العدد السابع والثمانون من جريدة المسار – نيسان ٢٠٢٤

  • الافتتاحية: هل الضعف في السياسة هو حالة دائمة؟
  • حراك السويداء في سبعة أشهر ونيف
  • عندما يتعرض سوريون بيض أيضاً للتعذيب والسجن والقتل – مازن كم الماز
  • كيف يمكن الوصول إلى الحلّ السياسي في سوريا؟
  • التحدي الاستراتيجي في السياسة الأمريكية
  • فكر شي جين بينغ الحقيقي – الفلاسفة السياسيين الصينيين في صراع طويل مع الحداثة – رانا ميتر.

باستثناء الافتتاحية والبيانات الموقعة باسم الحزب فإن المقالات والنصوص الواردة في العدد لا تعبر بالضرورة عن رأي الحزب.


الافتتاحية:

هل الضعف في السياسة هو حالة دائمة؟

هناك ثلاثة أشخاص قادوا أهم الثورات في القرن العشرين: لينين وماوتسي تونغ والخميني. لم يكونوا كذلك فقط، بل كانوا أعظم من قاد ثورات في التاريخ بالتوازي مع كرومويل وروبسبيير، وذلك بعدما استهان بهم الخصوم. في تاريخ أجهزة الاستخبارات، هناك دروس «حول الخيط الرفيع بين الضعف والقوة في السياسة». وهناك حادثة جرت مع ألن دالاس، الذي كان رئيس فرع الاستخبارات الأميركية في سويسرا، حين رفض في آذار1917بعد ثورة شباط الروسية نصيحة صديق بالتعرف إلى مهاجر روسي ،مقيم في غرفة صغيرة في مدينة زيورخ السويسرية عام 1917 ،ليقابله في مبنى البعثة الأميركية الديبلوماسية الأميركية في سويسرا من أجل الحصول على فيزا ليعود عبر الساحل الفرنسي إلى روسيا عبر ميناء أميركي ،بحجة أنه مرتبط بموعد لمباراة تنس ، قبل أن يفاجأ  بأن هذا الشخص قد عاد إلى روسيا،عبر قطار ألماني مغلق، في نيسان ثم «هزّ العالم» مع ثورة أكتوبر 1917.
بالتأكيد كانت «الاستهانة»، هي سر إبعاد صدام حسين للخميني من النجف إلى خارج الحدود العراقية في تشرين الأول 1978، إرضاءً لشاه إيران وكانت القراءة المعاكسة هي سر استضافة الرئيس الفرنسي، جيسكار ديستان، للخميني في باريس، بموافقة أميركية ،  حيث قاد الثورة الإيرانية من إحدى ضواحيها قبل تسلمه السلطة الإيرانية في 11 شباط 1979.
لم يستهن الخصوم فقط بماوتسي تونغ، وهذا سلوك شيانغ كاي شيك زعيم حزب (الكيومنتانغ: الحزب الوطني)، وإنما شمل هذا جوزيف ستالين، منذ أن عارض ماو أوامر الكرملين عام 1924 باندماج الشيوعيين عبر الانتساب الفردي في الكيومنتانغ. دفع الشيوعيون الصينيون ثمن سياسة ستالين عبر مذبحة شانغهاي في آذار – نيسان 1927 التي قادها شيانغ كاي شيك، وعندما وجههم ستالين نحو انتفاضة «كانتون» في كانون أول 1927 كان ماو معارضاً أيضاً لذلك لأنه كان يعتقد بأن هذا أيضاً سيقود نحو مجزرة ثانية من خلال مجابهة غير متكافئة مع «الكيومنتانغ». بعد سنتين من تولي ماو قيادة الحزب، وافق عام 1937على التحالف مع الكيومنتانغ من أجل صد الغزو الياباني، قبل أن يعود للمجابهة معه بعد الحرب ويصل إلى السلطة عام 1949 ويطرد الكيومنتانغ إلى جزيرة فورموزا حينها (تايوان).

ما يميز الثلاثة هو تفعيلهم لـ«العامل الذاتي» في السياسة وإدارته القصوى للعامل الموضوعي (=الواقع) عبر كون السياسة هي إدارة عبر الذات «للممكنات الواقعية»: عندما عاد لينين إلى روسيا في نيسان 1917 كان معارضاً لسياسة التعاون مع الحكومة المؤقتة. عندما قدم «موضوعات نيسان» في مؤتمر الحزب البلشفي لم يقف معه من المندوبين سوى ألكسندرا كولونتاي . واجهه البلاشفة بكتابه عام 1905 «خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديموقراطية»، وبأن على الشيوعيين عدم اجتياز ذلك نحو ثورة اشتراكية في بلد متخلف وغير مكتمل النمو الرأسمالي: أجابهم بأن ثورة شباط 1917 تجعل هناك إمكانية «لثورة ذات أفق اشتراكي في ظرف الحرب من خلال ممري «الأرض» و«السلم»، وبأن الحكومة المؤقتة أو التحالف معها «لا يتيح حتى العبور في طريق اكتمال الثورة الديموقراطية». خلال أيام، نجح لينين في كسب غالبية المؤتمر البلشفي نحو ثورة جديدة ونحو السلطة. كان يرى أبعد من الآخرين ويملك القدرة على تلمس رياح الشارع. كان أقرب إلى «نبي سياسي»، ومن دون شخصه ما كان للعامل الذاتي، ممثلاً في الحزب البلشفي و«السوفياتات»، أن يدير ممكنات العامل الموضوعي في اتجاه ثورة أكتوبر. في المقابل، كان ماوتسي تونغ في وضع أصعب من لينين: ليس زعيماً للحزب، وليس على وفاق مع الكرملين الذي يضغط على الشيوعيين الصينيين من أجل سياسات تلائم استراتيجية ستالين في التحالف مع الكيومنتانغ في ظل عزلة موسكو الأوروبية في العشرينيات. أصبح عام 1935 زعيماً لحزب مثخن الجراح. أمام العدو الياباني قام بتغليب التناقض الرئيسي على الثانوي، ولكن بعد انتهاء الحرب وهزيمة اليابانيين عام 1945 لم يعد مستعداً لتقديم أذن صاغية لستالين الذي عقد مع شيانغ كاي شيك معاهدة تحالف في 14 آب 1945، أي قبل 19 يوماً من استسلام اليابانيين. لم تكن الثورة الصينية منذ كانون الأول 1947 وحتى انتصارها في الأول من تشرين الأول 1949 برضا الكرملين بل رغماً عنه. كانت ظروف الخميني أصعب من لينين وماوتسي تونغ: قبل أشهر من احتفال شاه إيران الفخم عام 1971 بالذكرى 2500 لتأسيس الإمبراطورية الفارسية كان هناك شخص يجلس في زاوية صغيرة من مسجد النجف يملي على تلاميذه القلائل كتابه: «الحكومة الإسلامية» الذي عرض فيه نظريته حول «ولاية الفقيه» التي تعارض كل التراث الشيعي البادئ مع إعلان ابن بابويه القمي (غيبة الإمام الثاني عشر صاحب الزمان) في عام 940 ميلادية. كان معزولاً ليس فقط في النجف بل وفي قم أيضاً، وبالذات في طهران التي كان حاكمها يستضيف في احتفاله ذاك الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغين، وكان كيسنجر بعد الانسحاب البريطاني من الخليج قد أسماه «شرطي الخليج». عندما فاجأته الاحتجاجات ضد الشاه في بداية 1978، كما فاجأت ثورة شباط 1917 لينين، حزم عدته واستطاع تجيير الشارع المتدين ضد الشاه «العلماني» حليف واشنطن وتل أبيب، ولكن مع إدراكه بأن هذا ليس كافياً لإسقاط الشاه فقد تحالف الخميني  مع شيوعيي حزب توده ومع مجاهدي خلق ومع فدائيي خلق ومع الليبراليين ومع الأقليات القومية الكردية والعربية، ومن باريس استطاع قيادة ملايين الناس في الشارع الإيراني. اجتمع الجميع وراء عباءته وعمامته، وأعطى الجميع ما يرضيهم، ولكن عندما تسلم السلطة فتك بالجميع وقد  اكتشف هؤلاء الجميع بأنه لن ينفذ سوى كتابه ذاك الذي أملاه في النجف والذي على الأرجح لم يكن أحد منهم قد قرأه قبل يوم 11 شباط 1979.
هناك حالات معاكسة في ما يخص «العامل الذاتي»: زعيم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر»، عباسي مدني، بين عامي 1990 و1991 عندما فشل في استثمار قوة مليونية كانت بين يديه من أجل تحقيق أهدافه: لم يفشل في الوصول إلى السلطة فقط بل لم يستطع منع الحركة الإسلامية الجزائرية من أن تكون قوة منفرة للآخرين من يساريين وليبراليين وبربر وعلمانيين ومن وقوع هؤلاء جميعاً في أحضان العسكر الجزائريين، وعملياً بعد سجنه في حزيران 1991 استطاع تنظيمه الفوز في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في الأسبوع الأخير من العام. ولكن عندما قام العسكر بانقلاب 11 كانون الثاني 1992 لمنع الجولة الثانية من الانتخابات وجد الإسلاميون أنفسهم في حالة عزلة حيث لم يقف أحد معهم وانقسموا بين «جبهة الإنقاذ» و«الجماعة الإسلامية»، فيما وجد العسكر غطاءً كبيراً من القوى السياسية الخائفة من الإسلامية أو المتنافرة والمختلفة معها ووجدوا غطاء اجتماعياً كبيراً استطاعوا استثماره في الحرب العسكرية ــ الأمنية ضد الإسلاميين بعد انزلاق الأخيرين نحو حمل السلاح إثر 11 كانون الثاني 1992.
كان عباسي مدني ليس مديراً فاشلاً في «إدارة الممكنات» بل أيضاً مبدداً للقوة التي بين يديه. 

