهسكالاه) في أوروبا الغربية واتجه شرقًا إلى بولندا وروسيا، ونادى رواده بمعارضة التعصب والخرافات، وإعمال العقل، والانتقال للتخلي عن كل ما يتميزون به من خصائص لمصلحة المجتمع والوطن والدولة، وترسيخ فكرة أن اليهودية دين وليست قومية، كما لخصها الشاعر اليهودي الروسي يهودا ليف جوردون: ” كن يهوديًا في بيتك كن إنسانًا خارج بيتك”.

أخفقت الحركة في تحقيق أهم أهدافها ألا وهو رفع الظلم عن الشعب اليهودي.

انتشرت معاداة السامية أكثر وتعرض اليهود للمذابح في روسيا بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني 1881 واستمرت لمدة ثلاث سنوات، الأمر الذي أدى إلى تهجير قسم كبير منهم إلى جنوب سورية (فلسطين)، ووقوع مذبحة كيشينيف عام 1903 والتي عززت فكرة الهجرة عند المترددين من اليهود.

في فرنسا جاء صحافي يهودي شاب يدعى تيودور هرتزل لتغطية قضية دريفوس لجريدة “نيو فري برس” وعندما رأى مظاهر معاداة السامية وكره الفرنسيين غير اليهود لليهود، كتب عام 1896 كتابه “الدولة اليهودية”، والذي قامت على أسسه الحركة الصهيونية في العام التالي لصدوره وليصبح كتابها المقدس.

مثل هذا الخط وهذه الرؤية خطًا جديدًا ثالثًا في المجتمعات اليهودية المتفرقة في عديد من البلدان.

واجه الخط الثالث الخطين السابقين الذين اعترضا على إقامة وطن قومي لليهود، وكانت حجة التيار الديني أن أرض الميعاد سيحصلون عليها بوعد من الله وليس من بلفور، وأنها حق إلهي سيصلون إليه بعد ظهور مخلصهم وليس هبة من بريطانيا. وظهرت أحزاب سياسية أخرى كحزب البوند 1897 (اتحاد العمال اليهود لغرب روسيا وليتوانيا وبولندا) وهو حزب ماركسي اشتراكي خاص باليهود يرفض الصهيونية وإقامة وطن خاص باليهود، ويبحث لليهود عن حقوقهم الثقافية والفكرية في مجتمعاتهم بعيدًا مما يسمى “القومية اليهودية”.

يستمر الضغط على يهود أوروبا ويتعرضون لأنواع الذل والتمييز والأذى شتى على المستويين الاجتماعي والمؤسساتي في الدول التي يقيمون فيها. ذروة الاضطهاد 1933 _1945 مع صعود النازية للحكم في ألمانيا، حُرقوا وأُبيدوا وكانت حملة تطهير عرقي _لا ينكرها إلا بعض المعاتيه من الإسلاميين والعرب أتباع نظرية “المؤامرة”_ وهي تشبه ما فعلوه لاحقًا بشعب فلسطين، الأمر الذي أدى إلى ضرورة إيجاد الوطن اليهودي الآمن لهم. (يستطيع قارئ التاريخ ملاحظة اليهود في المجتمعات الإسلامية منذ العباسيين ومقارنته مع وضعهم في المجتمعات الأوروبية المسيحية).

عند قيام دولة إسرائيل في أيار/ مايو 1948، كان لاعتراف الرئيس السوفياتي جوزيف ستالين بتلك الدولة أثر كبير على اليسار في أنحاء العالم كلها حتى العربي في البلاد الإسلامية. فصار الخلاف مع الكيان الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية على ممارسات هذه الدولة وأفعالها وليس على وجودها، فقد تعاملوا معها كأمر واقع.

إسرائيليون ضد السياسات الإسرائيلية:

ماير فيلنر: سياسي إسرائيلي ووممثل للحزب الشيوعي في الكينيست. يرى أن الاستعمار الأنجلو-أميركي هو المسؤول الأول عن قضية اللاجئين العرب ويصفها بالقضية شديدة الخطورة بمشاركة زعماء جامعة الدول العربية الذين رفضوا قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 ويتحملون المصائب التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني من بؤس وتهجير وقتل، طبعًا إضافة إلى الرجعية اليهودية التي ساهمت في خلق هذا الجو الجديد بممارستها الإرهاب والقتل على العرب الأمر الذي جعل عديدًا منهم يختار الفرار ليصبح نازحًا.

ولأن أغلبية سكان إسرائيل دخلوا البلاد بعد إعلان تأسيسها وكان معظمهم في حينها من الشبان، كان من السهل على الحكومة الإسرائيلية خداعهم وخلق رأي عام إسرائيلي ضد السلام العربي، فالحكومات الإسرائيلية تريد إنكار حقوق الفلسطينيين وتجاهل وجودهم.

كانت حكومتا بن غوريون وبعده ليفي أشكول متصلبتين تجاه قضية اللاجئين والحدود، ويتلخص موقفهما بالشعار القائل: “لا عودة للاجئ واحد ولا تنازل عن شبر أرض واحد”.

فيلنر كان مع عودة اللاجئين وينتقد ادعاءات الحكومة الإسرائيلية التي تقول إن عودتهم إلى بلادهم يعني انهيار إسرائيل، كان يؤكد دائمًا على إعطاء العرب الفلسطينيين حقهم وإقامة سلام مع الجوار لما في ذلك من خير وازدهار للمنطقة كلها. جاء في مادة منشورة له بعنوان: القضية الفلسطينية والنزاع الإسرائيلي-العربي في كتاب ” من الفكر الصهيوني المعاصر” في الصفحة 283:

إن تصريحات الأوساط الحكومية الإسرائيلية التي تنكر وجود جماعة عربية في فلسطين، والتي تطالب العرب بحلّ مشكلاتهم فيما بينهم ليست إلا تصريحات غوغائية. فالكلمات المدّعية لن تمحو وجود هذا الشعب الفلسطيني، فهو موجود بقدر ما يوجد شعب في مصر وسورية والعراق والبلدان العربية الأخرى. إذ يعود إلى الشعب العربي في فلسطين أن يقرر كيفية تطبيقه لحقه في تقرير المصير: عن طريق إنشاء دولة مستقلة، أو عن طريق آخر، أما واجبنا نحن فهو الاعتراف بحق هذا الشعب في تقرير مصيره، وبذلك تُجَر الدول العربية إلى الاعتراف بحق الشعب الإسرائيلي في تقرير مصيره، وبوجود دولة إسرائيل. ذلك هو الطريق الوحيد المؤدي إلى الأمن والسلام.

لهذا السبب، فإن مشكلة اللاجئين ليست مشكلة إنسانية مؤلمة فحسب، بل هي أيضًا جزء عضوي من المسألة الفلسطينية والمسألة القومية لشعب فلسطين العربي. تريد الأوساط الرجعية إقناع الرأي العام بأن الاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني يعني إنكار حقوق الشعب الإسرائيلي. نحن نتبنى رأيًا مغايرًا: تلك هي بالضبط وسيلة الحصول على الاعتراف بحقوق إسرائيل.

موشي سنيه: طبيب وسياسي إسرائيلي كان رئيسًا للهاغانا وبعدها انضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومثله في الكنيست، رئيس تحرير صحيفة صوت الشعب.

يرى أن على إسرائيل أن تندمج في محيطها العربي، وأن تفرض نفسها على وجدان العرب وعقلهم، ولن تستطيع أن تكون بلدًا آمنًا من دون ذلك، فالتقارب مع المحيط العربي والإسلامي والتفاهم معه ضرورة موضوعية لدولة إسرائيل، لكن السياسات الإسرائيلية لم تلتفت أبدًا إلى هذه الضرورة.

موشي سنيه كان واضحًا وصادقًا مع نفسه وتجلى هذا في موقفه الواضح والعلني عندما كان يطالب الحكومة الإسرائيلية ألا توالي الغرب الطامع في المنطقة والمعادي للعرب، ويرى أنه كان من واجب الحكومة الإسرائيلية أن تعلن دعمها لعبد الناصر عند تأميم قناة السويس لأسباب أيديولوجية تجمع بينهم وبين مصر ولتحطيم الحواجز بينهم وبين الجوار العربي، والاستفادة من الأزمة المصرية بهذه اللحظة الحرجة لمصر لفتح صفحة جديدة في المنطقة، لكن حكومة بن غوريون أخطأت وشاركت في العدوان على مصر.

وقدم رأيه هذا إلى الكنيست في جلسته المنعقدة في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1956.

وكان موشي سنيه يعتمد على رؤية لينين للصراع القومي ورسم خط للحل وفق المبادئ اللينينية.

الحزب الشيوعي الإسرائيلي “ماكي”: كان معاديًا بشدة للصهيونية، انقسم لاحقًا وانشقّ عنه الحزب الشيوعي “راكاح” الذي ضم عديدًا من المثقفين العرب واعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية الأمر الذي زاد من جماهيريته ضمن صفوف الشعب الفلسطيني، ونتج من ذلك تولي الشاعر توفيق زياد منصب رئيس بلدية الناصرة في الانتخابات التي جرت 1975. أنشأ جبهة مع قوى سياسية عربية ويهودية “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” التي دعت إلى انسحاب إسرائيل من أراضي 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية عليها.

أما على الصعيد الديني، فـ الأحزاب الدينية اليهودية كلها تعادي الممارسات الصهيونية (الحريديم) وتتعامل مع إسرائيل أيضًا كأمر واقع. أهمها حزب أغودات إسرائيل هو حزب متزمت دينيًا اندمج مع أحزاب أخرى وأحدث كثيرًا من الاضطرابات في الداخل الإسرائيلي للحفاظ على نمط الحياة المتدين للشعب اليهودي، وطالبوا بمنع تقديم لحم الخنزير في المطاعم وعلى الخطوط الجوية الإسرائيلية (العال)، ومنع لعب مباريات كرة القدم يوم السبت.. إلخ كما طالبوا بتعريف اليهودي وهو الشخص الذي ولد من امرأة يهودية، وهذا المطلب الأخير سبب حدوث مشكلات عدة مع المهاجرين وخاصة من روسيا، وفي خمسينيات القرن الماضي أحدثوا محاكم خاصة بهم.

جدير بالذكر أن الحريديم وأنصارهم خرجوا بمظاهرات ضد الكتاب الأبيض 1939.

الاستثناء في الأحزاب الدينية هو حزب المفدال وهو حزب ديني قومي أسس الصهيونية الدينية.

لا يمكن ذكر جميع اليهود المعادين للسياسات الإسرائيلية، والمطالبين بحل يضمن للفلسطيني حقه كإنسان وكشعب، والمدافعين عنه وفق الممكنات والشرعية الدولية بعيدًا من العنتريات و”الخزعبلات” العربية والإسلامية (إيرانية وتركية)، أمثال المؤرخ إيلان بابيه وغيره ولو أنهم قلة ضعيفة ليس في إسرائيل فقط، بل في العالم الذي ينحسر فيه دور اليسار وتطفو اليمينية المقيتة في دوله التي تعد مهد التنوير والديمقراطية. قد يكونون الأمل الأخير للشعب الصامد الذي تخلت عن قضيته الأنظمة العربية التي تدعمه بسلالٍ غذائية؟..

____________________________________________________________

حل الدولتين: هل فعلاً ليس هناك دولة فلسطينية؟

رامز باكير

٢٧ أيار ٢٠٢٤

https://www.syrncc.org 

(موقع هيئة التنسيق الوطنية)

يعرف ماركس ”الدولة“ على انها اداة للقمع الطبقي وتزول أو تبدأ بالاضمحلال مع مركزيتها ما أن تبدأ التناقضات المجتمعية المبنية على اسس طبقية بالزوال، ليحل محلها نوع من التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يحقق إدارة ذاتية للمجتمع بدون الحاجة إلى سلطة مركزية، وهو تعريف جاء كنقد لشكل الدولة القومية أو نمط التركيبة  الدولاتية السائد منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، طبعاً خلافاً لتعريفات الدولة المختلفة كالتعريف الاسلامي، وتعريف هوبز و روسو و غيرهم.

يذكرني توافد الاعترافات “بالدولة” الفلسطينية مؤخراً وخاصةً بعد اعتراف كل من السويد و ايرلندا و اسبانيا- بموضوع عودة منظمة التحرير الى الداخل الفلسطيني بعد ان تقطعت بها السبل عربياً و اُفشل مشروعها التحرري، ليأتي اتفاق اوسلو ١٩٩٣ بتوقيع عرفات و رابين بمباركة أمريكية. 

