رانا ميتر، مديرة قسم الدراسات الصينية في جامعة اوكسفورد البريطانية، فورين أفيرز
مارس/أبريل 2024
إعداد رامز باكير
في عام 2023، كشفت قناة هونان التلفزيونية، ثاني أكثر القنوات التلفزيونية مشاهدة في الصين، عن سلسلة بعنوان “عندما التقى ماركس بكونفوشيوس”. كانت فكرة المسلسل ممثلون يلعبون دور المفكرين – كونفوشيوس يرتدي ثوبًا بيجًا، وكارل ماركس يرتدي بدلة سوداء و بيروكة ذات شعر أبيض كثيف – وفي المشاهد يلتقيان في أكاديمية يوئيلو، وهي مدرسة تعود إلى ألف سنة مضت مشهورة بدورها في تطوير فلسفة كونفوشيوس. وعبر خمس حلقات، ناقش ماركس وكونفوشيوس طبيعة السياسة، ووصلوا إلى استنتاج أن الكونفوشيوسية والماركسية متوافقتان – أو بالأحرى أن ماركس قد استمد نظرياته بشكل غير مدرك من بئر الكونفوشيوسية.
في إحدى الحلقات، لاحظ ماركس أنه ورفيقه “يشتركان في التزامهما اتجاه الاستقرار [السياسي]، ويضيف أنه “في الواقع، كنت صينيًا لفترة طويلة”، موحيًا بأن تفكيره كان دائمًا متناغمًا مع الرؤية الصينية التقليدية.
جاءت هذه السلسلة بدعم مباشر من قبل الحزب الشيوعي الصيني وشكلت جزءًا من مشروع شامل للرئيس شي جين بينغ و تصوره للهوية الفكرية لبلاده. فمنذ توليه السلطة في عام 2012، جعل شي من الضروري للشعب الصيني فهم تفسيره للفكر الصيني، الذي يطلق عليه “فكر شي جين بينغ”. وطُلب من البيرقراطية الصينية بأسرها من المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال و حتى نجوم البوب أن يُؤيدوا و يروجوا لفكره، ويتم تدريسه في المدارس، بل و يجب على أعضاء الحزب الشيوعي استخدام تطبيق على هواتفهم الذكية لتذكيرهم بمبادئ “فكر شي جين بينغ”.
يتمثل فكر شي بشكل أساسي في الجمع بين الماركسية الكونفوشيوسية، وفي تشرين الأول/اوكتوبر 2023، أعلن أن الصين اليوم يجب أن تعتبر الماركسية “روحها” و “الثقافة الصينية التقليدية الجميلة جذرها”.
تبدو جهود شي لإعادة تعريف أسس الفكر الصيني أكثر إلحاحًا مع تباطؤ النمو الذي أثار شكوكًا بين المستثمرين وعدم الثقة العامة داخل البلاد. فهو يقود بلدًا تُحترم فيه قوته الاقتصادية أكثر من نظامه الحاكم: فقد حصلت الصين الآن على مكان بين أكبر اقتصادات العالم ولكنها لا تزال تطلعاتها ضمن النظام الدولي. وستكون الدول الغربية مترددة في قبول تأثير الصين العالمي ما لم تتوافق الصين مع القيم ”الليبرالية الحديثة“. لكن محاولات تشي لتوليد تركيبة بين الماركسية و الكونفوشيوسية أثارت الدهشة بل حتى السخرية بين المراقبين خارج وداخل الصين.
خلال القرن الماضي، لطالما اعتبر المفكرون الشيوعيون الصينيون أن المستقبل المزدهر يتطلب قطيعةً كاملةً مع الماضي. ولطالما أدان المفكرين الصينيون البارزون في القرن العشرين بشكل عام الكونفوشيوسية، الفلسفة التي تؤكد على الهياراركية والطقوس والعودة إلى الماضي ذو النظرة المثالي. حيث اعتقد ماو تسي تونغ وغيره من المفكرين الشيوعيين الصينيين أن الكونفوشيوسية لا تتوافق نظريًا مع الماركسية، التي تحتفل بالثورة والتغير المستمر، وأن تأثيرها العملي على السياسة في الماضي جعل الصين ضعيفة.