بعد عقدين من الزمن أتت المعارضة السورية لكي تنافس عباسي مدني في الفشل. كان في سوريا ما بعد 18 آذار 2011 حراك اجتماعي معارض كبير، ومن الواضح بأن هناك انفجاراً داخلياً في بنية أقيمت منذ يوم 8 آذار 1963. كان هناك قوة شارعية متحركة، وكان هناك تأييد عند الكثير من الآخرين، في القلوب والألسنة، لمن نزلوا يطلبون «التغيير» بأيديهم وألسنتهم. لم تستطع القوى السياسية قيادة الشارع المتحرك وأيضاً لم يستطع غيرها قيادته من «الشباب» أو«التنسيقيات». كذلك لم تستطع تلك القوى السياسية الاتفاق مجتمعة على برنامج مشترك يُبنى على واقع أزمة ما بعد 18 آذار 2011: التغيير، أم إسقاط النظام، أم إصلاح، أم تسوية مع النظام على برنامج انتقالي تغييري. عندما فشل الحراك السلمي في تحقيق الأهداف، بدأوا منذ أيلول 2011 بالانتقال نحو العنف المعارض المنظم والاستعانة بالخارج على طراز عراق 2003 وليبيا 2011. تجسد هذا أساساً في «المجلس الوطني السوري» (2 تشرين الأول 2011) و«الائتلاف الوطني السوري» (11 تشرين الثاني 2012). لم يكن هناك تعامل مع السياسة بوصفها إدارة ممكنات لواقع موضوعي من قبل عامل ذاتي بل سياسات رغبوية إرادوية وشعبوية، عند منفيين يعيشون كقيادات خارج الحدود ارتبطوا بأجندات مع قوى دولية وإقليمية التي استطاعت استخدام المعارضة السورية، وبخاصة شقها المسلح، من أجل الضغط عبر الحريق السوري لتحقيق هدفين: إبعاد روسيا عن الصين من خلال ارتماء الكرملين بأحضان البيت الأبيض عبر المكافأة السورية، والضغط على إيران من أجل التخلي عن برنامجها النووي. تحقق الهدف الأميركي الثاني في فيينا 14 تموز 2015، وتحقق مع الروس مع دخولهم العسكري إلى سوريا بيوم 30 أيلول 2015، ولوعادت روسيا واقتربت مع الصين بعد مجابهتها الأوكرانية مع الأميركان منذ عام2022، وكانت واشنطن مدركة منذ البداية بأن الوجود الروسي العسكري في سوريا عامل تفريقي بين موسكو وطهران.
كان الحراك السوري المعارض فرصة لتحقيق تسوية بين السلطة والمعارضة من أجل «تغيير انتقالي» ما دام هناك، وما زال، ثلاثة أثلاث متساوية الحجم منذ 18 آذار 2011 في المجتمع السوري: موالاة ومعارضة وتردد. كانت مبادرة الجامعة العربية عام 2011 فرصة لذلك، ثم كان هناك «جنيف 2» و«جنيف 3» بغطاء أميركي ــ روسي. ثم تبددت كل تلك الممكنات من قبل «المجلس» و«الائتلاف» و«الهيئة العليا للمفاوضات» مع إدارة بالغة السوء للممكنات هي أقرب ليس إلى التبديد بل إلى اللاإدارة.
في مباريات كأس العالم لكرة القدم، عندما تخسر الفرق وتخرج بخفّي حنين، لا يقوم فقط مدرب الفريق بالاستقالة اعترافاً بفشله وإنما يتم أيضاً تغيير طاقم اللاعبين. 

منذ عام2017تتقاطر كتابات ووثائق من معارضين سوريين فيها هجوم على سياسات، مثل نزعة الاستعانة بالخارج ونزعة العنف المعارض والأسلمة، ومحاولة إلقاء المسؤولية على مجهول. هذا مع علم الجميع بأن كتابات موقعين على تلك الوثيقة وأقوالهم وأفعالهم تشي بأنهم كانوا من مدشني «نزعة الاستعانة بالخارج» منذ عام 2003 وبأنهم سكتوا عن «نزعة العنف المعارض» وعن «الأسلمة»، أو بالأحرى انساقوا في بحرهما. ذلك من دون ذكر المؤسسة التي ينتمي إليها هؤلاء، أي «الائتلاف»، الذي كانت رمزاً لهذا الثالوث (غير المقدس). لا يمكن هنا سوى تذكر «نزعة الفهلوة» عند الكثير من السوريين التي أتت من التجار الشوام، إذ يظنون من خلالها بأنه عبر «اللسان الحلو» يمكن تمرير البضاعة الرديئة.

ولكن هل ضعف المعارضة السورية  هي حالة مستعصية على الحل ولاامكانية للخروج منها؟..هذا سؤال كبير برسم المعارضين السوريين.



حراك السويداء في سبعة أشهر ونيف

جاء حراك حراك السويداء ردا على السياسات التهميشية المتبعة عموما ، وكسب تأييد مشايخ العقل الثلاث ، قبل ان يتراجع شيخ العقل يوسف جربوع عن موقفه .
فعليا في حال عدم دعم مشايخ العقل للحراك لكان مصير الحراك كحال الحراكات السابقة ، ولتعرض لقمع امني ، ولم يكتسب ارضية شعبية .
كان شعار الشعب يريد اسقاط الميكرفون تعبيرا عن حجم الخلاف بين المشاركين والمنظمين ، وتدشينا لخلاف واسع حول البديل المطلوب ، فبعض المشاركين رافض للفيدرالية والادارة الذاتية ، والبعض الاخر حاملا لهذا المشروع برضا دولي ضمني ،وقد شبك الاخير علاقات مع الادارة الذاتية والعقد الاجتماعي في شرقي الفرات ، بتأييد امريكي ضمني ،كمحاولة لاستغلال حالة العجز والتهميش اللاحق بمحافظة السويداء لفرض مشاريع ليست في اوانها . ويوجد بعض المشاركين الذين يريدون وضع القرار 2254 في سلم اولويات العمل السياسي ، وتجنب الخلافات التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، التي ليست اساسية في هذه المرحلة الراهنة . وهذا يشمل عروبيين وليبراليين ويساريين .
ويأتي تاسيس نقابات جديدة ومنظمات مهنية ردا على تبعية النقابات الرسمية لحزب البعث والاجهزة الامنية ، ومحاولة لاثارة استقلالية العمل النقابي والمهني تنظيميا وسياسيا .
فد سكر العديد من المتظاهريين مقرات حزب البعث في محافظة السويداء تعبيرا عن حالة الاستياء العام من سياسات حزب البعث وامساكه بسدة السلطة ، واستمراره في التغول بمؤسسات الدولة ، وممارسته الفساد السياسي والافساد في مجمل هيكلية الدولة .

من ناحية اخرى : حاول بعض المتظاهرين تسكير مبنى حزب البعث في مدينة السويداء ، وقد قوبلوا بالرصاص الحي ، مما اوقع اصابات بين المتظاهرين ، واثار التوتر في الموقف ، مما حدا في اجتماع وفد من المتظاهرين مع الشيخ حكمت الهجري باعلان الجهاد ضد المشروع الايراني ، بعد ان حصل على معلومات تفيد بتورط ايران في اطلاق النار .
واثر محاولة المتظاهرين اقتحام صالة نيسان في السويداء المخصصة للتسوية باشراف الاجهزة الامنية ، وقع جواد الباروكي ضحية العنف السلطوي واصيب آخر ، وقد شارك في تشييع الضحية المئات من ابناء السويداء ، وقد صرح شيخ العقل الاول حكمت الهجري بضرورة محاسبة الفاعل بما فعل ،والتزام السلمية في الحراك دون اي عنف او مظاهر عنفية ، وفيما بعد قدم محامون دعوة قضائية لمحاسبة مرتكبي جريمة قتل جواد الباروكي.