والسؤال : هل أخطأ ياسر عرفات بقبوله اتفاق أوسلو ، وهل كان من الممكن بعد تخلي معظم الدول العربية عن القضية الفلسطينية ودعمها، والارتماء في الحضن الصهيوأمريكي عبر اتفاقيات أوسلو ووادي عربة وغيرها من أن يكون له خيار آخر لعودة الفلسطينين إلى جزء من أرضهم كقاعدة انطلاق لمقاومة الاحتلال الصهيوني ؟ أم أن ياسر عرفات التف على ارادة الشعب الفلسطيني و انتفاضته الاولى ١٩٨٧، لينشئ عملياً اول تجليات “الدولة” أو الدويلة الفلسطينية، كسلطة امر واقع مفروضة من الخارج و التي تمتعت بحكم ذاتي في اجزاء من الضفة الغربية المستباحة وقطاع غزة ؟ وهل ذلك ساهم في أضعاف الوحدة الفلسطينية، و ادى فيما بعد الى تعميق الازمات والانقسام الفلسطيني-الفلسطيني؟ حيث بلغ هذا الانقسام ذروته بين حركة فتح، التي تسيطر على الضفة الغربية، وحركة حماس، التي سيطرت على قطاع غزة بعد انتخابات ٢٠٠٦ وفوز حماس بالأغلبية، لتتطور الى اشتباكات عنيفة في ٢٠٠٧، مما أدى إلى نشوء حكومتين فلسطينيتين متنافستين و تقزيم العمل المقاوم،  ليتحول فيما بعد حكم عباس و زمرته و حماس الى سلطات امر واقع، واحدة في غرة، والاخرى معزولة تماماً في مدينة رام الله الأشبه بضيعة معزولة ومنفصلة تماماً عن الواقع الفلسطيني الذي يرزح تحت توحش الاحتلال.

وهل هذه الدويلة المسخ التي يريد المجتمع الدولي بقيادة الغرب الامبريالي الاعتراف بها، والتي اعترفت بها الأمم المتحدة أصلاً كدولة مراقب غير عضو في ٢٠١٢ ؟

من يروج لحل الدولتين؟ 

قد تبدو فكرة حل الدولتين فكرة وجيهة و جديرة بالمعالجة ، لكن يجب أن يتم التنقيب وراءها ووراء الداعمين لها ، والمروجين لهذه الفكرة والبحث في امكانية تحقيقها.

تقليديًا، كانت الولايات المتحدة من الداعمين الرئيسيين لحل الدولتين، رغم أن موقفها قد شهد تقلبات تحت إدارات مختلفة، إلى أنها هي من هندسته، بحكم ارتباطها بالكيان الاسرائيلي بمصالح عسكرية و سياسية واقتصادية ، و تأثير اللوبي الصهيوني على السياسة الخارجية الأمريكية و صنع القرار، خاصة فيما يتعلق بالشؤون الخاصة بالشرق الأوسط ، هذا إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي التي تدعم هذا الحل وتسعى لتعزيز الجهود الدبلوماسية لتحقيقه لعلاقتها الخاصة أيضاً بدولة الكيان الصهيوني. وإقليمياً كانت من أبرز الداعمين لحل الدولتين وفي مقدمة الدول العربية المملكة العربية السعودية. 

لاشك أن العالم لم يعد يرى المشهد الفلسطيني قبل زلزال اكتوبر و بعده بنفس المنظور، فالسردية الفلسطينية المقاومة والصمود الفلسطيني أصبح هو السائد بفضل جيل من الشباب الفلسطيني والعربي في الداخل العربي والخارج، وجيل الشباب في دول الغرب وحول العالم ، مما انعكس على متغيرات في عمق الشارع الغربي والأمريكي عبر المظاهرات والاعتصامات خاصة في الجامعات والأكاديميات التي ضربت السردية الإسرائيلية وهزت أركانها وفضحت التوحش الإسرائيلي الامبريالي في الشارع الغربي / الأمريكي.

و بحسب المتغيرات الأخيرة التي طرأت على المسألة الفلسطينية يمكن فرز الدول التي تدعم حل الدولتين إلى مجموعتين: قوى معنية و قوى غير معنية بشكل مباشر بالقضية الفلسطينية.

فلحفظ ماء الوجه وهروباً من ارتكاسات الواقع ، أدركت الطّغم الحاكمة في الكثير من الدول أن هذا التوحش الممعن بالإبادة الجماعية قد يؤدي إلى ازدياد التوترات الشعبية، ويعمق اتساع هوة الرفض الشعبي الكبير للدولة الصهيونية. هذا الكشف أوالانكشاف لزيف هذه الأنظمة الامبريالية بمثابة جرس إنذار قد يؤدي إلى حراكات أوسع وأشمل كتلك الحراكات التي فجرتها الثورة الجزائرية في فرنسا عام ١٩٦٨ و ثورة المستعمرات البرتغالية التي أدت إلى الثورة الوردية في البرتغال عام ١٩٧٤.

وعلى الجانب الآخر هناك القوة المعنية والفاعلة، سواء القوى الدولية التي تؤثر وتتأثر بالصراع بشكل مباشر أو التي تربطها بإسرائيل علاقات اقتصادية و عسكرية و سياسية، فإن البحث في تاريخ هذه الدول وتوجهاتها ، سنجد ان اكثر الدول المؤيدة و التي تنادي بحل الدولتين تختبيء وراء هذا الادعاء مع انها تعي تماماً عقمه و استحالته. 

استحالة حل الدولتين:

مع أن الحل القائم على الدولتين يتصور وجود دولة عبرية ودولة عربية فلسطينية  جنبًا إلى جنب فإن هذا التصور يكتنفه إشكاليات أساسية أهمها وجود عدة عوامل موضوعية تجعل هذا الحل مستحيلاً سواء بالمعنى المادي التاريخي لنشوء الدول أو بالمعنى السياسي وتجارب التشكيل السياسي للدول .

إن استمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية أدى إلى تفتيت الأراضي إلى درجة تجعل من دولة فلسطينية متماسكة وذات وحدة جغرافية قابلة للحياة أمرًا مستحيلًا واقعياً. فوفقًا لتقرير صادر عن منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية عام ٢٠٢٠، يوجد أكثر من ٦٠٠ ألف مستوطن إسرائيلي تم تسهيل وصولهم بشكل شبه منظم وبدعم من جيش الاحتلال إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية بهدف تمزيق المنطقة، ويعيشون في أكثر من ٢٠٠ مستوطنة وبؤرة استيطانية. هذه المستوطنات توسعها وامتدادها على الأرض الفلسطينية غير قانوني بموجب القانون الدولي، حيث يجري العمل بشكل مخطط وممنهج على التمهيد لترسيخ السيطرة الإسرائيلية المطلقة على الأراضي الموجودة ضمن حدود ١٩٦٧.

علاوة على ذلك، فإن الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يزيد من تعقيد إمكانية وجود دولة فلسطينية موحدة. فحتى السلطة الفلسطينية نفسها، (وليدة اتفاقيات أوسلو) فاقدة الشرعية لسلطتها المحدودة من جهة ، ولعدم قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة من جهة أخرى ، وهي لا تعدو أكثر من حكومة صورية مقرها مدينة رام الله الأشبه بضيعة معزولة ، مهمتها الأساسية أن تحافظ على التنسيق الأمني مع إسرائيل بدلاً من تمثيل الإرادة الشعبية الفلسطينية. مع الإشارة إلى أنها لم تُجر انتخابات منذ أكثر من عقد.

الحل العادل: 

لطالما كان النضال الوطني التحرري جزء من النضال الأممي ضد الامبريالية والاستعمار ، وأن الرصيد الذي راكمه النضال الطويل الفلسطيني وحركات التحرر العالمية – رغم تخاذل الأنظمة الرسمية للدول – لا يمكن ان يؤدي أخيراً إلّا الى كسر وتفكيك ليس فقط الهياكل الاحتلالية والفصل العنصري لدولة الكيان الصهيوني بل وإلى ضرب وانهيار قواعد الامبريالية العليا بقيادة الولايات المتحدة الامريكية .

وبدلاً من الاستمرار في دعم وهم حل الدولتين، يجب أن تكون مهمة أحرار العالم إجبار حكوماتها على إهمال الدعوة لحل الدولتين والاعتراف باستحالة تنفيذ هذا الحل والدعوة إلى نهج يستند إلى الحقوق و يركز على المساواة والعدالة للجميع، والضغط لعزل هذا الكيان ومعاقبته اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، جنباً إلى جنب مع الدعم الشعبي بجميع وسائل الدعم للدفاع عن أرضه ، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في الوجود على أرضه، وإعلان أن الكيان الاسرائيلي كيان احتلال ومقاومته حق مشروع بكافة الوسائل المشروعة، وإن الحل العادل للقضية الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق إلّا  بإقامة دولة ديمقراطية واحدة تشمل كل فلسطين التاريخية، حيث يعيش اليهود والفلسطينيون وجميع سكان هذه البقعة كمواطنين متساوين، على أن تضمن هذه الدولة حقوق الإنسان ، وحقوق المواطنة المتساوية لجميع سكانها مع تأكيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين، كما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤.

إنّ النضال من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية هو جزء من نضالنا كعرب بشكل خاص، ونضال اممي ضد التوحش الامبريالي و الاستعمار من أجل حقوق الإنسان والاضطهاد في كل مكان، حيث تتلاقى جميع النضالات. فهو نضال لكسر الأسس ذاتها لمجتمع عسكري، استيطاني، وعنصري دموي. وكما أُلغي نظام الفصل العنصري رسميًا في جنوب أفريقيا في عام ١٩٩٤ بعد عقود طويلة من النضال، وتمت عملية الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق و الاثنيات و الطوائف، لابد أن تؤدي هذه النضالات الى انتصار حتمي و سقوط حالة التجزءة الامبريالية في منطقتنا العربية المتمثل بدولة الكيان الصهيوني والانظمة الرجعية، ولابد ان ينال الشعب الفلسطيني و الشعوب العربية كافةً حريتها المنشودة.


الجماعة السياسية

محمد سيد رصاص

(المركز الكردي للدراسات) في مدينة بوخوم الألمانية 16\5\2024

رابط الدراسة على موقع المركز:

https://nlka.net/archives/11840

في عام 1862نشر كتاب في مدينة لايبزغ الألمانية بعنوان: ” روما وأورشليم: المسألة القومية الأخيرة ” . في الكتاب تأكيد على استحالة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية وخاصة في ألمانية مع بدء صعود الموجة القومية الألمانية، والتي يتنبأ الكتاب بأن اليهود الألمان سيكونون من ضحاياها، مع دعوة اليهود للهجرة إلى فلسطين ،مادام أن ذوبانهم بالمجتمعات الأروروبية غير ممكن ، من أجل إقامة “كومونويلث يهودي اشتراكي زراعي هناك” .

كانت المفاجأة الكبرى في الكتاب، ليس أنه قد طرحت فيه لأول مرة الفكرة الصهيونية قبل أربعة وثلاثون عاماً من كتاب تيودور هرتزل:” الدولة اليهودية ” ، بل اسم الكاتب وهو موزس هس ،الذي كان حتى نهاية الأربعينيات ،من كبار مفكري ورموز الفكر الاشتراكي – الشيوعي ،وهو كان مشاركاً لكارل ماركس في “الجريدة الرينانية ” بالنصف الأول من ذلك العقد ، وهو الذي أتى بفريدريك إنجلز إلى الفكر الاشتراكي- الشيوعي.

في الكتاب هناك انزياح فكري عند الكاتب من التفسير الاقتصادي- الاجتماعي الطبقي للتاريخ إلى التفسير القومي الذي يقول بأن الصراعات القومية هي المحرك الأكبر للتاريخ. وبالتالي فهو أصبح يرى بأن (اليهود)، وهو ابن حاخام وحفيد حاخام ، هم ” جماعته السياسية ” ، التي فكره السياسي وممارسته السياسية يشتغلان من أجلها، وليس ماكان عليه في الأربعينيات لماكانت الطبقة العاملة هي “الجماعة السياسية ” عنده ،ولوكان هو وماركس وانجلز اشتغلوا وفق برنامج ديمقراطي لألمانية بمجموعها كبلد التي كان ثلاثتهم يرون بأنها مازالت ماقبل رأسمالية ،بخلاف انكلترا، وبالتالي لايطرح لها برنامج اشتراكي بل برنامج ديمقراطي “يناضل فيه الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البرجوازية مادامت تناضل هذه البرجوازية نضالاً ثورياً ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الاقطاعية العقارية،وضد البرجوازية الصغيرة الرجعية” (1) حسب نص “البيان الشيوعي” بعام 1848الذي كتبه ماركس وإنجلز. ولكن تفكيرهم ظل طبقياً، وبالتالي (الطبقة العاملة) هي الجماعة السياسية الخاصة بهم وليس (البلد) كمجموع مكاني لسكان وطن، والتي كان يرون بأنه لايمكن النظر إليه إلامن خلال الصراع الطبقي .،حتى وهم يطرحون برنامجاً ديمقراطياً ألمانياً ، فهو برنامج مرحلي تجري فيه تحالفات مرحلية للاشتراكيين- الشيوعيين مع البرجوازية الألمانية .