كانت الفكرة الكونفوشية في نظرهم قد أنتجت بيروقراطية متعفنة فشلت في التكيف مع تحديات الحداثة، و جائت ثورة ماو الثقافية تجسيداً لهذا الشيء، عندما نسف الجيش الأحمر بالديناميت قبر كونفوشيوس قبل أن يعلقوا جثة عارية أمامه.
من الصعوبة محو الماضي في بلد ذو تاريخ غني. ويبدو أن الفكرة كانت دائماً ذات اهمية للمفكرين الصينيين، وللشعب الصيني عمومًا، بأن يُنظر إلى بلدهم على أنه يستجيب للتغيير السياسي باستخدام أساليب مستمدة من منهم كصينيين. ومع انه كان هناك العديد من نظراء الفكر السياسي في بداية القرن العشرين في الصين يدينون الكونفوشيوسية، فإن مفكرين آخرين سعوا إلى إظهار أن الصين ليست مضطرة إلى تقليد الأفكار الغربية – سواء كانت وطنية أو ليبرالية أو حتى ماركسية – لتحديث نفسها. ووجدوا خريطة طريق لنوع مختلف و و فعّال و حداثي آتي من ضمن عالم الفكر الصيني التقليدي.
في كتاب “صعود الفكر الصيني الحديث”، للباحث في اللغة والأدب الصيني في جامعة تسينغهوا وانغ هوي، يعود الكاتب إلى الفلاسفة المتأخرين في القرن التاسع عشر الذين عملوا على إعادة تشكيل الفلسفة الصينية. نُشر الكتاب لأول مرة باللغة الصينية في عام 2004، وظهر العام الماضي في طبعة إنجليزية جديدة، بجهود عدة مترجمين تحت إشراف مايكل جيبس هيل. على الرغم من أن الترجمة تتجاوز 1000 صفحة، إلا أنها تمثل ما يزيد قليلاً عن نصف الإصدار الصيني الأصلي المكون من أربعة مجلدات.
يحلل وانغ العلاقات بين النظرية السياسية والمسائل الحكومية الأكثر تحديدًا على مدى ألف عام من التاريخ الصيني. ولكنه يلاحظ أن “تفسيرات الصين الحديث لا يمكن تجنب السؤال عن كيفية تفسير سلالة تشينغ، التي حكمت الصين من عام 1644 إلى عام 1912. تقدم الدراسة العميقة لوانغ لأعمال مجموعة من الفلاسفة في أواخر سلالة تشينغ دليلاً على أن اعتناق الصين للماركسية لم ينشأ من رفض شامل للكونفوشيوسية. بل نشأ من تطبيق المفكرين السابقين للفكر الكونفوشي على تحديات الحداثة.
يعرض كتاب وانغ بالتفصيل الكثير، ولكن مقدمة جيدة من هيل تساعد على وضع القارئ الناطق بالإنجليزية في سياقه. ويكشف النص ببراعة عن صينية كانت دائمًا حية ومتعددة في فكرها السياسي. هذه الصورة تتعارض مع الإدراك المعتاد للمراقبين الخارجيين – وحتى بعض المؤرخين الصينيين – بأن الفكر الصيني كان وحيدًا وعرضة لانقطاعات مفاجئة.
من ناحية، يجعل كتاب وانغ “صعود الفكر الصيني الحديث” محاولة لتحقيق توازن بين الماركسية والكونفوشيوسية تبدو أقل غير معقولية. وإن لها تاريخ، فقد حاول فلاسفة جادون ذلك من قبل.
وقد اقترح كتاب كثيرون أن “العمل الفكري الإيديولوجي“ لن يكون له أهمية أو لا يمكن أن يكون له أهمية للشعب الصيني العادي، الذي يصارع بشكل متزايد المشاكل المادية، مثل دفعات الرهن العقاري التي تثقله، و توفير الرعاية الصحية لكبار السن. ولكن يبقى هناك تشوش تعاني منه الصين بشأن أزمة الهوية الوطنية. وبشكل ضمني، يقترح كتاب وانغ أن الجهود لإعادة تعريف الفكر الأيديولوجي للبلاد يمكن أن تساعد في التعامل مع تلك الأزمة.