ولا بد من التنويه ان الميليشيات المسلحة التي صنعت انتفاضة 2022 ، بعضها قد شبك علاقاته مع الاجهزة الامنية،والبعض منها قد انضم للحراك، والبعض الاخر قد اتخذ موقف الحياد.

تواصل مسؤولين في الادارة الامريكية بالشيخ الهجري، ومسؤولين من دول أخرى، كدعم لموقف الشيخ الهجري والمتظاهرين، مما شكك عدد من الاصطفافات بمدى استقلالية قرار الحراك والمشروع الذي يحمله.

يتبع النظام سياستين : سياسة اللامبادرة المبنية على عدم تقديم اي تنازلات او مكتسبات للحراك ،  وعزل حراك السويداء عن المدن السورية ، بمحاولة حصره على محافظة السويداء ، واضافة لذلك تحذير اهالي السويداء من شماعة داعش . والسياسة الثانية وهو اسلوب الزعزعة الامنية من خلال اثارة صراع مسلح في السويداء كمحاولة لجعل مطلب اعادة اجهزة الدولة الامنية في المحافظة مطلبا شعبيا.

يعتقد قطاع واسع من المسيسين اهمية الانخراط في المشروع الوطني لاخراج كافة الاحتلالات والقوى غير النظامية ايا كان الطرف الداعي لها ، وفي سلم الاولويات القرار 2254 ، الذي يهيء البلاد لانتقال سياسي يبلور من خلاله نظاما سياسيا جديدا يكون محل توافق وطني.

الحراك بعد ان كان اعداد المشاركين به بالآلاف اصبح الآن بالمئات القليلة نتيجة الافق المسدود الناجم عن حسابات خاطئة للمنظمين كالرهان على انتفاضة جديدة في المحافظات السورية تحت سيطرة السلطة ، ونتيجة التوازانات المحلية والعالمية بما يخص ارتباطات الملف السوري والملف السوري ذاته.

هناك حاجة ماسة لاعادة النظر بالحسابات القديمة ، وبلورة مشروع وطني على اساس رؤية القرار 2254 ،  لتشكيل وصياغة نظاما سياسيا جديدا يخدم المصالح والاجندة الوطنية ، وذلك بالعمل على تحالف سوري عريض يضع تكتيكات مناسبة ، بعقل منفتح وديمقراطي يقرب بين الزوايا ، ويدرك اهمية الخروج من الازمة الوطنية باقل الخسائر.

الفئات التي شاركت وتشارك في الحراك جلها من الطلبة والعاملين بأجر والمدرسين والفئات الوسطى المدينية كمدينة السويداء وشهبا ، والفئات الوسطى في الارياف باعداد محدودة جدا مع مشاركة للفلاحين بشكل قوي جزئيا، مع دعم قطاعات من التجار للحراك سواءا ماليا ام ابعادا اخرى ، ويعود ذلك لتقارب الظروف المعيشية بين تلك الفئات الناجمة من دائرة استمرار مفاعيل الازمة الوطنية الكبرى.

الشعوب كحال العلم من غير تجارب حقيقية لا يمكن ان تحقق اهدافها وتصوغ نضالاتها ، ولا يوجد في التاريخ الحديث ثورة قد انجزت كامل خطواتها او ثورة مكتملة ، بل من خلال النضالات الواسعة يتطور الرصيد والرؤى والبرامج السياسية والوعي الجمعي.


عندما يتعرض سوريون بيض أيضاً للتعذيب والسجن والقتل

مازن كم الماز


من يتظاهر في ادلب اليوم ضد الجولاني ليسوا سوريين عاديين ، إنهم “سوريون بيض” إذا استعرنا مصطلح ياسين الحاج صالح ، إنهم ثوار ، مقاتلون أو مسلحون سابقون و حاليون ، عرب و سنة ، هؤلاء الذين مارسوا و يمارسون منذ ثلاثة عشر عامًا الدعس و التشبيح و عند الإمكان القتل المباشر ضد خصومهم أولا ثم ضد كل من ينتقدهم أو يختلف معهم أو يجرؤ على الاعتراض أو على عدم الخضوع و الرضوخ لما يقولون و يريدون ، ثلاثة عشر عامًا و هم يقتلون و يسحلون و يهددون و يرعدون و يزبدون و هم بعيدون عن أية محاسبة أو عقاب و هذا ما منحهم شعورًا لا يخامر إلا الآلهة و الديكتاتوريين ، و هم في نفس الوقت متعجبون لماذا لا يهرع الناس أفواجًا لينعموا بديمقراطيتهم و بحريتهم مفضلين احتلالات غاشمة أخرى و قطاع طرق آخرين ، كان هؤلاء على حق ، إذا طبقنا وجهة نظرهم وأخذنا قولهم حرفياً ، عندما قالوا ان “سوريا لهم” و “ليست لبيت الأسد” ، لكننا لم نفهم جيدًا ما كانوا يقصدونه بهذه الكلمات ، إنهم يشبهون  البلاشفة الذين فعلوا كل الموبقات في الحرب الأهلية و هزموا خصومهم بالحديد و النار و أخضعوا الجماهير بالقمع المنفلت معتقدين أنهم اليوم كسادة للبلاد خارج معادلة الحساب و خارج دائرة القمع التي ألهبوا به ظهور خصومهم أولا ثم كل إنسان خارج الفرقة الحاكمة الظافرة ، إن شعور هؤلاء السوريين البيض بالدهشة من ممارسات الجولاني ضدهم لا تختلف بالقطع عن صدمة غينريخ ياغودا(مسؤول المخابرات السوفياتية بالعشرينيات والثلاثينيات ) ذراع ستالين القمعي لسنوات عندما جاء دوره هو على المقصلة و لا أعتقد أن شعور أبو ماريا القحطاني يختلف عن شعور بيريا و هو يجد نفسه فجأة الضحية القادمة على المقصلة(بعد وفاة ستالين عام1953) التي كان هو جلادها.
حتى عندما حوسب مجدي نعمة (اسلام علوش)، وهو كان ناطقاً باسم فصيل “جيش الاسلام”في دوما ثم اعتقل قبل سنوات في فرنسة، على جرائم فصيله لم يحاسب على استرقاق علويات كسبايا و لا على سحل مدنيين في عدرا و لا على القصف العشوائي لمدنيين عزل هم في في غالبيتهم سنة لكنهم يعيشون في المناطق الخاضعة لسلطة النظام ، بل على اختطاف و تغييب سورية بيضاء كرزان زيتونة ، و السوريون الملونون في ادلب غير مرئيين لدرجة أنه من الممكن لناشطين و مفكرين حقوقيين سوريين أن يعبروا عن تعاطفهم مع راشد الغنوشي في سجون ديكتاتور تونس غريب الأطوار دون أن ينتبهوا إلى أوضاع “إخوتهم في الوطن” الذين يعانون القمع و التهميش و السلب و النهب في عقر دارهم في عفرين.


كيف يمكن الوصول إلى الحلّ السياسي في سوريا؟

ممّا لاشكّ فيه أنّ الحرب الأهليّة في أيّة دولةٍ في العالم هي الحرب الأكثر عنفاً ووحشيّةً بين كلّ الحروب في تاريخ البشر لأنّها تكرارٌ لحرب قابيل على هابيل التي كانت نتيجتها أن يقتل قابيل الأخ أخاه  هابيل بغضّ النّظر عن أسبابها.

كانت هناك في العصر الحديث حرب أمريكا الأهليّة بين الشّمال والجنوب وفي إسبانيا بين جماعة فرانكو واليساريّين وفي فرنسا بين الكاثوليك والبروتستانت وغيرها من مشاريع حروبٍ أهليّةٍ كما حدث في فيتنام ومن قبلها في كوريا وفي الصّين ويوغوسلافيا  الخ ……

مايلفت النّظر في هذه الحروب المذكورة أنّ البعض منها انتهى إلى تقسيم الوطن كحالة كوريا ويوغوسلافيا والصّين ومازالت تشكل عنصر توتّرٍ دائمٍ في العالم بين الأجزاء المنفصلة كالحالة الكوريّة والصّينيّة.

لكن في البقية الأخرى ممّا ذكرت  كان إنتصار طرفٍ على آخر  مانعاً لاانقسام كما في أمريكا وإسبانيا لكن ماذا عن سوريا …؟

قدر سوريا هو في جغرافيّتها فقدكانت سوريا معبراً لكل غزاة المنطقة منذ فجر التاريخ  وخط الدّفاع الأوّل عنها في وجه الغزاة إياهم ولم تنجو من الإحتلال يوماً فقد كانت على الدّوام جزءاً من إمبراطوريّة المنتصر، ولم تتشكل دولة فيها سوى في أزمان السلوقيين والأمويين والأيوبيين.