يمكن الانتقال إلى العراق للتوضيح أكثر: في عام1959، كان هناك حسين أحمد الرضي ( سلام عادل) ومحمد باقر الصدر.الاثنان من النجف ،وكلاهما من أسرة تنتسب إلى “آل البيت الهاشمي”. كان سلام عادل وقتها سكرتيراً للحزب الشيوعي، الذي كان أقوى حزب في العراق وقتها ، فيماكان باقر الصدر في طور التأسيس بذلك العام لحزب الدعوة ، وهو من أجل أدلجة هذا التأسيس كان يكتب آنذاك كتابه: “فلسفتنا” الذي هو موجه كفكر فلسفي وكفكر سياسي أساساً ضد الماركسية ، في لحظة سياسية أنزل فيها الشيوعيون العراقيون مسيرة بمناسبة عيد العمال في  1أيار1959 شارك بها 300ألف شخص ببغداد – مليون شخص في تقديرات الشيوعيين يطالبون فيها بمشاركة الحزب في الحكم (2)، وكان الحزب قادراً على الاستيلاء على السلطة من خلال وزنه الجماهيري وتغلغله في الجيش ، ولكن كانت هناك موسكو حيث “كان العامل ذو الوزن الأكبر في قرار التراجع هو الضغط الذي يبدو أن الحزب الشيوعي السوفييتي مارسه على القيادة الشيوعية العراقية”(بطاطو: ص214).

كان سلام عادل يفكر كشيوعي يعيش في بلد متخلف، يرزح تحت النفوذ الأجنبي، لذلك كانت مشاركة الحزب في انقلاب 14تموز 1958بالتشارك مع العروبيين ومع ” تنظيم الضباط الأحرار، من أجل ليس أبعد من اسقاط الحكم الملكي والانسحاب من حلف بغداد والغاء الاتفاق الثنائي مع بريطانيا ومقاومة مبدأ ايزنهاور، واطلاق الحريات الديمقراطية لجماهير الشعب واطلاق المساجين السياسيين،وتبني اجراءات فعالة لحماية ثروتنا الوطنية واقتصادنا الوطني وحل المشكلات المتعلقة بمعيشة الجماهير”(تعميم حزبي داخلي عشية ماقبل يومين من حركة 14تموز، بطاطو: ص ص 113-114). أي أن سكرتير الحزب الشيوعي كان ينظر للعراق من نظارة حزبية يرى فيها أن “جماهير الشعب: العمال والفلاحون ومجموع الفقراء”هم مجال فكره وممارسته السياسية وأن تحقيق مصالح هؤلاء هو الطريق لبناء جديد للعراق،إضافة لضرب النفوذ الأجنبي السياسي والعسكري من خلال الأحلاف والمشاريع الغربية وجعل العراق متحرراً وفاكاً للارتباط بها .

هؤلاء هم (الجماعة السياسية)،ككتلة اجتماعية، لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي . السيد باقر الصدر كان في الضفة الأخرى من مواطنه النجفي ،وقريبه، فهو كان يفكر في حزب الدعوة كأداة من أجل خدمة (جماعة سياسية) هي الطائفة الشيعية التي رآها السيد الصدر وحزبه في موقع الكتلة الاجتماعية المغبونة والمحرومة والمنتقصة حقوقها وهي التي تشكل غالبية سكان العراق بحوالي الثلثين. وبالمجمل ، سلام عادل وباقر الصدر توجها بشكل مباشر من أجل خدمة (الجماعة السياسية)عند كل منهما وفق رؤيتهما الفكرية –  السياسية الخاصة بهما.

في العراق وجد شخص ثالث سيرته كانت معقدة في الطريق نحو خدمة (الجماعة السياسية) التي رأى أن مساره الحزبي،الذي مرُ بين عامي1944و1959في منعرجات وحيطان صد وأبواب دخلها أوكاد أن يدخلها بعد أن طرق بابها أولامسه،هو من أجل  خدمة ” جماعته السياسية ” ممثلة في كرد العراق.

هذا الشخص اسمه صالح الحيدري،الذي كان مسؤولاً بعامي 1944و1945عن الفرع الكردي للتنظيم الشيوعي العراقي :”وحدة النضال”، والذي كان كفرع  يسمى “يكيتي تيكوشين”. في ربيع 1945دخلت قيادة هذا التنظيم في مفاوضات مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي: فهد،من أجل اندماج التنظيمين، وأمام اصرار فهد على اعتبارهم “منشقين” عن الحزب مع رفض فكرة الاندماج وفكرة أن يعودوا للحزب كجسم بل كأفراد،وافقوا،بينما رفض الحيدري ذلك ،ودخل هو ومسؤولوا “يكيتي”مع فهد بمفاوضات منفصلة أجراها هو وممثل آخر عن الفرع هو نافع ملا يونس  اشترطوا فيها “لانضمام الفرع إلى الحزب أن تتألف له لجنة خاصة به وجريدة خاصة أيضاً وتخويله بعض صلاحيات اللجنة المركزية”(3)، وهو مارفضه فهد،ممادفعهم إلى تشكيل (الحزب الشيوعي لكردستان العراق)الذي عرف باسم جريدته : “شورش”، ثم كانوا من المؤسسين ،من وراء ستار تنظيمهم الشيوعي، لحزب آخر هو “رزكاري كرد:حزب التحرر الكردي” ليكون حزباً وطنياً عاماً لأكراد العراق من أجل خدمة مطالبهم القومية الكردية الخاصة في الوطن العراقي. عند مفاوضات التمهيد لتأسيس (الحزب الديمقراطي الكردي- العراق “البارتي”)،والذي ولد في يوم 16آب1946،أصرً صالح الحيدري على استبعاد اثنين من الملاك الاقطاعيين عن قائمة المرشحين لقيادة الحزب الوليد (4)،وأمام الرفض لذلك رفضت قيادة (شورش)بغالبيتها حضور المؤتمر التأسيسي للبارتي ماعدا قلة في القيادة،مثل علي عبدالله،فيماذهب الحيدري وملا يونس ومعهما غالبية التنظيم  وانضموا فراداً إلى الحزب الشيوعي العراقي وكان من بين أفراد تنظيم (شورش) قادة كبار للحزب الشيوعي العراقي  بفترات لاحقة مثل  نافع ملا يونس وحميد عثمان وجمال الحيدري(شقيق صالح)وعزيز محمد . في صيف 1957انضم صالح الحيدري،وكان سكرتيراً للجنة الفرع الكردي للحزب الشيوعي ، إلى (البارتي)ومعه كل اللجنة وغالبية الفرع، وأصبح هو و حميد عثمان أعضاء في المكتب السياسي للبارتي وشكلا مع حمزة عبدالله غالبية يسارية في المكتب ضد عضويه ابراهيم أحمد وجلال الطالباني، وكان رأي صالح الحيدري أن يكون لكرد العراق حزب واحد يخدمهم كجماعة بعد أحد عشر عاماً من وجوده في الحزب الشيوعي العراقي ، فيماكان رأي نافع ملايونس وجمال الحيدري وعزيز محمد العكس،أي حزب سياسي لعموم العراق يخدم كادحي كرده وعربه ولايتعامل مع العرب ك”جماعة سياسية” لها حزبها أواحزابها الخاصة ولامع الكرد  ك “جماعة سياسية” تتحدد من خلال كينونتها القومية هي والعرب . لم يطل الأمر بصالح الحيدري وحميد عثمان وحمزة عبدالله أن طردوا من عضوية البارتي في المؤتمر الرابع للحزب في تشرين الأول1959بتهمة التبعية للشيوعيين العراقيين الذين كانوا في ذروة قوتهم آنذاك وقد وقف بوجه هؤلاء الثلاثة تكتل (الملا مصطفى البرزاني- ابراهيم أحمد – جلال الطالباني) وأخرجهم من الحزب،قبل أن يتفرق هذا الثلاثي الأخير في عام1964.

عند الملا مصطفى البرزاني وابراهيم أحمد وجلال الطالباني  (الجماعة السياسية) هي الأمة الكردية، في حال قريب من ميشال عفلق تجاه الأمة العربية ، ولكن حالة صالح الحيدري مختلفة فهو يرى الأمة الكردية ولكن بعين ماركسية وهو سلك طرقاً مختلفة من أجل خدمتها وركب مراكب حزبية عديدة ومختلفة من أجل خدمتها، ولكنه أنزل وأخرج من المركب القومي الأخير الذي تردد في دخوله عند الانشاء ثم أصر بمعركة حزبية شيوعية كبرى على دخوله ثانية  اضطرت سلام عادل وقيادة الحزب إلى تدبيج كراس كامل ضده في شهر آب1957، وعلى الأرجح ، وهو الذي عاتب فهد  عندما التقاه على اعتبار الكرد أقلية قومية في ميثاق الحزب عام1944(5) ، أنه كان أقرب للماركسي – الشيوعي الكردي العراقي ، ولكنه وجد نفسه منبوذاً ومكروهاً من الشيوعيين ومن القوميين الأكراد بالنهاية.

هنا، يمكن لعبدالله أوجلان أن يكون في حالة الماركسي- القومي الكردي في القرن العشرين، ولكنه في القرن الواحد والعشرين مع نظريته عن (الأمة الديمقراطية)لم تعد جماعته السياسية،التي يسعى بفكره وممارسته وأداته التنظيمية إلى خدمتها ،هي الأمة الكردية ، بل البيت الوطني التركي بتركه وكرده وعربه وباقي القوميات والإثنيات في الوطن الذي اسمه تركيا،وهو ينظر إلى دياربكر من نظارة أنقرة – اسطنبول والعكس بالعكس.

كتكثيف لهذا المفهوم الشائك الذي اسمه (الجماعة السياسية): إذا كان الصراع الطبقي يأخذ شكلاً سياسياً ،ولكن مع محتويات اقتصادية – اجتماعية- ثقافية، فإن الصراعات القومية، أوالدينية  القومية ، أوالطائفية ،أوالجهوية – تعبر عن شكل آخر للصراع، وبمحتويات كذلك اقتصادية- اجتماعية- ثقافية يحملها كل طرف من أطراف الصراع، وهي لاتعبر عن عدم وجود طبقات اجتماعية،بل عن نزوع هذه مجتمعة أوبعضها إلى تغليب الشكل القومي أوالديني أوالطائفي أوالمناطقي على الشكل الاقتصادي – الاجتماعي ،ولوأن المصالح الاقتصادية – الاجتماعية (زائد الهوية الثقافية ) تكون هي الوقود المحرك لهذه الصراعات.

لايعبر كل ذلك عن ارتداد إلى الوراء بل عن مشكلات لم تحل بعد .

هوامش:

(1) كارل ماركس – فريدريك إنجلز:”مختارات:أربعة أجزاء”،دار التقدم ، موسكو، بدون تاريخ، الجزء الأول، “البيان الشيوعي” ، ص ص 94- 95.

(2) حنا بطاطو: ” العراق: الكتاب الثالث: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار”، مؤسسة الأبحاث العربية،بيروت1992،ص211.

(3) عزيز سباهي : “عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي”( الجزء الأول)، منشورات الثقافة الجديدة، دمشق2002، ص 247.

(4) جلال الطالباني: ” كردستان والحركة القومية الكردية “، منشورات الاتحاد الوطني الكردستاني،2022، نسخة ب د ف في 400صفحة، ص 132.

(5) سباهي: “المرجع السابق”، ص 242.


المحكمة الجنائية الدولية الدائمة

(مكتب الدراسات والتوثيق بهيئة التنسيق الوطنية)

25 نيسان 2018

كانت أولى المحاولات من أجل تأسيس قضاء جنائي دولي على المستوى الدولي ما ورد في معاهدة فرساي لعام 1919، وتم ذلك في نص المادة 227 من هذه المعاهدة ،التي أقرت مسؤولية إمبراطور ألمانيا “غليوم الثاني ” عن الجرائم التي ارتكبت في الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك فقد فشلت هذه المحاولة لمحاكمة الإمبراطور، بسبب رفض هولندا تسليمه إلى الدول المتحالفة ،وبعد أحداث وويلات الحرب العالمية الثانية، والفظائع والانتهاكات الخطيرة، تم إنشاء محكمتي نورمبرغ وطوكيو ، لمحاكمة المتهمين بارتكاب تلك الجرائم والانتهاكات، وكانت هذه المحاكمات السابقة الأولى في هذا المجال،وبمرور الزمن واندلاع أحداث البلقان المروَعة(1991-1995)، ومجازر رواندا (1993-1994)، قام مجلس الأمن بمهمة الإدانة باستصدار القرارات وإنشاء محاكم خاصة ومؤقتة، استنادا” إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة{ البوسنة والهرسك} و{رواندا}، ولكن بكل ما قامت به هذه المحاكم من أدوار لمحاكمة مجرمي الحرب فإن مواقف كثيرة وانتقادات عدة قد وجِهت لها، مما أدى إلى التسريع والطلب لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ،تتفادى كل مل أعترى هاتين المحكمتين من نواقص وعيوب وانتقادات، وقد تم ذلك في مؤتمر روما الدبلوماسي المنعقد في عام 1998 متوَجا” باعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة ،وتكون مهمَة هذه المحكمة محاكمة الأفراد الذين ارتكبوا أكثر الجرائم وحشية وفظاعة، وتفادي ظاهرة الإفلات من العقاب وتكون حالة رادعة ، ويؤدي ذلك إلى احترام قواعد القانون الدولي. 

إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة: انعقد مؤتمر روما في مقر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة عام 1998، وقد شاركت في المؤتمر وفود 160 دولة ومنظمة دولية بين الحكومات ، و238 منظمة غير حكومية، وانبثق عن المؤتمر مكتب المؤتمر الذي يرأسه الرئيس ونوابه واللجنة الجامعة، ولجنة الصيَاغة، وعند طرح المشروع على الوفود وجدت تعقيدات حول تعريف الجرائم واختصاص المحكمة ، ودور المدعي العام ومجلس الأمن مما أدى إلى إرساء حلول توفيقية، وفي الجلسة الأخيرة طلبت الولايات المتحدة الأمريكية إجراء التصويت على هذا المشروع ، فصوَت 120 وفدا”لصالح تبني النظام الأساسي للمحكمة ، في حين رفضت 7 وفود هذا المشروع، وإمتنع21 وفداً عن التصويت، وبذلك تم اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، الذي تضمن ديباجة مشكَلة من 12 فقرة تليها 128 مادة موزَعة على 13 بابا.

نفاذ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة :’فتح باب التوقيع على النظام الأساسي أمام جميع الدول في روما بمقر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة عام 1998، وبعد ذلك في مقر وزارة الخارجية الإيطالية من نفس العام، وبعد ذلك التاريخ بقي باب التوقيع مفتوحا”في نيويورك بمقر الأمم المتحدة، حتى 31 ديسمبر لعام 2000، وتودع صكوك التصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة، كما يفتح باب الانضمام إلى النظام الأساسي امام جميع الدول، ويبدأ نفاذ النظام الأساسي بموجب المادة 128 منه من اليوم الأول من الشهر الذي يلي اليوم الستين من تاريخ إيداع الصك الستين للتصديق أو القبول أو الانضمام أو الموافقة لدى الأمين العام للأمم المتحدة ، وقد دخل نظام روما الأساسي حيز التنفيذ عام 2002 بموجب المادة 126 بعد انقضاء الستين يوما” على انضمام الدولة الستين إلى النظام الأساسي، وقد بلغ عدد الدول الأطراف في النظام الأساسي 124دولة حتى عام 2016ولاتزال الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية و” إسرائيل” من دون انضمام.

مقر المحكمة: يكون مقر المحكمة في لاهاي بهولندا أو في أي مكان آخر عندما ترى ذلك مناسبا”.

أجهزة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة: أولا” ـ هيئة الرئاسة: تعتبر أعلى هيئة قضائية في المحكمة، وتتكون من رئيس ونائبين له يتم انتخابهم جميعا”بالأغلبية المطلقة لقضاء المحكمة، ومدة ولاية أعضاء هيئة الرئاسة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة وفقا” للفقرة الأولى من المادة 38 من النظام الأساسي ، وتتولى هيئة الرئاسة ممارسة المهام التالية : 1ـ الإدارة السليمة للمحكمة باستثناء مكتب المدعي العام، وعليها وهي تتطلع بمسؤوليتها التنسيق مع المدعي العام إلتماس موافقته بشأن جميع المسائل ذات الاهتمام المتبادل.

2ـ أ ي مهمة أخرى موكلة إليها بموجب النظام الأساسي.

ثانيا” ـ دوائر المتابعة: 1ـالدائرة التمهيدية: تتألف من عدد لا يقل عن ستة قضاة من ذوي الخبرة في المحاكمات الجنائية، يعملون في هذه الدائرة لمدة ثلاث سنوات، وتقوم الدائرة التمهيدية بالتأكيد على الإذن ببدء التحقيق أو برفضه، وتقرر ما إذا كانت القضية تندرج ضمن اختصاص المحكمة من دون الإخلال بقرارات المحكمة لاحقا”، فيما يتعلق بالاختصاص في قضية أو مقبوليته. ويجوز للدائرة التمهيدية إصدار أوامر بالقبض أو أوامر بالمثول امام المحكمة بناء على طلب المدعي العام واوامر ضمان حقوق الأطراف في إجراءات الدعوى، وعند الاقتضاء تقوم بتوفير الحماية للمجني عليه والشهود وحقوقهم، والمحافظة على الأدلة أو حماية المعتقلين أو الذين امتثلوا استجابة لأمر المثول، وتصون المعلومات المتعلقة بالأمن الوطني. وتعقد الدائرة التمهيدية جلسة بحضور المدعي العام والمتهم لإقرار التهم أو رفضها، وفي هذه الجلسة على المدعي العام أن يدعم التهم بأدلة مستنديه وأن يعرض موجز للأدلة كافة لإثبات وجود أساس جوهري للاعتقاد بأن المعني قد ارتكب الجريمة المنسوبة إليه، وللمتهم الحق بالاعتراض على التهم والطعن في الأدلة المعتمدة من طرف المدعي العام والحق في تقديم الأدلة.

2ـ الدائرة الابتدائية: تتألف من عدد لا يقل عن ستة قضاة، وتعد الدائرة الابتدائية الجهاز القضائي الذي يمارس إجراءات المحاكمة، وبحسب المادة 64 من النظام الأساسي لهذه المحكمة تقوم هذه الدائرة باعتماد جميع الإجراءات اللازمة لضمان سير المحاكمة على نحو سريع، وفي نهاية المطاف تقرر هذه الدائرة بترك المتهم أو إدانته، وبحسب المادة 68 من نظام المحكمة يمكن أن تجري المحاكمات في جلسات سرية مغلقة من اجل حماية المعلومات السرية وحماية الشهود.

3ـ دائرة الاستئناف: تتكون من الرئيس وأربعة قضاة، وتعد هذه الدائرة جهة طعن في العديد من القرارات التي تصدرها الدوائر الابتدائية والتمهيدية، لأي سبب كان يؤثِر على عدالة أو مصداقية الإجراءات والقرارات الصادرة عن المحكمة.

ثالثا”ـ مكتب المدعي العام: يتولى المدعي العام رئاسة المكتب، ويساعده نوابه، ويعمل المدعي العام ونوابه لمدة تسع سنوات ولا يجوز إعادة انتخابهم، وتعتبر اختصاصات المدعي العام مختلطة تجمع بين سلطتي الاتهام والتحقيق، ويتضح ذلك في تحريك المدعي العام للدعوى أمام المحكمة بناءا”على طلب إحدى الدول الأطراف أو من تلقاء نفسه، وسلطته في مباشرة التحقيق وجمع الأدلة.

علاقة المحكمة بالأمم المتحدة: جاء في نص المادة الثانية من النظام الأساسي للمحكمة أنه: “تنظَم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها” أي أن كل منهما هيئة دولية تمثل المجتمع الدولي، فالمحكمة تحتاج إلى الأمم المتحدة في المجال الإداري والمالي والعدالة الجنائية تساهم في حفظ السلام العالمي. 

الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة: جاء النص على الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة في الباب الثاني من نظام روما الأساسي، فتضمنت المادة الخامسة من نظام روما الأساسي تعدادا” حصريا” للجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، وتشتمل على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، والمتمثلة في أربع فئات من الجرائم وهي 1ـ جريمة الإبادة ـ2ـالجرائم ضد الإنسانية ـ 3ـ جرائم الحرب ـ4ـ جريمة العدوان.

أولا”ـ جريمة الإبادة: لقد عرَفت المادة السادسة من نظام المحكمة جريمة الإبادة الجماعية بقولها:” لفرض هذا النظام الأساسي، تعني الإبادة الجماعية 1ـ أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكا “كليا” أو جزئيا” او قتل  أفراد الجماعة2ـ إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة 3ـ إخضاع الجماعة عمدا” لأحوال معيشية يقصد منها إهلاكها كليا” أو جزئيا”4ـ فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة 5ـ نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.” 

أركان جريمة الإبادة في ظل نظام المحكمة: 1ـ الركن المادي : ويتمثل في سلوك إيجابي أو سلبي ونتيجة إجرامية مترتب عليه وعلاقة سببية بين السلوك والنتيجة فجريمة الإبادة في نظام المحكمة حددتها المادة السادسة منه واعتبرت الأفعال التالية إحدى صور جريمة الإبادة و تتمثل في أ ـ قتل أفراد الجماعة ـ ب ـ إلحاق الضرر الجسدي أو العقلي بأفراد الجماعة <أفعال تعذيب ـ اغتصاب ـ أو عنف جنسي ….الخ> ـ ج ـ إخضاع الجماعة لأحوال معيشية بقصد الإهلاك الفعلي كليا” أو جزئيا”ـ د ـ فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة ـ ه ـ نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى. 

2 ـ الركن المعنوي في جريمة الإبادة : يعتبر الركن المعنوي ركنا” أساسيا” لقيام وثبوت جريمة الإبادة الجماعية ، حيث يشترط أن يتوفر لدى أي مرتكب أي صورة من صور جريمة الإبادة النية أو القصد لإبادة جماعة كليا” أو جزئيا”، وهذا ما جاءت به المادة السادسة من النظام الأساسي عند تعريفها لجريمة الإبادة ، فقد اشترطت هذه المادة أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية ، الأثنية أو العرقية أو الدينية كليا” أو جزئيا”بصفتها تلك ، وبالتالي لابد من وجود قصد خاص لدى الجاني وهو قصد الإبادة ،ولا يشترط الإبادة الكاملة للجماعة بل يكفي أن يؤدي ارتكاب أي من الأفعال السابقة ضد شخص وأكثر من المنتمين إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، طالما أن هذا الفعل قد جاء في سياق أفعال مماثلة وواضحة ضد أفراد هذه الجماعة بقصد إهلاكها كليا” أو جزئيا”.

3 ـ الركن الدولي لجريمة الإبادة الجماعية: معنى الركن الدولي بأن تقع الحرب بتخطيط من دولة محاربة وتنفيذ مواطنيها، ضد رعايا دول الأعداء في سياق نزاع دولي مسلح، وتكون هذه الجرائم مرتبطة ارتباطا” وثيقا”بهذا النزاع، ولكن الجرائم تصبح دولية رغم وقوعها في إطار نزاع داخلي مسلح غير دولي، في الحالات التي تتم فيها انتهاكات جسيمة للمادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.

ثانيا”ـ جرائم الحرب: جاء في نص المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة في فقرتها الأولى على اختصاص المحكمة بنظر جرائم الحرب ولاسيما عندما ترتكب هذه الجرائم في إطار خطة سياسية عامة، أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم، وحددت الفقرة الثانية من هذه المادة صور جرائم الحرب الخاضعة لاختصاص المحكمة، وذلك في أربع حالات: أ ـ الجرائم الناتجة عن الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وهي : 1ـ القتل العمد ـ 2 ـ التعذيب والمعاملة اللاإنسانية ـ 3ـ تعمد إحداث معاناة شديدين أو إلحاق اذى خطير بالجسم أو الصحة ـ4ـ إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك ـ5ـ إرغام أسير الحرب أو شخص آخر مشمول بالحماية بالخدمة في صفوف قوات دولية معادية ـ6ـ تعمد حرمان أي اسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة نظاميةـ 7ـ الإبعاد أو النقل غير الشرعي او الحبس غير المشروع 8ـ أخذ الرهائن. 

ب ـ الجرائم الناتجة عن الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السا رية على المنازعات المسلحة الدولية:1ـ تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون في الأعمال الحربية. 2ـ تعمد توجيه هجمات مواقع مد نية، أي المواقع التي لا تشكل أهداف عسكرية. 3ـ تعمد شن هجمات ضد موظفين أو منشآت او مواد، ومركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدات الإنسانية، أو حفظ السلام عملا” بميثاق الأمم المتحدة.

4 ـ مهاجمة أو قصف المدن والقرى أو المساكن أو المباني التي لا تكون أهداف عسكرية باي وسيلة كانت. 5 ـ قتل أو جرح مقاتل استسلم مختارا”، يكون قد ألقى سلاحه، أولم تعد لديه وسيلة دفاع. 6 ـ قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة، أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها. 7 ـتعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو الخيرية أو الآثار التاريخية، والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى شريطة الا تكون أهداف عسكرية. 8 ـتدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها، مالم يكن هذا التدمير تحتمه ضرورة حربية.9 ـ نهب أي بلدة أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عليه عنوة. 10 ـإجبار رعايا الطرف المعادي على الاشتراك في عمليات حربية ضد بلدهم. 11 ـ استخدام السموم والأسلحة المسممة. 12 ـاستخدام الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات وجميع ما في حكمها من السوائل أو المواد الأخرى. 13 ـالاعتداء على كرامة الشخص وبخاصة المعاملة المهينة للكرامة. 14 ـ الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري. 15 ـاستخدام الأشخاص المدنيين كدروع .16 ـ تعمد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة المبينة في اتفاقيات جنيف طبقا” لقواعد القانون الدولي.17ـتعمد تجويع المدنيين، كأسلوب من أساليب الحرب، لحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف. 18 ـ استخدام الأطفال دون الخامسة عشر إلزاميا” أو طوعيا “في القوات المسلحة الوطنية واستخدامهم فعليا”في الأعمال الحربية.19ـ استخدام اسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية، تسبب بطبيعتها أضرارا” زائدة او آلاما” لا لزوم لها أو ان تكون عشوائية، على ان تكون موضع حظر شامل.

ج ـ الجرائم المتمثلة في الانتهاكات الجسيمة للمادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف ل عام1949.