ولكن تحليل وانغ يكشف أيضًا عن المسار الذي ضل فيه الحزب الشيوعي الصيني في تعبيره عن فكره الجديد بمصطلحات بسيطة ومعقمة، حيث يستمد أفكاره من قراءات غير مباشرة للكلاسيكيات ويمنع الانتقادات.
يعتقد المفكرين الذين يدافعون عن الأهمية الكونفوشية في بداية القرن العشرين أن مفتاح الحل لهذه المسألة يكمن في السماح للمفكرين والفلاسفة بمناقشة طبيعة الفلسفة الصينية نفسها. حيث كانوا في العقود القليلة الماضية، أكثر حرية في مناقشة البدائل السياسية.
فلاسفة وملوك
وانغ، واحد من أبرز المثقفين في الصين المعاصرة، كتب بشكل متكرر حول فترة ما بعد الثورة الشيوعية. وأصبح عضوًا بارزًا في الحركة الطلابية عام 1989 من أجل الإصلاحات الديمقراطية، وأصبح عضوًا بارزًا ايضاً في ما يُعرف بـ “اليسار الجديد” في الصين في التسعينيات. في كتابه لعام 2010، “نهاية الثورة”، حيث انتقد تحول الصين نحو سياسات السوق في التسعينات.
في كتاب “صعود الفكر الصيني”، لا يتناول وانغ بشكل صريح أي جانب من تاريخ القرن العشرين المضطرب للصين. حيث يظهر ماو مرة واحدة فقط في هذا العمل، و يهتم وانغ أكثر بفلاسفة ومفكريين صينيين سابقين قد تعاملوا مع التحديات التي أثارتها الحداثة، مُجادلًا بأن الصين عندما تغيرت، فعلت ذلك من خلال الاستفادة من منابعها الفكرية الداخلية. (المجلدات اللاحقة، غير المترجمة في طبعة هيل، تتناول الفترة الممتدة إلى بداية القرن العشرين).
تبدأ دراسة وانغ في السلالة السونغية (960-1279) وسلالة المينغ (1386-1644) مع الكونفوشيوسية الجديدة، مدرسة الفكر التي عدلت الكونفوشيوسية التقليدية في مواجهة تحديات الطاوية والبوذية.
ويكتسب تحليله أهمية معاصرة قوية عندما يتناول اشكال من المدارس الفكرية التي ظهرت في نهاية حقبة حكم سلالة تشينغ. في ذروة عصر تشينغ، حيث تضاعف السكان الصينيون ونجحت الحملات العسكرية بشكل كبير وتوسعت أراضيها.
كما و وسعى الأوروبيون لنيل مكسب على حساب هذه الانتصارات. لكن بحلول نهاية القرن التاسع عشر، جلبوا الفشل الاقتصادي والهزيمة على يد البريطانيين في حروب الأفيون، حتى انحدرت الصين إلى كارثة وجودية. بعدها اضطرت الصين إلى توقيع معاهدات مهينة مع مجموعة من القوى الناشئة بما في ذلك اليابان وروسيا والولايات المتحدة، وبدت الصين وكأنها لن تكون ببساطة مؤهلة لتكون مزدهرة في العصر الحديث.
وكان أحد الاستنتاجات المحتملة هو التخلي عن التقاليد الصينية القديمة لصالح الأفكار الغربية القومية والماركسية.
يُجادل وانغ بأن الأزمات التي أثرت على إمبراطورية تشينغ المتأخرة لم تكن مشكلة جيوسياسية وحسب حيث دول أخرى حصلت على ميزات مادية على حساب الصين. بل كانت أزمة في النظرة إلى العالم. منذ فترة طويلة، لطالما زعم العلماء والمفكرين أن الطرق التي تم فيها تطبيق الكونفوشيوسية على السياسة الصينية في القرن التاسع عشر تركت البلاد جامدة – غير قادرة على التعامل مع الأيديولوجيات الغربية الحديثة مثل الرأسمالية والليبرالية والقومية. وكان التركيز على أن الكونفوشيوسية بنية على التقاليد واحترام الهرمية وأدت لبيروقراطية جامدة وأحيانًا فاسدة فشلت في التعامل بمهارة مع الغزوات الأجنبية والانتفاضات الداخلية أو في الحفاظ على الإيرادات الضريبية الكافية لضمان الأمن والبنية التحتية.