 بعد جلاء الفرنسيين عام1946توهّم السّوريّون أنهم نالوا إستقلالهم. نعم توهّموا لأنّه منذ رحيل فرنسا بجيوشها عن أرض سوريّا وهي تعاني صراعاً خفيّاً ( مخابراتيّاً ) للسيطرة علي قرارها الوطني بدءاً من أوّل إنقلابٍ قاده حسني الزّعيم الأمريكي الهوى والدعم :”زعيم الانقلاب الأول في سورية على الحياة السياسية الديموقراطية الوليدة ان ذاك العقيد ” حسني الزعيم ” تكشف الوثائق الامريكية السرية المفرج عنها عام ١٩٩٩، كيف بحثت الاستخبارات الامريكية عام ١٩٤٩ أي بعد حرب الإنقاذ عن شخصية عسكرية سورية لاحداث أول انقلاب في سورية لمصلحة إسرائيل ولهدف توقيع اتفاق الهدنة بعد الحرب، غابت سورية وحدها حينها عن مؤتمر ” رودس” الذي وقع فيه العرب جميعا اتفاقية وقف النار بعد الهزيمة أمام العصابات الصهيونية في فلسطين، كما رفضت سحب الجيش السوري من مناطق شمال فلسطين. ووفق رسالة موجهة من البيت الأبيض للاستخبارات الامريكية مفادها “ان لم تكونوا قادرين على تغيير الرقعة، فعليكم تغيير اللاعبين” ومن المهم الإشارة هنا ان مضمون هذه الرسالة اصبح مبدأ عند الاستخبارات الامريكية حتى يومنا هذا.

وقع الاختيار على “حسني زعيم” حسب الوثائق الامريكية الذي قبل ان يكون اللاعب الجديد لتلبية المطالب خلافا لارادة شعبه، ودعمت الاستخبارات الامريكية والحركة الصهيونية انقلاب الزعيم على الرئيس والحكومة المنتخبة في سورية في اذار عام 1949.”،

(من مقال لكمال خلف في صحيفة رأي اليوم الإلكترونيّة )

وتتالت الإنقلابات بين أمريكيٍّ وبريطانيّ حتى استقرّ الأمر في توافقٍ غربيٍّ مع الإتّحاد السّوفياتي يومها في العام 1970 على النظام الذي أتى في يوم 16تشرين الثاني من ذلك العام، والذي أرضى الجميع في واشنطن وموسكو من خلال موافقته على مشروع الحل السلمي للصراع العربي-الاسرائيلي من خلال القرار الدولي242،والذي كان يرفضه نظام23شباط1966،وهو النظام الذي دخل في عملية تجاوز للخطوط الحمر الدولية المرسومة مثل تدخله العسكري في أحداث شهر أيلول1970أثناء اشتباكات المقاومة الفلسطينية مع قوات السلطة الأردنية.

مع بداية الربيع العربي شعرت موسكو  بأن الوصول إلى سوريا وتغيير نظامها (كما ترغب واشنطن التي أعطت الضّوء للبدء في عمليّة هز استقرار النّظام في سوريا ) من خلال مجيء الاسلاميين للسلطة في دمشق سيؤثر على مسلمي روسيا ومسلمي الدول المسلمة الخمس المجاورة لروسيا والتي كانت سابقاً ضمن الاتحاد السوفياتي ،إضافة لماكان مطروحاً منذ عام2009من مشروع لأنبوب غاز قطري يمر عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا كبديل للغاز الروسي إلى أوروبا، فكان الفيتو الروسي في مجلس الأمن وانتهى الأمر إلى دخول روسيا عسكريّاً في الحرب لصالح النّظام .

السؤال الآن:كيف يمكن ايجاد حل للأزمة السورية في ظل استعصاء الجو الدولي بين محور واشنطن ومحور موسكو-بكين-طهران،وفي ظل اضطراب منطقة الشرق الأوسط،وفي فترة أصبحت فيها سوريا”ملعباً للآخرين”وفق تعبير غسان تويني عن لبنان في فترة الحرب اللبنانية بين عامي1975و1990؟


التحدي الاستراتيجي في السياسة الأمريكية

كان لدى الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن التاسع عشر وصولا للحرب العالمية الأولى استراتيجية قومية تقوم على التركيز على المسار الداخلي واعطاء أولوية أكبر بكثير من الاهتمام بالشؤون الخارجية ، فهي  وبعد أن انتهت من حربها الأهلية بين أعوام ١٨٦١و١٨٦٥ والتي كانت أكثر دموية في تاريخها ، ركزت في استراتيجيتها  على  تثبيت النظام الداخلي والسلطة  واقامة الحكومة الوطنية الاتحادية وزيادة الاهتمام   بالنشاط الاقتصادي والعلمي والثقافي وعلى تطور القدرة الصناعية وبناء القوة العسكرية وهذا أدى الى تطوير البنية التحتية الوطنية  لتصبح مع حلول عشرينات القرن التاسع عشر المنتج الاكبر في العالم في الحديد والصلب وتفوقت على بريطانيا في هذا المجال كما أصبحت عالميا الدولة الأهم في نشاطها التجاري الخارجي حيث  بعد أن تطور اقتصادها فأصبحت تشكل التحدي الأكبر للقوة الأوربية – الاسبانية بارتفاع ناتجها  المحلي الوطني  بالقياس مع العديد من الدول الاوربية الاستعمارية .

 بعد أن خاضت أمريكا أول حروبها الخارجية عام ١٨٩٨ مع الإسبان وانتصارها عليهم  وتحرير كوبا من الإسبان   ،  أصبحت قوة صاعدة فبدأت تتطلع إلى ما هو أبعد من شواطئها لتصبح دولة استعمارية باحتلالها الفلبين واخراج الاسبان منها  عام  / ١٩٠٢  /  وهي بذلك برهنت  بانتصارها على الاسبان في كوبا والفلبين أنها أصبحت قوة عالمية و شكلت التحدي الأكبر للقوة الأوربية – الأسبانية  إلا أن استراتيجيتها  في الانكفاء على الذات بقيت مستمرة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ولم تتدخل فيها وبقيت سياسة الانعزال هذه حتى قيام الحرب العالمية الثانية . 

  مع ازدياد الأخطار الجيوسياسية الألمانية على الدول الأوربية وعلى مستعمراتها في أسيا وأفريقيا بدأت أمريكا بالتحرر من استراتيجية لانكفاء  بسياسة  توريد العتاد والسلاح العسكري للبريطانيين والفرنسيين والى العديد من الدول الأخرى المنخرطة بالحرب . 

كان للهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية في ٧ /ديسمبر/ كانون اول عام ١٩٤١ أثر مباشر في تغير استراتيجية عدم التدخل بالدول الخارجية ، فقد شكل هذا الهجوم  صدمة للرئيس الأمريكي روزفلت بسبب الخسائر التي لحقت بالقوات البحرية الأمريكية ، حيث خسرت أمريكا ٢١ سفينة بحرية  بين تحطم وغرق ودمرت ١٨٨ طائرة حربية وقتل أكثر من ٢٤٠٠ جندي ومواطن أمريكي ، أجبر هذا الهجوم الرئيس الأمريكي في ٨ ديسمبر على إعلان الحرب العالمية  على اليابان ودخولها إلى جانب الحلفاء فغير هذا الحدث مجرى التاريخ في أمريكا وفي العالم وساهم بشكل كبير في انتصار الحلفاء على دول المحور الألماني والياباني والايطالي وجعل من الولايات المتحدة الأمريكية دولة عظمى عالميا ، كما كان من نتائج هذا الدخول حلول نظام دولي جديد ثنائي القطبية وانتقال معايير القوة العالمية بين الولايات المتحدة  الأمريكية والاتحاد السوفيتي من أدى إلى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ وهيمنة بين تلك القوتين الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي وغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. 

قامت استراتيجية  الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسية  خلال فترة الثنائية القطبية  على احتواء التمدد السوفيتي (المد الشيوعي) في العالم وسميت تلك الفترة من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ب( الحرب الباردة ) بين القطبين العالميين ، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الغرب وشكلوا حلف الناتو من جهة بمواجهة حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي ومنظومته الشرقية من جهة ثانية . 