ثالثا”ـ الجرائم ضد الإنسانية: نصت المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة على الأفعال التي تعتبر جرائم ضد الإنسانية وهي 1ـ القتل العمد ـ أي قيام مرتكب الجريمة بقتل شخص أو أكثر كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين ،وأن يكون الجاني على علم بطبيعة سلوكه هذا أو كان لديه النية أن يكون لديه هذه الصفة.2ـ الإبادة : لا يشترط أن يرتكب هذه الجريمة في هذه الحالة ضد جماعة قومية أو دينية أو إثنية أو عرقية معينة ، في حين يعد ذلك ضروريا”لقيام جريمة الإبادة الجماعية طبقا” للمادة السادسة من نظام المحكمة. 3ـ الاسترقاق ـ 4ـ السجن والحرمان الشديد ـ 5ـ التعذيب ـ6ـالاغتصاب أو الاستعباد الجنسي ـ7ـ الاختفاء القسري للأشخاص ـ 8ـ اضطهاد أي جماعة محددة لأسباب سياسية أو عرقية أورومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية ـ9ـ الفصل العنصري ـ 10 ـ الأفعال اللاإنسانية المسببة للأذى البدني أو العقلي الجسيم.

الركن المعنوي للجرائم ضد الإنسانية: يلزم لقيام هذه الجرائم السابقة ودخولها في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة أن يتوفر الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي العام، الذي ينطوي على العلم والإرادة بأن سلوكه قد أتاه كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي، وتقوم يه الدولة أو منظمة ضد مجموعة من السكان المدنيين، أو كان لديه النية وقت اتيانه هذا السلوك أن تكون له هذه الصفة.

الركن الدولي للجرائم ضد الإنسانية: هذه الجرائم تعد جرائم دولية حتى لو لم تقع بناء على خطة مرسومة من جانب دولة ضد جماعة من السكان ذات عقيدة معينة تتمتع بذات جنسية هذه الدولة.

رابعا”ـ جريمة العدوان: عمدت الولايات المتحدة خلافا” لمعظم الدول في العالم إلى استبعاد وضع تعريف واضح لجريمة العدوان، لإبقاء جريمة العدوان خارج اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، حيث تم وضع مجموعة من الأسس والثوابت التي تقرر حتى في وجود هذا التعريف ، ان يبقى صلاحية تحديد وقوع العدوان وتحديد الطرف المعتدي من صلاحيات مجلس الأمن عملا” بالمادة 39 من الميثاق، والاَ تنظر المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في جريمة العدوان الاَ بعد أن يعتمد مجلس الأمن قرارا” يؤكد فيه اقتراف هذه الجريمة ويحدد مقترفيها.

ممارسة المحكمة لاختصاصها: أولا” ـ الإحالة من الدول الأطراف: يجوز لكل دولة من الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة ان يحيل إلى المدعي العام للمحكمة أية قضية متعلقة بجريمة او أكثر من الجرائم الداخلة باختصاصها، وأن تطلب الدولة من المدعي العام القيام بإجراءات التحقيق في هذه الحالة بهدف التوصل إلى ما إذا كان يتعين توجيه الاتهام إلى شخص أو أكثر بارتكاب هذه الجريمة، ويمكن لدولة غير طرف في النظام الأساسي أن تقبل اختصاص المحكمة بخصوص إحدى الجرائم التي وقعت في إقليمها، أو كانت الدولة غير الطرف هي دولة جنسية الشخص المتهم باقتراف هذه الجريمة، وذلك بإعلان قبولها ممارسة هذه المحكمة لاختصاصها بخصوص تلك الجريمة، وان تتعاون مع المحكمة دون تأخير وفقا” للفقرة الثالثة من المادة 12 من نظام روما الأساسي.

ثانيا”ـ الإحالة من قبل مجلس الأمن: يستطيع مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أن يحيل إلى المدعي العام دعوى يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت طبقا”للفقرة ب من المادة 13 من نظام روما الأساسي، على أن الجريمة لابد أن تكون واحدة من الجرائم المشار إليها في المادة الخامسة من نظام روما.

ثالثا”ـ الإحالة من قبل المدعي العام: يستطيع المدعي العام بمباشرة التحقيق من تلقاء نفسه على أساس المعلومات التي يتلقاها من كل نوع ومن كل مصدر، بما في ذلك الدول وأجهزة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وحتى الأفراد، وفقا” للفقرة الثا نية من المادة 15 من نظام المحكمة، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد عارضت هذا النص ، وعبرت عن خشيتها من إساءة المدعي العام لسلطته في التصدي بداءة لتحريك الدعوى ، وقد تم وضع بعض القيود على ممارسة المدعي العام بخصوص ذلك أ ـ إذا خلص المدعي العام إلى أن هناك من الأسباب ما يدعوه إلى البدء بالتحقيق وجب عليه الرجوع إلى ا لدائرة التمهيدية طالبا”الإذن بالتحقيق، ولهذه الدائرة أن تمنح الإذن أو ترفضه. ب ـ في حالة الإذن بالتحقيق وإجرائه بمعرفة المدعي العام، فإن قرار الاتهام يجب دوما “أن يصدر من الدائرة التمهيدية.

الاختصاص الزماني للمحكمة: لا تطبق نصوص النظام الأساسي إلاَ على الأفعال التي تقع بعد تاريخ نفاذه، أما إذا أصبحت دولة من الدول طرفا”في هذا النظام بعد سريان نفاذه، فإنه لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها بالنسبة للجرائم التي ترتكب على إقليم هذه الدولة إلا بعد سريان هذا النظام على تلك الدولة <ال مادة24> من نظام المحكمة.

الاختصاص المكاني للمحكمة: لا تختص هذه المحكمة بنظر الجريمة الواقعة في إقليم دولة ليست طرفا” في المعاهدة إلاَ إذا قبلت الدولة باختصاص تلك المحكمة بتلك الجريمة.

المسؤولية الجنائية للقادة والرؤساء: جاءت المادة 28 من النظام الأساسي بمبدأ يقضي بمسائلة القائد العسكري أو الشخص تحت سيطرته على هذه الجرائم، إذا كانت هذه الجرائم مرتكبة من جانب قوات تخضع لإمرته وسيطرته الفعليتين في حالتين: أـ إذا ثبت أن القائد العسكري أو الشخص القائم مقامه، قد كان يعلم أو يفترض أنه كان يعلم بسبب الظروف الموجودة في ذلك الوقت أن القوات الخاضعة لإمرته أو سيطرته ترتكب او كانت على وشك ارتكاب أي من الجرائم التي تختص بها المحكمة.

ب ـ إذا ثبت أن القائد العسكري أو القائم مقامه ، لم يتخذ جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته، لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم، او لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة، ومحاكمة مرتكبي هذه الجرائم، واعتبرت الفقرة ب من المادة 28 من النظام الأساسي ، ان الرئيس مسؤول عن الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة، والمرتكبة من قبل مرؤوسين ، يخضعون لسلطته الفعلية، وذلك في حالة ما إذا كانت هذه الجرائم قد ارتكبت بسبب عدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرؤوسين، ممارسة سليمة وذلك في الحالات التالية: 1 ـ في حالة علم الرئيس أو تجاهله متعمدا”أية معلومات، تبين بوضوح أن الأشخاص الخاضعين لسلطته وسيطرته الفعليتين ، يرتكبوا أو على وشك أن يرتكبوا هذه الجرائم.

2ـ حالة ما إذا كانت هذه الجرائم متعلقة بأنشطة، تدخل في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس.

3 ـحالة ما إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة، في حدود سلطته لمنع أو لقمع ارتكاب هذه الجرائم، أو لعرض المسألة على السلطات المختصة، للتحقيق والمقاضاة. 

أسباب امتناع المسؤولية الجنائية: نصت المادة 33 في فقرتها الأولى من نظام المحكمة ” ان القاعدة هي عدم إعفاء الشخص من المسؤولية الجنائية في حال ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص هذه المحكمة، بناء على أوامر من الحكومة أو من رئيسه العسكري او المدني، الاَ أن هناك استثناءات أوردتها هذه الفقرة وهي: 1 ـ متى كان المرؤوس ملزما”بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني ويعاقب إذا امتنع عن ذلك. 

2 ـإذا كان الشخص الجاني لا يعلم أن الأمر غير مشروع، لأنه لو كان يعلم بعدم مشروعية الأمر، ومع ذلك أقدم على تنفيذه، فإنه يسأل في هذه الحالة.

3 ـ لا يسأل الشخص جنائيا”، متى كانت عدم مشروعية الأمر غير ظاهرة، أي أن الجاني لا يدرك أن الفعل غير مشروع. أما الفقرة الثانية من المادة 33 من نظام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، افترضت ان حالة عدم المشروعية مؤكدة ما إذا كان مضمون أمر الرئيس هو تنفيذ جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية.

العقوبات التي تقضي بها المحكمة: قررت المادة 77 من نظام المحكمة الأساسي انه يجوز للمحكمة توقيع الجزاء على الشخص المدان بارتكاب جريمة منصوص عليها في المادة الخامسة، وذلك بإحدى العقوبات التالية :1ـ السجن لمدة أقصاها 30 سنة. 2 ـ السجن المؤبد في حالة الجريمة الجسيمة. أما عقوبة الإعدام فلم يدرج نظام المحكمة هذه العقوبة بسبب معارضة الدول والاتحاد الأوروبي والمنظمات غير الحكومية وجمعيات حقوق الإنسان.

مبدأ عدم تقادم الجرائم الدولية: تأكدت هذه القاعدة باعتماد اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم2391/دـ23/ في 26 نوفمبر 1968، بغاية عدم الإفلات من العقاب.

أهم القضايا اتي حققت وحاكمت فيها المحكمة :1ـ دارفور السودان بموجب إحالة مجلس الأمن في قراره رقم 1593المؤرخ في 31/3/2005، إلى المدعي العام للمحكمة.

2 ـ حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية لعا م 2004 إلى المحكمة الجنائية الدولية، وطلبها من المدعي العام رسميا” البدء في التحقيق بخصوص الجرائم التي تكون قد ارتكبت على أرض جمهورية الكونغو.

3 ـ حالة اوغندا: بتاريخ 29 /7/2004.

4 ـ حالة افريقيا الوسطى لعام 2004.


يوتوبيا تحت شـمس المـتـوسـط

هجرة الأفكار والحركات التحررية من أوروبا إلى مصر بين 1848 و 1920

http://monshakin.rehlamag.com/utopia-under-mediterranean-sun/

(نص يتناول بذور الفكر الاشتراكي في مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين عند تأسيس الحزب الشيوعي المصري في عام1923والذي كان اسمه الأول الحزب الاشتراكي في عام1921.

الاتجاه الأناركي (الفوضوي)هو اتجاه برز في  الأممية الأولى1864-1872بقيادة المفكر الروسي باكونين والذي دخل ماركس معه في خلافات فكرية وسياسية).

النص:

حوالي عام1860تأسيس جمعية العمال الإيطالية في الإسكندرية في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر، تأسست “جمعية العمال الإيطالية” في الإسكندرية لحماية مصالح أعضائها، وكانت الأولى في سلسلة منظمات إيطالية وما لبثت أن اصطبغت بالسياسة. ثم في منتصف العقد التالي، أسس مناضلون وراديكاليون إيطاليون رابطة تدعى “فكر وفعل”. ومباشرة بعد 1876، برزت جماعة منشقة أكثر راديكالية لتشكّل جناحاً رسمياً من “الأممية الأولى” في الإسكندرية. ثم تشكل المزيد من الأجنحة في القاهرة وبورسعيد والاسماعيلية خلال السنة التالية وقدّمت تقريرها الأول ضمن مؤتمر “الأممية المناهضة للسلطوية الذي أقيم في فرفيرز ببلجيكا في سبتمبر.

ورغم طبعها الإيطالي الطاغي حتى في تلك المرحلة المبكرة، كانت الحركة تسعى إلى توسيع نشاطاتها إلى خارج حدود هذه الجالية الإثنية. وبدعم من جناح القاهرة والاتحاد اليوناني، استطاعت أن تضمن اقتراحاً بنشر البروباغاندا الاشتراكية في الشرق باللغات “الإيطالية ولغات بلاد البلقان واليونانية والتركية والعربية”.

1867:

أميلكار تشيبرياني يلجأ إلى مصر:لعلّ أميلكار تشيبرياني (1844 – 1918)، الشخصية البارزة المتقلّبة في السياسات الثورية بالقرن التاسع عشر، كان من الأوائل الذين زاروا مصر مرتين في ستينيات القرن التاسع عشر. فقد حضر تأسيس الأممية في لندن في 1864 وشارك في معارك الدفاع عن كومونة باريس في 1871، وحُكم عليه بالموت ولكنّه نُفي إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة الجزائية بالمحيط الهادئ مع 7000 آخرين من السجناء. وخلال زيارته الثانية إلى مصر في سبتمبر 1867، تورّط في مقتل ثلاثة أشخاص.