ومع حلول نهاية القرن التاسع عشر، كان الفشل الاقتصادي قد أدى بالصين إلى أزمة كيانية. ولكن وانغ يقترح أيضاً آن هذا النوع من الركود ليس متأصلاً في الكونفوشيوسية. في الواقع، كان عالم الفكر الكونفوشي متسعًا ومرنًا. و غالبًا ما استمتع الفلاسفة الكونفوشيين بالتعامل مع الأفكار الأجنبية، بدمجها أو تركيبها لتتكيف الصين مع ظروفها التاريخية الجديدة. وبشكل ملحوظ، نحو نهاية القرن التاسع عشر، بحث مفكري حركة ”النص الجديد“ – تسمى بهذا الاسم لأنها استمدت من النصوص المكتوبة بخط جديد كشفت عنه سلالة هان القديمة – الطرق التي يمكن من خلالها إعادة تشكيل الكونفوشيوسية في الثقافة الخاصة بهم عند مواجهة الأفكار الغربية.
لم تقدم الحداثة، كما يقول وانغ، تحدياً لا يمكن الرد عليه، مما يضع صراعًا بين القديم والجديد. بدلاً من ذلك، اقترح فكر النص الجديد أن ترجمة الطقوس الكونفوشيوسية أو المبادئ إلى قوانين يمكن أن تحقق “الوحدة الكبرى” لهذه المبادئ مع المطالب الجديدة التي تطرحها العولمة والإمبريالية الغربية.كما و أراد مفكري ”النص الجديد“ أن يجدوا طرقًا لمقاومة التأثير الاجتماعي الذي خلّفه الفساد الحكومي.
يصف وانغ كيف أعاد المفكر الجديد ”وي وان“ البارز تحدي فرضية الزعماء الصينيين بأن الكونفوشيوسية تتطلب منهم إعطاء الأفكار والاستراتيجيات صينية المنشأ الأولوية على حساب الافكار الاخرى. و سعى لتفكيك التمييز بين “الداخل” و “الخارج”؛ مما سمح له بالدعوة إلى التحديث العسكري الذي يتضمن الابتكارات الغربية، بما في ذلك التدابير الجديدة للدفاع عن حدود الصين وبناء حوض بناء سفن ومعمل تسليح في جنوب الصين. واكتشف المفكرين مثل ”كانغ يوي“ مكونات حداثبة داخل الكونفوشيوسية، مؤكدين أن التفسيرات السليمة للنصوص الكونفوشية قد تكشف عن مكونات لهذا الفكر يمكن أن توازي تأثير الأفكار الحديثة الغربية. استنادًا إلى نظريات الكونفوشيوسية، صاغ كانغ فكرة ”داتونغ“، أو “الوحدة الكبرى”، “عندما يكون كل شيء على وجه الأرض، كبيرًا أو صغيرًا، بعيدًا أو قريبًا، يكون واحد“.
لم يرَ كانغ فارقًا بين اعتناق عالمية النظرة الكونفوشية والدعوة إلى عالم يتجاهل الحدود كونها لا تعني شيئًا. وقد حازت اقتراحاته بتأثير كبير، ولعب دوراً محوريًا في حركة الإصلاح ”المائة يوم“ في عام 1898، التي هدفت إلى تحويل الصين نحو النظام الدستوري الذي يشبه اليابان. وبهلع، أمرت الحاكمة القديمة تسيشي بإلقاء القبض عليه وطرده إلى المنفى. لكن أفكاره لم تمت. كانت فترة سلالة تشينغ الأخيرة فترة من النشاط الفكري الكبير، واستمر الفكر الصيني – بعضه في المنفى في اليابان – في مناقشة ومعالجة نظريات مثل تلك التي قدمها كانغ في مجموعة من المجلات الجديدة.