مع انهيار جدار برلين هام ١٩٨٩ وتفكك الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ استنفذت استراتيجية الاحتواء للمد الشيوعي لدى الولايات المتحدة الأمريكية أغراضها ولم يعد هناك حاجة للعمل بها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظام الثنائية القطبية فانفردت أمريكا بالسيطرة على النظام السياسي العالمي ومنذ ذلك التاريخ وحتى أحداث أيلول ٢٠٠١  لم تتبلور لدى الساسة الأمريكان أي  استراتيجية قومية كبرى تتحكم في سياسات الإدارات  الأمريكية  اتجاه القضايا الكبرى  لقيادة العالم نحوها  إلى أن وقعت أحداث ١١ أيلول / سبتمبر فوجد صناع الاستراتيجيات الأمريكية في الحدث ضالتهم المنشودة لرسم استراتيجية الحرب الاستباقية على قضايا يعتبروها تهديدا للأمن القومي الأمريكي كما شكل ذلك الحدث لحظة حاسمة للبدء بها تحت شعار الحرب على ( الإرهاب الإسلامي)وأصبح هذا يشكل الاستراتيجية الأولى في السياسة الخارجية الأمريكية واستطاعت بموجبه أن تشن حربين إقليميتين الأولى في أفغانستان ضد طالبان وتنظيم القاعدة عام  ٢0٠١ باعتبارهما المسؤولان عن أحداث ١١ أيلول ،  والثانية ضد العراق عام ٢٠٠٣تحت ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل ، هذا واستطاعت أمريكا  أن تجيش في تلك الحربين جميع دول الغرب والعديد من دول العالم مع هذه الاستراتيجية الجديدة وأن تتعاطف معها مما سهل عليها قيادة العالم والتفرد في ادارة أزماتها ، كما رأى صناع الاستراتيجية الأمريكية ضرورة خوض تلك الحربين من أجل اظهار تسيد أمريكا على العالم ومن اجل الحفاظ على مكانتها في السيطرة العالمية ولقطف ثمار انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفيتي . 

تشير العديد من التقارير على ان الإنفاق الأمريكي في تلك الحربين كان كبيراً وأن كلفتها على باهضاً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي فقد بلغ الإنفاق في حربها على أفغانستان فقط ٧٧٨ مليار دولار حسب مذكرة وزارة الدفاع الأمريكية وبحسب بيانات رسمية وصل الإنفاق  إلى ٨٢٢ مليار دولار لغاية ٢٠١٩،  ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة بروان الأمريكية وصل  إلى٩٧٨ مليار دولار، كما قتل فيها ٢٣٠٠ بين جندي وضابط أمريكي ، كما حشدت في غزوها للعراق  حوالي ١٣٠ ألف جندي أمريكي و٧٠ ألف من المقاتلين الأكراد وأكثر من ٤ ألاف من المعارضين للحكومة العراقية آنذاك وتحملت كافة مصاريف وأعباء هذا الغزو الذي قوبل بمعارضة شديدة من قبل حلفاء أمريكا وخاصة فرنسا وألمانيا وكندا ونيوزيلندا حيث رفضت تلك الدول المشاركة في عملية الغزو بعد صدر تقرير لجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش الذي أشار على أنه لا يوجد أي دليل على وجود أسلحة دمار شامل في العراق  . 

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي استطاعت الولايات المتحدة أن تفرد قوتها العالمية وأن تبسط قوتها وسيطرتها على جميع البحار والمحيطات العالمية وعلى المناطق التي ترغب فيها من أسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأن تتمدد في أغلب  دول أوربا الشرقية التي كانت تحت فضاء الاتحاد السوفيتي ونشرت فيها قواعدها العسكرية  في أكثر من مئة دولة في العالم . 

في عام ١٩٩١  أعلن الرئيس بوش الأب انتهاء الحرب الباردة وعلى أمريكا أن تسع لبناء نظام عالمي جديد أحادي القطبية يقوم على التفسير الأحادي لجميع المتغيرات الدولية ، كما أعلن كولن باول وزير خارجية أمريكا  في مجلس الأمن عام ٢٠٠١ أن الهجوم في ١١ أيلول على واشنطن ونيويورك  هو فرصة  لتشكيل العلاقات الدولية على مستوى العالم وقال إن هذا الهجوم لم يكن هجوماً على أمريكا فقط وإنما هو هجوم على الحضارة وهو هجوم ارهابي ويشكل تهديدًاً للأمن والسلام الدولي ، كان هذا الحديث رسالة مباشرة لأعضاء مجلس الأمن الدولي بشكل خاص ولدول العالم  اجمع بشكل عام   كانت رسالة تقول فيها ان أمريكا أصبحت هي الرقم واحد دون منازع والقائدة للعالم . 

ركزت السياسة الخارجية لكل من  الرئيسين بوش الأب والابن بعد انتهاء الحرب الباردة على استمرار  الهيمنة الأمريكية وعلى إبراز القوة العسكرية دون مهادنة امام أي تحدي لها وكان ذلك واضحاً  واضحاً  من خلال  غزوها لكل من أفغانستان والعراق . 

تغيرات  كثيراً تلك السياسة الخارجية الأمريكية مع استلام أوباما سدة  الرئاسة في أمريكا  ، فقد قررت ادارته الابتعاد  قدر الامكان في السياسة الخارجية عن سياسات جورج بوش الذي ورط  أمريكا في حروب على ما سماها  ب (الحرب على الارهاب الإسلامي ) ومنها الغزو على كل من أفغانستان والعراق ، واعتبر أن أمريكا تضررت ضرراً  بالغاً  من تلك السياسة اقتصادياً وأخلاقياً وأصبحت السياسة الأمريكية غير مرغوب بها في دول عديدة من العالم وعند الرأي العام العالمي،  لذلك رأى أنه لابد من نهج جديد فوضع استراتيجية بديلة  للسياسة الخارجية تقوم على  كيفية مواجهة  الأزمات والتحديات الإقليمية التي لا تشكل خطراً على الهيمنة الأمريكية العالمية .. استراتيجية تكون أكثر اعتدالاً ولا تلحق ضرراً بأمريكا ،  فاتبع  السياسة الناعمة وعدم التدخل المباشر العسكري في الأزمات الإقليمية أو الدولية مكتفياً بالتلويح  باستخدام القوة اذا كانت الأزمة تشكل تهديدا للاستراتيجية الأمريكية كمل اعتمد مبدأ الإدارة من الخلف مع إعطاء دور للحلفاء الأوربيين أو الإقليميين في ادارة الأزمة .. هذه السياسة مثلت  العنوان البارز لسياسة أوباما وكان هذا  واضحاً من خلال بعض الأزمات الإقليمية   كالانفجار  الليبي بمواجهة الرئيس القذافي عندما سلم ادارة  الأزمة للحليف الفرنسي او في الانفجار السوري عندما سلم قيادة الأزمة لتركيا ولروسيا الاتحادية وأيضاً في إنهاء الأزمة مع ايران حول الملف النووي عندما أبرم اتفاقاً معها و تقييدها  بعدم تطوير برنامجها النووي نحو امتلاك السلاح النووي ، وكذلك عندما قرر سحب القوات والأمريكية من العراق والاتفاق مع الحكومة العراقية  على ابقاء بعض القواعد العسكرية فيها بقوات محدودة  مع بعض المستشارين العسكريين . هذا بالأضافة إلى تلك السياسة الخارجية فقد تمثلت الاستراتيجية الأهم والأكبر في كيفية مواجهة النمو الصيني المتزايد ، حيث أكد الرئيس الأمريكي أوباما ومستشاريه على حقيقة لا يمكن انكارها ان الصين أصبحت قوة اقتصادية عالمية جديدة تمثلت في صعودها على المسرح الاقتصادي العالمي  وأنها يمكن أن تصبح منافساً حقيقيا لأمريكا وأن هذا الصعود الاقتصادي قد يدفعها لتحسين قدراتها العسكرية في المستقبل مما يشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى دورها القيادي للعالم ، لذلك حددت ادارة اوباما اولوياتها في السياسة الخارجية على توجيه استراتيجيتها الجديدة نحو أسيا   والباسيفيك والمحيطين  الهادي والهندي والدول القريبة من المنطقة بقصد مواجهة النمو الاقتصادي  المتسارع للصين الشعبية  ونحو ضرورة وقف هذ النمو أو الحد منه حتى لا يشكل تحدياً في المستقبل للهيمنة الأمريكية ، فركزت ادارة اوباما لتنفيذ استراتيجيتها الجديدة لمواجه الصين الى حشد أكبر لقواتها وقوات حلف الناتو في منطقة آسيا والمحيطات القريبة من الصين ، كما اعتمدت أيضاً  على تطوير وتوسيع الأمن التعاوني والشراكة مع حلفاءها وتحديث تحالفاتها طويلة الأجل مع  استراليا وكندا واليابان وتدعيم  حضورها في تايوان وتزويدها بأسلحة حديثة ومتطورة بقصد مواجهة تحديات مستقبلية  مع الصين وقد تم ذلك على حساب حضورها القوي في منطقة الشرق الأوسط الذي  كان  قبل سياسة ادارة أوباما هو الأكثر أهمية في استراتيجيتها المستقبلية أما الآن فقد أصبحت منطقة أسيا والدول القريبة من الصين هي مناطق أكثر أهمية وحيوية في العالم وهي تشكل تمدد اقتصادي وجيوسياسي للصين أيضاً ، لذلك لجأت الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الحفاظ عل دورها في زعامة العالم ومن أجل تكييف  دورها القيادي بأن توم باستدارة سريعة لقوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية نحو الشرق الأقصى وأن تجعل من  هذا التوجه هو أساس  أستراتيجيتها في القرن الحادي والعشرين فأصبح هذا الواقع الجديد هو الذي يحدد رؤية  الإدارات الأمريكية السياسية لذلك اتجهت الى ترسيخ وتعظيم قوتها في تلك المناطق وبدأت  تطالب بضرورة أن تكون هذه المناطق حرة ومفتوحة أمام الشركات الأمريكية والمتعددة الجنسيات وعلى أن يتعزز النهج الحر وسيادة القانون والديموقراطية فيها . 