ثم أوقف تشيبرياني وسُجن في إيطاليا في 1881 بتهمة قتل رجل إيطالي في الإسكندرية في 1867. في وقت سابق، اعتُبِرَت هذا الحادثة دفاعاً عن النفس، لكن السلطات الإيطالية تذرعت بالقضية لعرقلة نشاط تشيبرياني أثناء حملاته الثورية في 1881. فتحوّل سجنه إلى قضية عامة تحتفي بها أوساط اليسار.

1869- بناء قناة السويس:

في عام 1869، أكمل عمّال من مصر ودول البحر الأبيض المتوسط مشروع قناة السويس. تعود جذور وجود الطبقة العاملة الأجنبية في مصر إلى نهاية القرن التاسع عشر، وخاصة سياسات محمد علي، حاكم مصر من عام 1805 حتى عام 1849. شرع  محمد علي في برنامجه لتحديث الجيش وإدارة الدولة والاقتصاد، ما شجع العمال الذين يملكون المهارات اللازمة على الهجرة إلى مصر للمساعدة في هذه المهمة. وتحت حكم سعيد (1854-1863) وإسماعيل (1863-1879)، تم المضي قدمًا في سلسلة من مشاريع البنى التحتية الضخمة، مثل إنشاء شبكة سكك الحديد وتوسيع نظام القناة وبرنامج بناء حضري واسع النطاق. واستقطبت هذه المشاريع، وخاصة المشروع الرئيسي، أي بناء قناة السويس، أعدادًا كبيرة من العمال الإيطاليين واليونانيين والسوريين والدلماسيين. ظاهرة توافر وتوظيف مثل هذه العمالة المتعددة الجنسيات، سواء من مهاجرين دائمين أو عمال موسميين، لم تكن ظاهرة محصورة بمصر، بل كانت جزءاً من ظاهرة أوسع تكررت في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط وفي العالم الجديد (القارة الأميركية)، واضعةً أسُس شبكة دولية لانتقال العمل ورأس المال والسلع والأفكار.

1876 :فرع جديد للرابطة الأممية للعمّال:

في أبريل 1876، كان الأناركيون في الإسكندرية يديرون فرعاً للرابطة الأممية للعمّال (الاتحاد الإيطالي للرابطة الأممية للعمال). وبعد عام تماماً، أعلن هذا الفرع ولاءه للمؤتمر الاشتراكي العالمي في غِنْتْ ببلجيكا وأرسل مندوباً يمثّله. ورغم أن الخلاف بين الاشتراكية والأناركية كان يتفاقم في أوروبا في ذلك الوقت، بقي ثمة درجات من التعاون، طالب على أساسها فرع الإسكندرية المؤتمر بإقامة مكتب فيديرالي لنشر الاشتراكية في “المناطق الشرقية” من خلال نشر الأعمال باللغات بالإيطالية وبلاد البلقان واليونانية والتركية والعربية.

1872عمال يونانيون يؤسسون أول نقابة في مصر:

عام 1872، تأسست أول نقابة عمالية في مصر تحت اسم أخوية العمال، على يد عمال يونانيين، جاء معظمهم من جزيرة كورفو.

 1877:صحيفة “العامل” (Il Lavoratore) تصدر في مصر

في فبراير 1877، أصدرت مجموعة الإسكندرية للأممية صحيفة “العامل” (Il Lavoratore) التي ما لبثت السلطات أن أغلقتها. وإنشاء هذه الصحيفة، وهي أول دورية أناركية تظهر خارج إيطاليا، ساهم أيضاً في إقامة الروابط والحفاظ عليها مع اليسار الدولي وتحديداً الشبكات الأناركية الإيطالية. ورسّخ أيضاً قوة الشبكة الإيطالية في مصر ودورها الريادي بين الشتات الأناركي الطلياني في العالم.

إيريكو مالاتيستا

يلجأ إلى الإسكندرية:

في سبتمبر 1878، غادر إريكو مالاتيستا مدينة نابولي الإيطالية هرباً من الاعتقال متوجهاً إلى الإسكندرية حيث نَمَت تجمّعات العمّال الإيطاليين. في تلك الفترة، وبعد أن تولّى الملك أمبرتو الأول عرش إيطاليا، حاول الجمهوري باسامانتي اغتيال الملك الجديد. إلان أن المحاولة فشلت ونتج عنها حملة قمع واسعة النطاق في جميع أنحاء إيطاليا، استهدفت الأناركيين على وجه الخصوص. أما في مصر، نظّم العمال الإيطاليون مظاهرة أمام القنصلية الإيطالية.

أوغو باريني ينظّم الطبقة العاملة في الإسكندرية:

حلّ أوغو إتشيليو بارني في الإسكندرية في 1877 (وُلد عام 1850 في ليفورنا بإيطاليا وتوفي في المنصورة عام 1906). وفي مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، كرّس نفسه لإعادة تنظيم الحركة الأناركية، بتوحيد مجموعات منشقّة مختلفة هناك ودعوتها إلى حضور اجتماعات (مثل الذي عُقد في 1881 وحضره 100 أناركي). وأنشأ مطبعة سرية في الإسكندرية استمرت تعمل حتى 1882. وقد استخدمها الأناركيون لطباعة البيانات والدوريات والكرّاسات، كالذي يحتفي بذكرى كومونة باريس. وأسس باريني أيضاً “الدائرة الأوروبية للدراسات الاجتماعية، وهي مجموعة بحثية فُتحت أمام كل الذين رغبوا في دراسة المسألة الاجتماعية. فرّ وطُرد بالقوة مرات عدّة مع قدوم الاحتلال البريطاني، ليعود إلى مصر في كل مرة. لم يُعرف الكثير عن نشاطات باريني وسواه من الأناركيين في المدينة في تسعينيات القرن التاسع عشر، لكن أعدادهم في مارس 1892 تزايدت في شكل كبير يكفي لكي ينظّموا تظاهرة واحدة على الأقل تخللها خطابات وأناشيد في ساحة محرّم بيه. وخلال تلك التظاهرة ألصقت بيانات باكونين على جدران المدينة.

تأسيس الدائرة الأوروبية للدراسات الاجتماعية:

في 1881 بالإسكندرية، أسس الأناركيون “الدائرة الأوروبية للدراسات الاجتماعية” لدراسة المسائل الاجتماعية. وكانوا يديرون مطبعة سرية لطباعة الملصقات. وفي السنة نفسها، عُقد مؤتمر في سيدي جبر حضره مئات الناشطين من فرق أناركية مختلفة ومنتشرة في أرجاء مصر.

ومهّدت تلك “الدائرة الأوروبية” الطريق إلى غرفة القراءة الأممية، وهي عبارة عن مكتبة صغيرة في القاهرة تضم مؤلفات وصحف أناركية، فتحت أبوابها للعموم في يونيو 1902. وكانت توزّع البيانات باللغتين الإيطالية والعبرية (أو الييديش) في المناسبات. تلت ذلك سلسلة من المؤسسات، مثل نادي الدراسات الاجتماعية الذي أطلقه في الإسكندرية شباب أناركيون يهود في 1903، وفي السنة التالية غرفة القراءة التحررية في القاهرة. وبعد ثلاث سنوات، دعت لجنة من الأوروبيين واليهود المحليين والمصريين، “جميع العمّال وأصدقاء العدالة” إلى التعاون لتأسيس غرفة قراءة أممية تنفّذ نشاطات علمية وفلسفية وسياسية واجتماعية بكل اللغات. ثم تجاوزت منظّمات أخرى غرفة القراءة، مشدِّدة على الجوانب الخاصة بالفكر التحرري. وقامت نوادي الإلحاد في القاهرة والإسكندرية، بينما نُظّم قسم للمفكّرين الأحرار في الإسكندرية فاق عدد أعضائه المئتي شخص.

مالاتيستا وتشيبرياني يقاتلان المحتلين البريطانيين في مصر:

في مصر، حارب عدد من الأناركيين الطليان، ومن بينهم إيريكو مالاتيستا، البريطانيين في 1882، إلى جانب المصريين.

ففي عام 1878، وصل إلى الإسكندرية عدد من الناشطين الأمميين هرباً من القمع في أعقاب ثورة بينيفينتو في ايطاليا، ومن بينهم مالاتيستا. بقي مالاتيستا في الإسكندرية لفترة قصيرة مع أخيه الذي كان يعيش في المدينة. لكنه عاد إلى مصر عام 1882 عندما حاول الأناركيون، دون جدوى، دعم حركة أحمد عرابي. وما يزيد من أهمية هذا الكفاح العابر للحدود وجود بعض من أركان الأناركية مثل مالاتيستا نفسه وأميلكاري تشيبرياني، وكلاهما سيقود في المستقبل الحزب الأناركي الإيطالي الذي أنشئ في إيطاليا في 1891. وكانا معروفين جداً في الأوساط عندما تلاقيا وتقاربا في الإسكندرية. وبالفعل، في 1882 تبيّن أن مالاتيستا ورفاقه الأناركيين خاضوا معارك في صفوف الثورة العرابية ضد المحتلين البريطانيين في تلك السنة، وأوقف بعضهم بينما فرّ آخرون.

وفي مؤتمر في لندن في يوليو 1881، والذي نُظّم كمحاولة لإعادة تشكيل الأممية، مثل مالاتيستا أمميي الاسكندرية.

إضراب عمال الفحم في قناة السويس:

بدأ عمال الفحم في قناة السويس في مصر إضراباً عن العمل. يُعتَبَر هذا الإضراب الأول في تاريخ مصر الحديث. وخلال العام نفسه، بعث رئيس نقابة عمال إيطاليا بالإسكندرية برسالة إلى الحكومة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء سامي باشا البارودي معرباً عن تأييد النقابة لتمرد أحمد عرابي وتنديدها بالتدخل الأجنبي.

الاحتفال بكومونة باريس في مصر:

في 18 مارس 1889 بمصر، حصل أول احتفال سنوي موثّق بكومونة باريس التي تأسست في 1871. كانت ذكرى كومونة باريس إحدى أهم التواريخ بالنسبة للعمال آنذاك. ولكن انتشار تاريخ الأول من مايو بين الطبقة العاملة في فترة لاحقة جعله يوم التعبير الأهم عن التضامن الدولي للعمال.

القبض على عامل يوناني في الإسكندرية:

في 18 مارس 1894، نشرت صحيفة “الهلال” المصرية خبراً عن اعتقال عامل يوناني في الإسكندرية بتهمة توزيع ما تسميه الشرطة “منشورات فوضوية”. وتدعو المنشورات العمّال للاحتفال بالذكرى السنوية لكومونة باريس وذُيل المنشور بعبارة “تحيا الأناركية” (أو “تحيا الشيوعية” حسب ترجمة أخرى).

إضراب عمال شركة قناة السويس اليونانيين :في الأول من أكتوبر 1894، نفذ عمال يونانيون من شركة قناة السويس إضراباً عن العمل

تأسيس نقابة صانعي الأحذية:

عام 1894، أسس اليوناني ساكيلاريديس ياناكاكيس نقابة صانعي الأحذية

بييترو فاساي يزور الإسكندرية:

في 1898، حطّ بييترو فاساي، وهو أناركي إيطالي عمره 32 سنة، رحاله في الإسكندرية بعد جولة في المتوسط استغرقت ثلاث سنوات. وفاساي الذي وُلد وترعرع في فلورنسا، كان انخرط في المشهد الأناركي بتوسكانا وهو في سنّه السادسة عشرة، وما لبث أن أصبح من أبرز شخصياتها بانضمامه إلى الأوساط الأناركية والاشتراكية وإدارته إحدى أهم الدوريات الأناركية في ذلك الوقت، “المسألة الاجتماعية”، التي أساسها إرّيكو مالاتيستا وهو من أعمدة الأناركية الإيطالية.

تلك كانت سنوات خطيرة اشتد فيها القمع ونثرت المداهمات التي شُنّت على الأناركيين في كل أوروبا، وقد أكل نصيبه منها بعد كل عودة من المنافي التي كان يختارها لنفسه. وقد أكسبه انخراطه في نشاطات الأناركيين المحليين خبرة في النضال العمّالي واحتراماً كبيراً وشهرة إثر نجاحه في إقامة شبكة علاقات مع زملاء أناركيين من كل أنحاء العالم. وفي المقابل، صنّفته الشرطة الإيطالية في ملفاتها كـ “أناركي خطير”. وفي 1896 استأنف حكماً بالسجن وفاز بعفو لقاء مغادرته البلاد.

ثم رحل فاساي إلى مصر ووصل أخيراً إلى الإسكندرية التي بقي فيها حتى 1914. وقد ركّز الأناركيون على نشر الدوريات والبيانات. وفي الإسكندرية سبعٌ منها صدرت ما بين 1877 و1914. واستغل فاساي مهاراته كمطبعي في إنتاج دورية لا تزال موجودة مع جوزيف روزنتال الأناركي اليهودي الذي كان لديه بعض العلاقات مع بيروت وانتقل إلى الإسكندرية من القاهرة في 1899.