يُقال إن موقف فكر ”النص الجديد“ مكّن الجيل القادم من أن يكون مفتوحًا على الماركسية. في عام 1925، كتب المؤلف غو مورو عن ماركس “دخوله إلى معبد كونفوشيوس” في قصة قصيرة ألهمت جزئياً سلسلة تلفزيونية جديدة لتلفزيون هونان.
و في نص عام 1939 بعنوان “كيف تكون شيوعيًا جيدًا”، أشار ليو شاوتشي وهو شخصية مركزية في الثورة الشيوعية الصينية، إلى “الفضائل الشيوعية”، وهي صياغة أكثر كونفوشية من ما هي مادية.
أزمة الايمان:
يُعتبر صعود الفكر الصيني، في معناه الواسع، دراسة تاريخية. أحد المقترحات الرئيسية التي قدمها المفكرين في نهاية القرن أبان حكم سلالة تشينغ كانت أن الصين لا تحتاج فقط إلى إيجاد سبيل للخروج من الأزمة التي كانت تواجهها في ذلك الوقت بل أيضًا تضمين الحل في أشكال ثقافية صينية قديمة فلم تكن توجهاتهم الفكرية مشابهًا بأي شكل من الأشكال لوضع الصين الحالي. عندما كانوا يكتبون، كانت الصين عالقة في أزمة مالية عميقة وكانت تعاني من الانتفاضات الداخلية؛ كانت العديد من مناطقها الريفية متضررة بشدة، وكانت سيادتها قد تم التضحية بها بشكل كبير من قبل الغزوات الأجنبية وفرض معاهدات متحيزة. اليوم، تتمتع الصين بقوة اقتصادية وعسكرية هائلة و لا توجد تهديدات معنوية لسيادتها الوطنية.
ولكن مثل العديد من البلدان المتقدمة اليوم، لا تشعر الصين بالتزام المعايير الدولية التي وُضعت في الغالب من قبل الغرب في القرن العشرين. ويعتقد النخب الصينية أن هذه المعايير وفروضها الفكرية العالمية قد فُرضت على الصين فرضاً. وعلى الرغم من قوة الصين، إلا أنها تتأثر بشكل متزايد بشعور بالأزمة. يُعزى هذا المشهد جزئياً إلى الظروف المادية. بطالة الشباب الحضري في الصين، التي تقدر الآن بنحو 20 في المائة أو أكثر، وتزايد الفجوة بين الحضر والريف مرتبطة بالاقتصاد. كذلك، الصعوبة التي تواجه العائلات الصينية اليوم في سداد أقساط الرهن العقاري أو التعامل مع الرعاية الصحية والمعاشات غير الملائمة.وتكون لدى الصينيين، وخصوصاً الشباب شعور بالعجز.
لقد انتجت فترة النمو الاقتصادي المذهلة الأخيرة مفهومًا ذاتيًا للمواطنين الصينيين: الصين هي قوة جريئة وصاعدة، وكونها صينيةً يعني أن تكون في طليعة التطور. والآن يواجه هذا المفهوم تحدياً كبيراً ويبدو أن المسار النموذجي المثالي للنمو الصيني قد انحدر، ليترك ليس فقط حسابات البنك خاوية، ولكن أيضًا مفهوم الهوية الشخصية.
وتكون الشعور بالعجز في الصين أيضاً اجتماعيًا، خصوصاً بالنسبة للشباب، ولا يمكن حله بتحسين الظروف الاقتصادية وحدها.
فترة النمو الاقتصادي المذهلة الأخيرة أنتجت مفهومًا ذاتيًا للمواطنين الصينيين: الصين هي قوة جريئة وصاعدة، وكونها صينيًا يعني أن تكون في طليعة التطور. يتم تحدي هذا الفهم الأساسي الآن. يبدو أن المسار النموذجي للنمو الصيني قد انحدر، ليترك ليس فقط حسابات البنك خاوية، ولكن أيضًا مفهوم الهوية الشخصية.