 ان ادارة اوباما ترى  في تلك المناطق خزان مستقبلي واعد  للتطور الاقتصادي والتجاري  والتكنولوجي لما تحتوي اراضيها من غاز وبترول ومعادن مهمة تدخل في الصناعات الالكترونية   اضافة الى كونها تشكل سوق اقتصادية كبيرة لوجود كتلة بشرية هائلة فيها ،  لذلك اتجهت ادارة أوباما من خلال استراتيجيتها الجديدة  إلي إعاقة استفادة الصين اقتصادياً من  تلك المناطق من جهة ، ومن جهة ثاتية الى منع حدوث أي تقارب أو  تطور استراتيجي عسكري -اقتصادي بين الصين والاتحاد الروسي حتى لا يهدد سيادتها للعالم . 

كما ترى أدارة  أوباما ومع انتهاء الحرب الباردة ان أمريكا  أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم وأنها تملك أكبر اقتصاد في العالم وفقاً لقيمة الناتج المحلي الإجمالي وأنها تملك قدرة هائلة للهيمنة عسكريا  في العالم ، كما أنها تتمتع ودون منازع  بإنتاج أفكار علمية وسياسية وذات جاذبية ومدعمة بالتنفيذ ، فهي أصبحت المركز الكوني في ادارة شؤونه ، لذلك عليها احتواء أو كبح أي تحدي أو منافسة  لها لأي قوة اقليمية صينية أو روسية أو أو أوربية  صاعدة وأنه يجب عليها  دائما فرض الهيمنة وإبراز القوة العسكرية ضد أي تحدي لها  .

مع نجاح ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية رفعت الادارة الأمريكية   شعار ( أمريكا اولاً )وتم التركيز على الوضع الداخلي اكثر من اي توجه أخر كما تمحورت  أكثر على الذات الأمريكية واعتبرت أن مصلحة أمريكا فوق أي اعتبار ، أما في السياسة الخارجية  فقد  عمدت منذ عام ٢٠١٧ على أعادة العظمة الأمريكية في العالم ، إلا أن الملاحظة الأهم أنها  لم تتجه  إلى التخطيط الاستراتيجي طويل الأجل وإنما كانت السياسة الخارجية عندها لصالح الفعل ورد الفعل في الأزمات الإقليمية ،  كما نهجت سياسة إنهاء مبدأ الدبلوماسية والمفاوضات  في معالجة الأزمات الإقليمية أو الدولية التي سادت في زمن الرئيس أوباما  حيث أعتبرها ترامب  لم تقدم نفعاً لأمريكا وخاصة مع ايران فأقدم على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الأمريكي في مايو/أيار ٢٠١٨ كما اعتبر أن ايران استفادت من  هذا الاتفاق وطورت قدراتها العسكرية وتمددت  أكثر في العراق وسوريا ولبنان  فمارست الادارة الأمريكية  سياسة الضغوطات  القصوى ضد ايران كما فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على سورية وعلى رموز من النظام السوري ومن يتعامل معه من أفراد ومؤسسات محلية أو أجنبية وهي تأتي في أطار قانون (سيزر) قيصر. 

  اما بالنسبة لموقف ادارة ترامب من الصين الشعبية فقد استمرت في سياسة  التنافس الاقتصادي والجيوسياسي معها حتى نهاية ولاية ترامب وشهدت العلاقة بين البلدين أسوأ تطورلها منذ عقود ،  حيث أقدمت الادارة الأمريكية في يوليو/حزيران عام ٢٠٢٠ على اغلاق القنصلية الصينية في ولاية هيوشين على خلفية اتهامها القيام بنشاط تجسسي ، كما سعت إلى توثيق التحالف مع دول جنوب شرق أسيا وخاصة الموجودة على حدود بحر الصين . أما بالنسبة لروسيا فقد عمدت ادارة ترامب إلى التقرب إليها واستمالتها لصالحها ضد الصين . 

وفي عهده تصاعدت الخلافات بين أعضاء حلف الناتو،  إذ يرى ترامب توسيع الحلف وضم أعضاء جدد إليه وطالب الدول الاوربية لزيادة ميزانيتها فيه وأن على الدول الأوربية ممارسة دور أكبر في العمليات العسكرية والأمنية وفي النشاط العسكري الأمريكي ، كما أدت سياسته الاقتصادية والدبلوماسية مع الاتحاد الأوربي إلى توسع دائرة الخلافات والتوتر بينهما  وكانت الادارة الأمريكية لا تفضل التعامل مع الاتحاد الأوربي على أساس كتلة واحدة وأنما كانت تفضل التعامل معهم بشكل ثنائي ،  كما دعمت ادارة ترامب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي . 

اما بالنسبة لسياسته حول القضية الفلسطينية فقد كانت لصالح إسرائيل بالكامل ، فقد اعتبر إسرائيل دولة مركزية في منطقة الشرق الأوسط وأكد على دعمها كونها تحافظ على مصالح أمريكا في المنطقة واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل،  كما قدمت ادارته مقاربة جديدة لرؤية خاصة لحل القضية الفلسطينية عرفت بصفقة ( القرن) وبموجبها غيرت كثيراً في مفاهيم سائدة حول القضية الفلسطينية.

لم يختلف الرئيس الأمريكي  جو بايدن عن الرئيس أوباما كثيراً  في سياسته الخارجية ، فهو مع بداية ولايته وفي وثيقة رسمية للكونجرس الأمريكي  حدد فيها  توجه الاستراتيجية الأمريكية الخارجية، فقد  اعتبر فيها الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية لأمريكا كما أكد فيها على أهمية التحالفات والشراكات لمواجهة كل من الصين وروسيا ، إلا أنه أبعد فيها المواجهة معهما على غرار الحرب الباردة،  وأضاف فيها أن العالم بحاجة إلى قيادة أمريكا  وقال أيضاً أننا لن نترك مستقبلنا عرضة الأهواء الذين لا يشاركوننا رؤيتنا لعالم حر ومنفتح وديمقراطي ، كما اعتبر أن  روسيا تشكل تهديداً للعالم الحر والنظام الدولي وتنتهك قوانينه اليوم كما هو الحال في عدوانها على أوكرانيا،  أما الصين فهي المنافس الوحيد الي يسع لإعادة تشكيل النظام الدولي عبر تزايد قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية ، أما مستشاره القومي  جيم سوليفان فقد قال ، أنه من الأهمية بمكان تحديد التحديات التي تفرضها الصين علينا قبل فوات الأوان، وأضاف أن هذا العقد بالغ الأهمية لتجديد شروط المنافسة خاصة مع الصين وإذا فقدنا الوقت لن نكون قادرين على مواكبة ذلك ، تلك هي النظرة الاستراتيجية الأمريكية عند الرئيس جو بايدن فهو من خلال  تلك الرسالة ربط الادارة الأمريكية بكافة التحديات الكبرى والمواضيع الثانوية العابرة من عسكرية أو اقتصادية أو بيئية أو ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل أو أي أزمة إقليمية . 

أن أمريكا مقبلة مع نهاية هذا العام على استحقاق انتخابات رئاسية يخوضها كل من الرئيس الحالي جو بايدن ضد المرشح الجمهوري الرئيس السابق ترامب ، فهل تبق سياسة كل منهما كما هي كانت في السابق ؟


هل بدأت شمس الإسلاميين الأتراك بالغروب؟

(تحليل لمؤشرات الانتخابات المحلية التركية)

محمد سيد رصاص

“المركز الكردي للدراسات” – ألمانيا 4\4\2024

 لم يستطع انقلاب28شباط\فبراير1997،الذي قام به العسكر العلمانيون الأتراك ضد حكومة رئيس الوزراء الاسلامي نجم الدين أرباكان، من وقف المد الاسلامي في الحياة السياسية التركية،رغم الاجراءات اللاحقة من حظر (حزب الرفاه) ومنع زعيمه أرباكان من العمل السياسي، فتلاميذ أرباكان، من أمثال رجب طيب أردوغان وعبدالله غول ،عندما أنشأوا (حزب العدالة والتنمية) في الشهر الثامن عام2001وشاركوا في الانتخابات البرلمانية عام2002وفازوا بأغلبية المقاعد، كانوا في تدشين لحالة مد سياسي اسلامي تركي جعلت هذا الحزب يفوز بالغالبية حتى عام2023في كل الانتخابات البرلمانية والمحلية (أويحتل المركز الأول بين الأحزاب المتنافسة) ويفوز مرشحه أردوغان بعدة انتخابات رئاسية، كماكان كل استفتاء يطرحوه يحصلون فيه على الغالبية.