اعتقال مراهقين أناركيين في الإسكندرية:

في أكتوبر 1898 بمدينة الإسكندرية، اعتُقل 8 مراهقين أناركيين بتهمة التآمر والتخطيط لاغتيال إمبراطور ألمانيا ويلهلم الثاني في أثناء جولته في الشرق الأوسط. وبذيوع الخبر على نطاق واسع عبر الإعلام المحلي والعالمي لزيادة تأثيره، بدت المسألة أنها من إعداد عميل محرّض، وربما بمساعدة القنصلية الإيطالية، ما يجعلها تعكس قلق السلطات أكثر مما هي خطر فعلي من عمل ثوري عنيف ينفّذه ناشطون محليون. وكانت السلطات القنصلية المحلية حريصة على إذكاء الشعور بالتهديد الذي تشكله الأناركية على المجتمع ككل.

وبالفعل، تظهر مذكرات نائب القنصل الايطالي في الاسكندرية أبوليناري بورديسي أنه شك بمحاولة اغتيال تُحضَّر ضد إمبراطور ألمانيا. وبحسب جريدة الأهرام المصرية، بالتعاون مع الشرطة المصرية، داهم بورديسي ليل 14 أكتوبر 1898 حيّ محرم بك حيث كان يقطن العمال العرب واليهود والاوروبيون الفقراء في ضواحي المدينة. وُجدت قنبلتين في حانة يملكها الأناركي الايطالي أوغو باريني، بجانب مناشير تحريضية ودوريات أناركية ولائحة بأسماء الأشخاص المسجلين على قوائم توزيع المنشورات. وكانت الحانة مركز لقاءات الأناركيين في المدينة. وكان باريني معروفاً بأفكاره المتقدمة آنذاك ومبادراته الخيرية. استخدم بورديسي القنبلتين الموضوعتين من قبل شخص مجهول في الحانة، كحجة لتوقيف عدد من الشبّان لورود أسمائهم في لوائح توزيع المنشورات، وأسس الحدث لتعاوني سري بين أجهزة الأمن الأوروبية لمواجهة الأناركيين في مصر. حتى أن بورديزي قرر مراقبة جميع المنشورات والرسائل البريدية التي كانت تصل إلى مركز البريد لمراقبة حركة الأناركيين في المدينة.

خلال المحاكمة في العام التالي، تمت تبرئة جميع المتّهمين من تهمة التآمر، بالرغم من إدانتهم بتهم أقل خطورة تتعلق بحيازة مؤلفات أدبية محظورة.

إضراب عمال التبغ في القاهرة:

في ديسمبر 1899، نسّق عمّال مصانع التبغ في القاهرة نشاطاتهم ونفّذوا إضراباً في وقت واحد. وفي أحد أبرز الإضرابات التي شهدتها صناعة التبغ في العاصمة المصرية، شارك عمّال مصانع الألبسة الأوروبية (“خياطي الثياب الإفرنجية”) بحضور الاجتماعات وتسيير التظاهرات، وانضمّ إليهم عمّال لف السجائر وغيرهم من قطاعات أخرى. ووصلت تعبئة العمّال إلى حدّ بلغ معه عدد المتظاهرين 1500.

عامل يوناني يوزع كتيّباً تحريضياً:

في بداية عام 1900، نشر العامل اليوناني “ك. أستيرياديس” كتيّب بعنوان “العمل ورأس المال أو الهيمنة والمال”، متبنيّا آراء اناركية نقابية.

لويجي غالياني يلجأ إلى مصر:

كان لويجي غالياني أناركياً إيطالياً ينشط في الولايات المتّحدة بين 1901 و1919. عُرف لمناصرته الحثيثة لمبدأ “بروباغاندا الفعل”، أي توسّل العنف للتخلّص من كل من يستخدم الطغيان والقمع كما للتحفيز على الإطاحة بالمؤسسات الحكومية القائمة. فرّ غالياني (1861 – 1931) من سجنه على جزيرة بانتيليريا ولجأ إلى مصر في نهاية 1900. فأبلغته السلطات المصرية بأنها ستتخذ قريباً إجراءات ترمي إلى ترحيله إلى إيطاليا، فغادر مصر في شكل فجائي إلى لندن على متن سفينة. وفي نوفمبر 1901 غادرها إلى الولايات المتحدة حيث تولى إدارة التحرير في الصحيفة الأناركية La Cronaca Sovversiva (التدوينات الهدّامة).

1901: تأسست دورية “المنبر الحر” (La Tribuna Libre) الناطقة بلغتين في 1901، وكانت توزّع بأكثر من ألف عدد، 600 منها كانت تُرسل إلى إيطاليا. وكانت تنشر نصوصاً مترجَمة لكروبوتكين وباكونين وريكلوس، وتولستوي، فضلاً عن مقالات لأناركيين طليان مثل مالاتيستا. كما ضمّت قسماً للشؤون المحلية، تناقش فيه مبادرات الأناركيين المحليين، مثل المحادثات والاجتماعات والإضرابات.

وبشّر ظهور “المنبر الحر” بلغتين بزمن متجدد من النشاطات في أكتوبر 1901. طرحت نفسها “عضواً أممياً لتحرر البروليتاريا، وهي لم تسعَ لأقل من “الانعتاق الكامل من العبودية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية” لعمّال العالم. وعلى مدى سبعة إصدارات ظهرت قبل نهاية السنة، نجحت في إرساء مثال للصحافة الراديكالية التي تلت، بتقديمها مقالات حول الفكر الأناركي، وأخبار محلية وعالمية عن الحركة، ومقتطفات من كتّاب مرموقين مثل ليو تولستوي، إضافة إلى سلسلة حول التربية للأناركي الهولندي فردينان دوميلا نيواهاوس.

إفتتاح المدرسة الشعبية الحرة في الإسكندرية:

مساء يوم الأحد 26 مايو 1901 ، أُعلِن افتتاح الجامعة الشعبية الحرة (Università Popolare Libera) في مدينة الإسكندرية. فكرة المدرسة مستوحاة من إليزيه ريكلو (Élisée Reclus) وغالباً ما نظّمها الأناركيون الإيطاليون. سعت هذه المبادرة الراديكالية إلى “تعزيز انتشار الثقافة العلمية والأدب بين الطبقات الشعبية” على أساس العلمانية والأممية ومناهضة الاستبداد. كانت الجامعة الشعبية الحرة المبادرة الأكثر جذرية في التعليم في مصر قبل الحرب العالمية الأولى وجزءًا من نمط أوسع من النشاط الأناركي الذي لعب دورًا مهمًا في تطوير الحركة العمالية، والنشاط السياسي الشعبي والفكر التقدمي في السنوات الأولى من القرن العشرين. كان للجامعة الشعبية الحرة في مصر طابعها الخاص ، الذي تشكل من دوافع ثورية وفهم لواقع المجتمع الديني والعرقي واللغوي المتنوع.

محاضرات “خبز وحرية”في الإسكندرية:

في 1904، قدّم بييترو غوري محاضرات “خبز وحرية” في الإسكندرية، وعُلم أن “حشداً كبيراً” حضرها، كدليل على استقبالها بالترحاب. ومر بييترو غوري بمصر وفلسطين مطلع 1904، خلال جولة ألقى فيها عدداً من المحاضرات.

ملصق بمناسبة عيد العمال:

في 1 مايو 1906، علّق الأناركيون المصريون ملصقاً يقول:

في هذا اليوم، وعبر البحار والحدود، توحّدت أقليات واعية من الناس من مختلف الأعراق والأديان والجنسيات والتقاليد في تطلّعاتها نحو التقدّم المدني والحب والسلام والرفاه والحرية لإلقاء التحية على 1 أيار كيوم مصيري.”

ووقّع الكتّاب رسالتهم بصفتهم Gli Ararchici (لي أناركيتشي) أو الأناركيون.

احتجاجات في القاهرة والإسكندرية:

في يناير 1907، انطلقت سلسلة من الاحتجاجات في الإسكندرية والقاهرة اعتراضاً على إشاعة ترحيل ثلاثة من الثوريين الروس. نظّم العمال الأجانب في الإسكندرية والقاهرة، بينهم يونانيون، مظاهرات وتحرّكات أخرى ضد ترحيل اللاجئين. كان اللاجئون الروس قد فرّوا إلى مصر هربًا من موجة القمع التي أعقبت ثورة 1905 الفاشلة في روسيا.

إضراب سائقي سيارات الأجرة استقطب عمّالاً في قطاعات أخرى:

في ربيع 1907، انضمّ إلى إضراب سائقي سيارات الأجرة سائقو عربات الأجرة وحائكو الحرير والجزارون وغيرهم من العاملين في قطاعات أخرى. واستمرّت احتجاجاتهم ستة أسابيع، ضمن تحرّك وُضف حديثاً بأنه “بالتأكيد أهم موجة احتجاج شعبية تسبق ثورة 1919 في مصر”.

عقد مؤتمر أناركي في مصر:

صدر عن مؤتمر الأناركيين الذي عُقد في 1909 بمصر بياناً تأسيسياً (مانيفستو) أناركياً نوّه بالمطالب الأساسية لإلغاء الملكية الخاصة والدولة. ومع ذلك، أولى اهتماماً أكبر لهدف التحوّل الاجتماعي عن طريق البروباغاندا والتعليم والنقابات العمالية، بأن حض الأعضاء المشاركين:

“… على الانخراط جماعياً أو فردياً في أي عمل تحريضي ذي طبيعة أخلاقية واقتصادية واجتماعية، والمشاركة بحيوية في جميع النضالات العمالية المناهضة لرأس المال، […] مع المحافظة على حياتهم الخاصة والعامة في توازنها بين المثالية والفعل بهدف استدرار التعاطف الشعبي نحو الأناركيين.”

تأسيس الاتحاد العالمي النقابي الأناركي بالقاهرة:

في 1909 بالقاهرة، نشأ “الاتحاد العالمي النقابي – الأناركي” كقوة صناعية وأخلاقية مؤثّرة. وكشفت الأمر صحيفة قاهرية أكّدت بثقة إذ أعلنت:

“لحسن الحظ في القاهرة، أخذت تتوسّع أكثر فأكثر حركة هدفها إشاعة التآخي بين الطبقات العمالية، ولن تمرّ سنوات كثيرة حتى تتحوّل مدينة الخلفاء إلى أحد المراكز الأولى للاشتراكية بسبب طابعها الدولي.”

توزيع مناشر وتظاهرات داعمة لفيرير:

تضافرت مشاعر العداء الأناركية للسلطة الدينية والاستبداد السياسي بعد ألقاء الحكومة الإسبانية القبض على فرانشيسكو فيرير إي غوارديا، وهو مفكر أناركي بارز ومدرّس ومؤسس حركة المدرسة الحديثة في إسبانيا، متهمة إياه بالمشاركة في انتفاضة مناهضة للتجنيد الإجباري. إنتشرت أخبار توقيف فيرير بسرعة وأثارت احتجاجات واسعة النطاق على الصعيد الدولي. تم تشكيل لجنة مؤيدة لفيرير في الإسكندرية ووُزعت مئات النسخ من منشور “رقم واحد” في 30 سبتمبر 1909 للتعريف بالقضية. في 4 أكتوبر من نفس العام، شجب عدد من المتحدثين تصرفات الحكومة الإسبانية في اجتماع عقد في جامعة الشعبية الحرة. على الرغم من هذه الاحتجاجات وغيرها، تم إعدام فيرير في برشلونة بعد بضعة أيام، لكنه سرعان ما اكتسب مكانة الشهيد بالنسبة لكثيرين من الطبقة العاملة. بعد حوالي الشهر، نظم عدد من المنظمات الأناركية في القاهرة مسيرة إحتجاجية مؤيدة لفيرير. بحلول نهاية العام، تم وضع لوحة تذكارية لذكرى فيرير في الإسكندرية وفي الأول من مايو من العام التالي، هتف المتظاهرون: “عاش الأول من نوار، عاشت الحرية، عاش فرانشيسكو فيرير”.

إطلاق “النقابة المختلفة” متعددة الحنسيات:

في عام 1909، خلال حفل إعلان تأسيس الاتحاد الدولي للعمال والموظفين، خاطب المتحدثون جمهورًا يزيد عن ألفي

 شخص حول أهمية العمل الجماعي والتضامن الدولي، متحدثين باللغات العربية والفرنسية واليونانية والإيطالية والألمانية.

 كانت قيادة النقابة متعدة الجنسيات أيضاً. فتأسست لجنة من 14 عضواً بينهم خمسة يونانيين وخمسة مصريين واثنين

 سوريين وإيطالي وأرمني. كانت نقابة صانعي الأحذية تتبع النهج نفسه لجهة تعدد جنسيات أعضائها. كان الاتحاد

 (بالعربية، النقابة المختلفة) أوضح تعبير عن وحدة العمال الأجانب والمصريين وقضاياهم. وشكّل الإتحاد الأداة الأسمى

 للتنظيم الأناركي-النقابي. تأسست هذه النقابات المتعددة الجنسيات في مهن مهمة مثل عمال السجائر والخياطين وعمال التبغ وصانعي الأحذية.

ابراهيم الورداني يغتال

بطرس باشا غالي:

أقدم ابراهيم الورداني، عمره 23 سنة خريج كلية الصيدلة، على اغتيال رئيس الوزراء المصري بطرس باشا غالي. وتلقى الورداني علومه في لوزان وباريس، وكان وصل لتوّه إلى مصر قادماً من لندن. وأُعدم الورداني في 28 يونيو 1910.