اليوم، الكلمة التي يستخدمها الكثير من المهنيين الصينيين لوصف أنفسهم هي “مكتئبون”. في ثقافة تحمل الاعتراف بالمشاكل الصحية العقلية أثقالًا، حيث ذُكر في استطلاع وطني للرأي عام 2020 أن 35 في المائة من الصينين يعانون من الضيق أو القلق أو الاكتئاب. ويعبر الشباب الصيني على وسائل التواصل الاجتماعي عن خيبة أملهم و احتجاجهم معلنين أنهم “يستلقون” أو ”يتعفنون”. كما وأدت فترة الإغلاق العام أيام أزمة فيروس كورونا إلى تآكل الثقة في الدولة.
ويواجه العمال الصينيون الشبان في مجال الأعمال والأكاديميات ووسائل الإعلام المزيد والمزيد من القيود التي يجدونها صعبة الفهم. (على سبيل المثال، العديد من الطلاب الصينيين حريصون على الدراسة في الخارج، ولكن يُخبر العديد منهم أيضًا أنه إذا فعلوا ذلك، سيتعطل صعودهم في البيروقراطية الصينية.) ومع بدء الشيخوخة في الصين، يدرك الشبان أن تكاليف رعاية الوالدين ستقع بشكل كبير على عاتقهم.
طبعاً هذه التطورات لا تجعل الحياة في الصين لا تحتمل، كما كان الحال في عصر دولة تشينغ الفاشل. ولكنها تجعلها غير مرضية. قد تكون الصين قادرة على الاستمرار في خلق نمو اقتصادي متين. ومع ذلك، “متينة ولكن غير مدهشة”، ليست مثيرة. “ضعيفة وهشة“، ومع تصور دائم بأنها قد تصبح أسوأ.
يُشير الكثيرون من المراقبين الغربيين إلى اليابان كتحذير للصين حول ما يحدث عندما تنهار الفقاعة العقارية وتدخل البلاد في فترة شيخوخة. ومع ذلك، تظل اليابان اقتصادًا و عالميًا قوية، وذات دور إقليمي مهم، وتبقى واحدة من أفضل الأماكن في العالم للعيش. قد تكون الصين قادرة جيدًا على اتباع مسار اليابان من خلال ضبط اقتصادها المحلي لإنشاء وظائف جديدة في قطاع الخدمات والتركيز على الرعاية للمسنين، ولكنها قد لا توفر السردية البطولية التي تعتبر أساساً للقوى الصاعدة.
الطب التقليدي
في هذا السياق، يصبح من المنطقي أكثر أن يبدأ شي في محاولة تقديم فكرة محدثة تجمع بين رؤية ماركسية للمجتمع ورؤية كونفوشيوسية. حيث تعزز الماركسية وحدها الانتقاد الذاتي، خاصةً عند تطبيقها على السياسة الحقيقية. لذلك يرغب شي في تجنب ذلك في لحظة سياسية هشة.
لذلك يبدو خيار مزيجًا مجددًا مجردًا جيدً له للدفاع عن نفسه والحزب ضد الانتقاد، حيث تُعطى الأولوية للاستقرار واحترام السلطة.
تقترح دراسة وانغ بشكل ضمني أن الكونفوشيوسية والماركسية قد لا تكونان تنافريتان بشكل أساسي. وتحليله له أهمية كبيرة للصين اليوم، حتى لو لم يتناول الصين المعاصرة مباشرة. ويظهر عمله أن الجهد المبذول لاستخدام الفلسفة الصينية التقليدية لمواجهة التحديات الناشئة له تسلسل زمني.
حديثاً، تحدثت مع طالبة مسجلة في إحدى المدارس البارزة للماركسية اللينينية في الصين. سألتها “ماذا تعني لك الماركسية؟”. شرحت لي أن دراسة الماركسية تقدم لها طريقة للتفكير في تطورها الشخصي. الماركسية، قالت، أعطتها سلامًا داخليًا عميقًا. كان ذلك مثيراً للفضول، أخبرتها. ما وصفته يبدو أكثر قرباً للكونفوشيوسية بالنسبة لي من الماركسية. ربما كان ذلك بسبب تشربها بعضاً من الثقافة التقليدية المحدثة. أو ربما كان بديهياً لها أن عناصر من الفلسفتين قد يتوافقان – وكان من المريح بالنسبة لها أن تشعر أن ثقافتها الخاصة لديها بعض الإجابات على الشعور الفادح والشعور بالتفكك في جيلها.