في يوم الأحد31آذار\مارس2024انتهى ذلك ، مع حصول (حزب الشعب الجمهوري) على المركز الأول في عملية نيل أصوات المقترعين في الانتخابات المحلية التي شملت الولايات الواحدة والثمانون التركية بمافيها بلديات مدن كبرى( 30)و21ألف مجلس بلدي و1282مجلس اقليمي ولائي . جاء (حزب العدالة والتنمية)ثانياً بحصوله على 35,49%من مجموع الأصوات،فيماحصل (حزب الشعب)على 37,74%،وكماخسر حزب أردوغان7%من أصواته التي كانت بانتخابات عام2019المحلية فإن (حزب الشعب)قد كسب مايقارب8%من الأصوات الجديدة،واحتفظ ببلديات المدن الثلاث الكبرى،اسطنبول وأنقرة وإزمير ، وكسب بلديات جديدة كانت ل(حزب العدالة والتنمية)، مثل بورصة وكوتاهيا ومانيسا وأديامان وأماسيا ودنيزيلي ،وهو نال أربعة عشر من بلديات المدن الكبرى الثلاثون وخمس وثلاثون من بلديات عاصمات الولايات الواحدة والثمانون.

في الجغرافية التركية، لم يعد لحزب أردوغان ولايات مسيطر عليها بالبحر المتوسط سوى في “هاتاي:لواء الاسكندرون”، ولاواحدة في بحر إيجة، ولاواحدة في بحر مرمرة، ولاولاية في منطقة تراقيا(القسم الأوروبي من تركيا)، فيماظل مسيطراً على أغلب ولايات البحر الأسود ماعدا سينوب وزونكلداك وأرتفين. نفوذه التقليدي مازال محتفظاً به في منطقة الأناضول في الرباعي ملاطية – قيصرية – أكساراي- قونية وجنوب هذا الرباعي في مرعش وعنتاب وكيليس وشماله وشماله الشرقي في سيواس وإرضروم،مع غالبية أصوات له في القسم الآسيوي من اسطنبول.

يمكن لهذه المؤشرات أن تكون دالة على انحلال قوة سياسية ونزولها، كماكان وضع (حزب الشعب الجمهوري)أمام (الحزب الديمقراطي)، بقيادة عدنان مندريس، منذ انتخابات1950ومن ثم في انتخابات برلماني1954و1957،حيث كان صعود مندريس،الذي جمع الاسلامية مع الليبرالية الاقتصادية وموالاة حلف الأطلسي، مؤشراً على انحلال قوة جزب أتاتورك ونزوله، ولم ينفع انقلاب1960، الذي قام ضباط صغار علمانيون أتاتوركيون  به حيث أعدموا مندريس إثره، في الدفع بمد علماني أتاتوركي جديد كماكان الوضع بين عامي1923-1950، رغم أن (حزب الشعب الجمهوري)ظل يتناوب المركز الأول بالانتخابات مع (حزب العدالة)بزعامة سليمان ديميريل بالستينيات والسبعينيات،وكانت آخر انتخابات فاز بالمركز الأول بها هي لبرلمان 1977،فحكم العسكر الأتاتوركيون ،من وراء الستارة الحزبية المدنية منذ عام1963كان لايعبر عن مد سياسي جديد للعلمانية الأتاتوركية بل عن قوة الدبابة المدعومة أميركياً في ظرف كانت تركيا جزءاً رئيسياً من استراتيجية حلف الأطلسي في مواجهة السوفيات زمن الحرب الباردة،وهو مادفع واشنطن لغض النظر عن انقلابين عسكريين قام العسكر بهما في أنقرة بعامي1971و1980لمواجهة المد اليساري،وهنا يلاحظ أن انتهاء الاعتمادية الأميركية على العسكر التركي كانت بالتزامن مع مرحلة مابعد الانهيار السوفياتي ،وفقدان تركيا لوظيفتها الأطلسية ضد موسكو، كماأن صعود الأردوغانية كان بالتوازي مع تفكير أميركي بدأ بعد 11سبتمبر2001،عندما ضرب تنظيم القاعدة نيويورك وواشنطن،نحو استخدام تلاميذ حسن البنا ضد أسامة بن لادن، كماأن صدام الأميركان مع أردوغان كان مع تخلي واشنطن عن تحالفها مع الاسلاميين الأصوليين منذ عام2013،وهو مابدأ مع سقوط حكمهم في القاهرة،ولم يحم أردوغان من السقوط سوى الاقتصاد القوي ثم التحالف مع بوتين منذ عام2016.

منذ عام2019بدأت الأزمة الاقتصادية التركية،وقد كان المتوقع أن يترجم هذا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالعام الماضي ضد أردوغان وحزبه، ولكن هذا لم يحصل آنذاك، على الأرجح بسبب القيادة الضعيفة للزعيم  السابق ل (حزب الشعب الجمهوري)كمال كيليجدار أوغلو . كان فقدان اسطنبول وأنقرة بالانتخابات المحلية عام2019مؤشراً على بداية نزولية “ما”  للقوة الأردوغانية ،ولكن كيليجدار أوغلو لم يكن مؤهلاً لتكملة تلك الضربة لأردوغان التي جرت ضده قبل أربع سنوات، زائد انقسام المعارضة، ولكن انتخاب زعيم جديد للحزب ،هو أوزكار أوزيل،يوحي بأن ذلك الذي تحقق عام2024كان يمكن حصوله عام 2023في انتخابات الرئاسة والبرلمان.

ولكن رغم هذا كله،يجب عدم التسرع في الاستنتاج بأن الأتاتوركية العلمانية في مد سياسي جديد من خلال صعود حزب أتاتورك في انتخابات يوم الأحد الماضي، فالاسلاميون مازالوا أقوياء،بحوالي 42%من مجموع المقترعين،وفق مؤشرات يوم الأحد،عندما أتى ابن أرباكان ب(حزب الرفاه الجديد)الذي نال 6,19%من الأصوات ،ومازال حليف الاسلاميين،أي (حزب الحركة القومية) ذي الاتجاه الطوراني،يحتفظ بشيء من قوته،كماأن الحزب الجديد،أي (حزب مساواة الشعوب والديمقراطية)،وهو وريث (حزب الشعوب الديمقراطي)،لم يطمئن بأن الأتاتوركيون قد تخلوا عن شوفينيتهم القومية ضد الكرد،وهو حزب لاتدل نسبة أصواته في الانتخابات الأخيرة ،أي 5،68%،على قوته بل تدل انتخابات مدن دياربكر وفان وباتمان وماردين وموس وسيرت وأغري وهاكاري وإجدير أن فوزه هناك سيجعله بأي انتخابات برلمانية مقبلة في المركز الثالث بين الأحزاب التركية،وسيكون صانع الملوك في الانتخابات الرئاسية القادمة.

كتكثيف: لن يكون ابن أرباكان في مكان أبيه في انتخابات برلمان عام1995ولافي مكان أردوغان وحزبه عام2002. ولكن من المؤكد أن تركيا ستشهد حركة نزولية في قوة الاسلاميين ليس فقط الاقتصاد القوة الدافعة فيها،بل مشهد اجتماعي لاتستطيع فيه أن تحكم تركيا من قاعدة اجتماعية أساساً أناضولية، ولوكان منها رجال أعمال، كماكان عيب الأتاتوركية الأساسي الاستناد الاجتماعي إلى نخبة هي أشبه بطائفة ،تضم عسكر وبيروقراطيين وأكاديميين ومثقفين ورجال أعمال،تقتصر على الأحياء الغنية في القسم الأوروبي من اسطنبول وفي أنقرة وإزمير. وكماكانت فترة 1950-2002فترة نزولية في قوة الأتاتوركية فإن عام2024قد أعطى إشارات كافية على بدء غروب شمس الاسلاميين الأتراك، وفوز الأتاتوركيين بالمركز الأول لايدل على أكثر من هذا الغروب، وليس على شروق جديد لشمس الأتاتوركية.