وفقاً لتقارير الشرطة المصرية، كانت الأناركية إيديولوجيا شعبية بين المصريين الأصليين في 1910. وقد أصبحت مبادئها مألوفة بشكل متزايد واستقطبت اهتمام مجموعة واسعة من الأفراد والجماعات ممن يرفضون الوضع الراهن، خصوصاً أولئك المنخرطين في نشاطات مناهضة للبريطانيين والوطنيين المصريين. والورداني الذي نفّذ الاغتيال هو من المناصرين المتحمّسين لمصطفى كامل، وقيل أنه خالط “الثوريين والأناركيين” الروس خلال دراسته في لوزان. ولدى عودته إلى مصر، لعب دوراً جوهرياً في النقابات العمّالية وفي المدارس الليلية للعمّال التابعة للحزب الوطني المصري. ويكشف مصدر بريطاني أن هؤلاء العمّال المنتمين إلى طبقات دنيا مصرية تلقوا دروساً في المبادئ الثورية وحملوا كرهاً ممنهجاً للقوة المحتلّة. كما ادّعى البريطانيون أن الورداني، وفي مناسبات عدّة، أظهر ميلاً واضحاً نحو المبادئ الأناركية (وليس الاشتراكية). وختم التقرير بالقول: “هذا ما يجعل تعيينه منظّماً لنقابات العمّال ومحرّضاً على الإضرابات يشير بوضوح إلى مدى تهور هؤلاء القادة فيما يتعلق بالوسائل التي هم على استعداد لتوظيفها من أجل تعزيز مشاريعهم، ويكشف مسؤليتهم الأخلاقية عن أي أعمال عنف جرّاء ذلك.” ورغم أن الورداني نكر بشدة المزاعم القائلة إنه أناركي، قد لا تكون أفكاره وأفعاله السياسية حينذاك مطعّمة بالمبادئ الأناركية. وليس مفاجئاً أن يتسبب فعل الورداني ومحاكمته إثره موجةّ من الذعر ويطلق حمّلة مطاردات شعواء ويفتح تحقيقاً واسعاً في المجتمعات السرية في مصر. وأقيم مكتب شرطة خاص بتنفيذ هذه المهمة. وما لبث أن سُرّبت معلومات تشير إلى وجود 26 منظّمة مماثلة على الأقل، كثير منها تخطط لتنفيذ اغتيالات سياسية وغيرها من أعمال العنف السياسية. وبالتحديد، كانت إحداها تحمل اسم “جمعية التشجيع على التعليم الحر”. أعضاؤها 12 “نصفهم طلاّب في الأزهر… ونًمي إلينا أن لدى هؤلاء الشبّان نزعات فوضوية.”

حملة ضد الإناركيين في مصر

في عام 1911 ، أطلقت الدولة المصرية حملة اعتقالات وملاحقات قضائية ضد الأناركيين والنقابيين الأناركيين الإيطاليين.

 أدّت الحملة إلى ترحيل بعض الإيطاليين.

إضراب القاهرة:

في القاهرة، نفّذ عمال شركة الترامواي إضراباً، ما لبث أن انضمّ إليهم عمّال شركات الكهرباء والغاز والمياه.

ترحيل الجالية الإيطالية من ولايات حلب ودمشق وبيروت: ردّاً على قصف السفن الحربية الإيطالية مدينة بيروت في 24 فبراير 1912، وبعد أربعة أيام من المعركة، أمرت السلطنة العثمانية ولايات بيروت وحلب ودمشق بطرد جميع المواطنين الإيطاليين، ما أدى إلى ترحيل أكثر من 60 ألف إيطالي من المنطقة.

ترحيل ناشطين أناركيين أيطاليين

في سبتمبر 1919، بعد صيف من الإضرابات، تم ترحيل العاملَين الإيطاليين ماكس دي كولالتو

 (ناشر “روما” وعضو في الجمعية الدولية لموظفي القاهرة) و غيسيبي بيزوتو (إشتراكي ثوري وعضو نقابة عمال المطابع).

تأسيس الحزب الاشتراكي المصري:

في أغسطس 1921، تأسس الحزب الاشتراكي المصري، سلف الحزب الشيوعي المصري. وبوجود مقرّه العام في القاهرة وفروع  أخرى في الإسكندرية ومنطقة الدلتا، نجح حتى أواخر 1922 في استقطاب 1500 عضو من المواطنين المصريين والأجانب المقيمين.

 وكان برنامجه مناهض للامبريالية يدعو إلى تحرير وادي النيل (مصر والسودان)، ومناهض للرأسمالية. وهو يدين مبادئه الاقتصادية  والاجتماعية بشدة للأناركية، رغم أنه اعتمد سياسات برلمانية. ووفقاً لأحد قادته، جوزيف روزنتال، هدف الحزب:

“إلى الدفاع عن مصالح العمّال في البرلمان ومواقع أخرى، وإلى العمل على دفع الحكومة لسن قوانين اجتماعية لحماية العمّال،

 الذين كانوا تحت رحمة الرأسمالية وطغيانها.”

كلمات روزنتال تلك، وهو شخصية بارزة في مناصرة السياسات الراديكالية لأكثر من عشرين سنة، توحي بأن كثيرين ممن كانوا

 مناضلين أناركيين قبل الحرب، انتقلوا إلى الحزب الذي شكّل الوسيلة الأساسية للقوى الراديكالية ضد النظام السياسي التقليدي.

 وبهذا، أصبحوا على وفاق مع خصومهم الأقربين، أي الاشتراكيين، أي مع من كانوا يخوضون المعارك لنصرة قضايا مشتركة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.

تضامن أممي في منشور:

يصف أنطوني غورمان ظاهرة الأناركية الأممية في مدن جنوب المتوسط

 بأنها “مجتمعٌ متخّيل لا تحدّه حدود” أنشأه وكرّسه “المنشور الأممي” وليس “المنشور الرأسمالي”.وبالفعل، شكّلت الصحافة الأناركية الأممية قناةً حيوية لبث الأفكار ونشرها، تلك الأفكار التي تعبّر عن أن الحركة ترى نفسها أممية في المبدأ والممارسة. ونتيجة لذلك، ظلت الأذرع المشتتة للحركة مترابطة ومطّلعة من خلال شبكة صحافية أناركية متوسّعة منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر.

وكانت المعلومات تتدفّق في الاتجاهين. فكان النشطاء في مصر يشتركون بانتظام في الصحف الأناركية التي تصدر في أوروبا وشمال أفريقيا والأميركيتين، بالإيطالية معظم الوقت، لكن أيضاً بالفرنسية واليونانية. والمناضلون في مصر يساهمون بدورهم بمقالات حول الشؤون المصرية في الصحف الأناركية في الخارج، وتحديداً قبل ظهور الصحافة الأناركية المحلية. وعندما تأسست صحف مثل La Tribuna Libra (المنبر الحرّ) وL’Operaio (العامل)، كانت متاحة لجمهور قراء منتشر في العالم في وسعه تتبّع الأخبار العمّالية والاجتماعية في مصر. ومن بين الصحف التي كان يتصفّحها أناركيون في مصر، Il Libertario (من لاسبيتزيا) وIl Grido Della Folla (من ميلانو) وSocialitis (من أثينا) وLa Rivoluzione Sociale (من لندن) وLe Réveil (من جنيف) وL’Operaio (من تونس) وLa Libertà (من نيويورك) وLa Protesta Humana (من سان فرنسيسكو) وLa Nuova Civilità (من بوينوس أيريس).

نسبة كبيرة من أعداد La Tribuna Libera (ومن الدوريات الأناركية الأخرى التي تصدر في الاسكندرية) كانت تُرسَل إلى الخارج. وهو ما يدل على مدى انتشار هذا المشروع عالمياً ومدى اتصال الاسكندرية بالعالم، وأهمية ذلك بالنسبة إلى  تلك الشبكة العالمية. وكان أعضاؤها المنتمون إلى المشهد الأناركي المصري يساهمون بمقالات وتدوينات حول الأناركية بمصر لتُنشر في الدوريات الأناركية في المدن والمناطق المذكورة أعلاه، ويخوضون نقاشات مع رفاقهم الأناركيين على صفحات الدوريات الأناركية الشهيرة، مثل La Révolte التي كان يصدرها جان غراف. فكانوا يتتبّعون أخبار بعضهم بعضاً في شكل وثيق وباهتمام، ويُبدون قلقهم على مصير رفاقهم، ويُرسِلون أخباراً عن أفراد أناركيين ومسارات تنقّلاتهم، ويجمعون الأموال عالمياً لدعم العائلات الأناركية في الخارج، ويدعمون الدوريات الأناركية في إيطاليا والخارج، ويناقشون بحماس وشغف النظريات الأناركية المختلفة.

وهكذا، أدّت الدوريات دوراً مركزياً في ترسيخ وصون هذا المجتمع الدولي وروح التضامن والتكافل، وهو شعور وطّده قدوم أعضاء من الشبكة باستمرار، حاملين معهم رسائل وأخباراً وكتباً ودوريات من رفاق أناركيين. أمّا عابرو السبيل فكانوا يسافرون ويتابعون الأحداث في المدن التي رحلوا عنها من خلال المجلات والمناشير التي يوزّعها أقرانهم على طول حوض المتوسّط.

تناولت الصحف والدوريات جوانب مختلفة من البرنامج الأناركي. ففي الاسكندرية، روّجت الأسبوعية L’Operario (بين 1902 و1903) للأناركية النقابية، وركّزت على قضايا الجمعيات العمّالية والتعليم والصحة العامة. وفي المقابل، اعتمدت Il Domani (الغد 1903) في القاهرة نبرة تحررية عالية. أما Lux! (النور! 1903) المجلة الأدبية نصف الشهرية فقدّمت مناقشات مطوّلة للنظرية الأناركية وممارساتها، في حين أن الأسبوعية الاسكندرانية Risorgete! (انهض من جديد! 1908 – 1910) راحت تدرّج خطاً مناهضاً بقوة لرجال الدين. وفي 1908، ظهرت دورية O Ergatis (العامل) لتشكّلَ “ذراعاً لتحرير المرأة والعامل”، وتستقطبَ جمهور قرّاء باللغة اليونانية. ورغم التباينات في الأساليب والتوجّهات، ما ينطبق بالفعل على Il Domani وL’Operario، كشفت تلك المطبوعات التنوّع الأيديولوجي واللغوي للحركة المصرية. ومنذ 1909، راحت تتشكّل صحافة أناركية أكثر تناسقاً وتنظيماً بناءً على الإجماع الذي حصل في الاسكندرية تلك السنة. وفي السنتين التاليتين، صدرت صحيفتين، هما L’Idea (الفكرة 1909 – 1911) وL’Unione (الاتحاد 1913- 1914)، وتعاون على تحريرهما لجان في القاهرة والاسكندرية، وخاطبتا جمهوراً واسعاً من خلال مقالات بالإيطالية والفرنسية واليونانية.

ورغم طابعها المتعدد اللغات، بدا كأن الصحافة الأناركية في مصر لم تضمّ إليها صحفاً بالعربية. ومع ذلك، كانت الأناركية (ومرادفها بالعربية “الفوضوية”) تحتل بانتظام مساحة في الصحف العربية التقليدية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وغالباً في نقل نشاطات الحركة في الخارج. وفي نفس الوقت، صحف حداثية مثل “المقتطف” و”الهلال” تضمّنت مقالات تناقش أصول الفكر الأناركي وتطوّره وممارساته، وتكون أحياناً ضمن سياق حركة اشتراكية واسعة. ومنذ 1897، تبنّت “الجمعية العثمانية” أفكاراً اشتراكية في حين أن مجلّة “المستقبل”، التي ظهرت في 1914 وما لبثت أن أغلقتها السلطات، حملت مقالات سلامة موسى وشبلي شميّل، وهما كاتبان مصريان تأثّرا بالأفكار الأناركية.

فريق الإنتاج:

الباحثون: حرمون حمية، محمود العاكوم

منتج: حرمون حمية

تحرير وترجمة: زكي محفوض

تصميم غرافيكي: فرانسوا الدويهي

تطوير ويب: ميلاد الدويهي

مجلة شهرية تقدم لجمهورها كتابات ومقالات وأبحاث نقدية تتقاطع فيها الفلسفة والسياسة والفنون والثقافة وعلم النفس.

المراجع الرئيسية:

Anarchism and Syndicalism in the Colonial and Postcolonial World, 1870-1940Edited by Steven Hirsch and Lucien van der Walt

Anarchists in Education: The Free Popular University in Egypt (1901)By Anthony Gorman

Anarchism in Egypt before the First World WarBy Anthony Gorman

Foreign Workers in Egypt 1882-1914: Subaltern or Labour Elite?By Anthony Gorman

The Eastern Mediterranean and the Making of Global Radicalism, 1860-1914by Ilham Khuri-Makdisi 

Subalterns and Social Protest: History from Below in the Middle East and North AfricaEdited By Stephanie Cronin

مواد  ونصوص جُمعَت أو نُشرت على منصة libcom.org


لقراءة أعداد جريدة المسار اضغط هنا