إذا كان بالإمكان بذل جهد صادق لدمج الماركسية والكونفوشيانية يمكن أن يساعد ذلك في معالجة هذا العدم عن طريق السماح للصين بالاحتفاظ بفكرتين في آن واحد.
من المتوقع أن تواجه الماركسية مستقبلاً مواجهات مضطربة مع تحديات العصر، كمسألة عملية الانتقال إلى الطاقة النظيفة، وهيمنة الولايات المتحدة، أو النظام الدولي الليبرالي على سبيل الامثلة، مما يتيح فرصة لترويج الصين لفكرة أو لتوجه عالمي نحو الكونفوشيانية، وبأن ذلك قد يمهد لفكرة أن الصين ستحتاج إلى المزيد من الهدوء والتنبؤ والاستقرار في المستقبل – وأن المواجهات العسكرية المباشرة مع بين الصين والغرب من المحتمل أن تقلل من مصالح الصين نفسها.
يحتفظ الفكر السياسي الصيني بحيوية وتنوع، حيث أنه عمل قائم على التطور. في عام 2019، نشر الفيلسوف باي تونغدونغ، من جامعة فودان في شنغهاي، كتابًا بعنوان “ضد المساواة السياسية”. على الرغم من العنوان كان مثيراً للجدل، فإن العمل يعتبر دفاعًا قويًا عن الليبرالية، مؤكدًا أن بعض أشكال الحكم غير الديمقراطي، مثل تلك المستندة إلى قيم كونفوشيوسية، يمكن أن تحافظ بشكل أفضل على القيم الليبرالية مقارنة بما يمكن أن تفعله الديمقراطية.
يعتمد باحث العلاقات الدولية يان شوتونج على سبيل المثال، في كتابه لعام 2011 بعنوان “الفكر الصيني القديم، القوة الصينية الحديثة“، تصارع الفكر الصيني الذي يُعتبر واقعيًا مقارنةً مع الأفكار الكلاسيكية، مع الرجوع إلى الفكر الصيني قبل الحداثي لتفسير النظام العالمي المعاصر. نظرًا لوجود سابقة صينية تجمع بين الكونفوشيانية والماركسية التي يحاول شي تنفيذها، و من المثير للاهتمام أن يعتمد إلى حد كبير على مصادر قديمة جدًا.
كان من الممكن بسهولة إنتاج سلسلة تلفزيونية تتوافق فيها الكونفوشيانية مع الحداثة بشكل أكبر وأغنى: ويمكن أن يكون كانغ، مفكر ”النص الجديد“ مناقشة دور كونفوشيوس كمصلح. كان بالإمكان للمفكر الجريء في القرن العشرين ليانغ شومينغ أن يجادل مع ماو حول ما يتكون بالضبط من “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. وقد أجرى هؤلاء المفكرين بالفعل اثنين من الحوارات النشطة حول ذلك، في عام 1946. ولكن الاعتراف بفكر ”النص الجديد“ على وجه الخصوص قد يكون خطيرًا.
جهد شي لتوحيد كونفوشيوس وماركس ليس لاغٍ، كتمرين. ويستحق الصيني الأصلي لوانغ الذي نُشر في عام 2004، التأمل والنظر فيه. حيث كانت البيئة الفكرية في الصين مختلفة تمامًا في ذلك الوقت، وكان الأكاديميون أكثر حرية في مناقشة البدائل السياسية المختلفة، وكانت وسائل الإعلام قادرة على المخاطرة بإبداء تعليقات سياسي أكثر حدة.
لا تزال الهوية الصينية متعددة، وليست متجانسة، وكان الفكر الصيني دائمًا يسهم بشكل أفضل في ازدهار الصين عندما كان حرًا وجادًا، وليس مغلقًا. و يبقى هذا هو جانب الصيني ”التقليدي“ الذي لا يمكن لحزب الشياو جين بينغ تجاهله.