فكر شي جين بينغ الحقيقي

الفلاسفة السياسيين الصينيين في صراع طويل مع الحداثة

رانا ميتر، مديرة قسم الدراسات الصينية في جامعة اوكسفورد البريطانية، فورين أفيرز

مارس/أبريل 2024 

إعداد رامز باكير

في عام 2023، كشفت قناة هونان التلفزيونية، ثاني أكثر القنوات التلفزيونية مشاهدة في الصين، عن سلسلة بعنوان “عندما التقى ماركس بكونفوشيوس”. كانت فكرة المسلسل ممثلون يلعبون دور المفكرين – كونفوشيوس يرتدي ثوبًا بيجًا، وكارل ماركس يرتدي بدلة سوداء و بيروكة ذات شعر أبيض كثيف – وفي المشاهد يلتقيان في أكاديمية يوئيلو، وهي مدرسة تعود إلى ألف سنة مضت مشهورة بدورها في تطوير فلسفة كونفوشيوس. وعبر خمس حلقات، ناقش ماركس وكونفوشيوس طبيعة السياسة، ووصلوا إلى استنتاج أن الكونفوشيوسية والماركسية متوافقتان – أو بالأحرى أن ماركس قد استمد نظرياته بشكل غير مدرك من بئر الكونفوشيوسية. 

في إحدى الحلقات، لاحظ ماركس أنه ورفيقه “يشتركان في التزامهما اتجاه الاستقرار [السياسي]، ويضيف أنه “في الواقع، كنت صينيًا لفترة طويلة”، موحيًا بأن تفكيره كان دائمًا متناغمًا مع الرؤية الصينية التقليدية.

جاءت هذه السلسلة بدعم مباشر من قبل الحزب الشيوعي الصيني وشكلت جزءًا من مشروع شامل للرئيس شي جين بينغ و تصوره للهوية الفكرية لبلاده. فمنذ توليه السلطة في عام 2012، جعل شي من الضروري للشعب الصيني فهم تفسيره للفكر الصيني، الذي يطلق عليه “فكر شي جين بينغ”. وطُلب من البيرقراطية الصينية بأسرها من المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال و حتى نجوم البوب ​​أن يُؤيدوا و يروجوا لفكره، ويتم تدريسه في المدارس، بل و يجب على أعضاء الحزب الشيوعي استخدام تطبيق على هواتفهم الذكية لتذكيرهم بمبادئ “فكر شي جين بينغ”.

يتمثل فكر شي بشكل أساسي في الجمع بين الماركسية الكونفوشيوسية، وفي تشرين الأول/اوكتوبر 2023، أعلن أن الصين اليوم يجب أن تعتبر الماركسية “روحها” و “الثقافة الصينية التقليدية الجميلة جذرها”.

تبدو جهود شي لإعادة تعريف أسس الفكر الصيني أكثر إلحاحًا مع تباطؤ النمو الذي أثار شكوكًا بين المستثمرين وعدم الثقة العامة داخل البلاد. فهو يقود بلدًا تُحترم فيه قوته الاقتصادية أكثر من نظامه الحاكم: فقد حصلت الصين الآن على مكان بين أكبر اقتصادات العالم ولكنها لا تزال تطلعاتها ضمن النظام الدولي. وستكون الدول الغربية مترددة في قبول تأثير الصين العالمي ما لم تتوافق الصين مع القيم ”الليبرالية الحديثة“. لكن محاولات تشي لتوليد تركيبة بين الماركسية و الكونفوشيوسية أثارت الدهشة بل حتى السخرية بين المراقبين خارج وداخل الصين. 

خلال القرن الماضي، لطالما اعتبر المفكرون الشيوعيون الصينيون أن المستقبل المزدهر يتطلب قطيعةً كاملةً مع الماضي. ولطالما أدان المفكرين الصينيون البارزون في القرن العشرين بشكل عام الكونفوشيوسية، الفلسفة التي تؤكد على الهياراركية والطقوس والعودة إلى الماضي ذو النظرة المثالي. حيث اعتقد ماو تسي تونغ وغيره من المفكرين الشيوعيين الصينيين أن الكونفوشيوسية لا تتوافق نظريًا مع الماركسية، التي تحتفل بالثورة والتغير المستمر، وأن تأثيرها العملي على السياسة في الماضي جعل الصين ضعيفة. 

كانت الفكرة الكونفوشية في نظرهم قد أنتجت بيروقراطية متعفنة فشلت في التكيف مع تحديات الحداثة، و جائت ثورة ماو الثقافية تجسيداً لهذا الشيء، عندما نسف الجيش الأحمر بالديناميت قبر كونفوشيوس قبل أن يعلقوا جثة عارية أمامه. 

من الصعوبة محو الماضي في بلد ذو تاريخ غني. ويبدو أن الفكرة كانت دائماً ذات اهمية للمفكرين الصينيين، وللشعب الصيني عمومًا، بأن يُنظر إلى بلدهم على أنه يستجيب للتغيير السياسي باستخدام أساليب مستمدة من منهم كصينيين. ومع انه كان هناك العديد من نظراء الفكر السياسي في بداية القرن العشرين في الصين يدينون الكونفوشيوسية، فإن مفكرين آخرين سعوا إلى إظهار أن الصين ليست مضطرة إلى تقليد الأفكار الغربية – سواء كانت وطنية أو ليبرالية أو حتى ماركسية – لتحديث نفسها. ووجدوا خريطة طريق لنوع مختلف و و فعّال و حداثي آتي من ضمن عالم الفكر الصيني التقليدي.

في كتاب “صعود الفكر الصيني الحديث”، للباحث في اللغة والأدب الصيني في جامعة تسينغهوا وانغ هوي، يعود الكاتب إلى الفلاسفة المتأخرين في القرن التاسع عشر الذين عملوا على إعادة تشكيل الفلسفة الصينية. نُشر الكتاب لأول مرة باللغة الصينية في عام 2004، وظهر العام الماضي في طبعة إنجليزية جديدة، بجهود عدة مترجمين تحت إشراف مايكل جيبس هيل. على الرغم من أن الترجمة تتجاوز 1000 صفحة، إلا أنها تمثل ما يزيد قليلاً عن نصف الإصدار الصيني الأصلي المكون من أربعة مجلدات. 

يحلل وانغ العلاقات بين النظرية السياسية والمسائل الحكومية الأكثر تحديدًا على مدى ألف عام من التاريخ الصيني. ولكنه يلاحظ أن “تفسيرات الصين الحديث لا يمكن تجنب السؤال عن كيفية تفسير سلالة تشينغ، التي حكمت الصين من عام 1644 إلى عام 1912. تقدم الدراسة العميقة لوانغ لأعمال مجموعة من الفلاسفة في أواخر سلالة تشينغ دليلاً على أن اعتناق الصين للماركسية لم ينشأ من رفض شامل للكونفوشيوسية. بل نشأ من تطبيق المفكرين السابقين  للفكر الكونفوشي على تحديات الحداثة.

يعرض كتاب وانغ بالتفصيل الكثير، ولكن مقدمة جيدة من هيل تساعد على وضع القارئ الناطق بالإنجليزية في سياقه. ويكشف النص ببراعة عن صينية كانت دائمًا حية ومتعددة في فكرها السياسي. هذه الصورة تتعارض مع الإدراك المعتاد للمراقبين الخارجيين – وحتى بعض المؤرخين الصينيين – بأن الفكر الصيني كان وحيدًا وعرضة لانقطاعات مفاجئة. 

من ناحية، يجعل كتاب وانغ “صعود الفكر الصيني الحديث” محاولة لتحقيق توازن بين الماركسية والكونفوشيوسية تبدو أقل غير معقولية. وإن لها تاريخ، فقد حاول فلاسفة جادون ذلك من قبل. 

وقد اقترح كتاب كثيرون أن “العمل الفكري الإيديولوجي“ لن يكون له أهمية أو لا يمكن أن يكون له أهمية للشعب الصيني العادي، الذي يصارع بشكل متزايد المشاكل المادية، مثل دفعات الرهن العقاري التي تثقله، و توفير الرعاية الصحية لكبار السن. ولكن يبقى هناك تشوش تعاني منه الصين بشأن أزمة الهوية الوطنية. وبشكل ضمني، يقترح كتاب وانغ أن الجهود لإعادة تعريف الفكر الأيديولوجي للبلاد يمكن أن تساعد في التعامل مع تلك الأزمة. 

ولكن تحليل وانغ يكشف أيضًا عن المسار الذي ضل فيه الحزب الشيوعي الصيني في تعبيره عن فكره الجديد بمصطلحات بسيطة ومعقمة، حيث يستمد أفكاره من قراءات غير مباشرة للكلاسيكيات ويمنع الانتقادات.

يعتقد المفكرين الذين يدافعون عن الأهمية الكونفوشية في بداية القرن العشرين أن مفتاح الحل لهذه المسألة يكمن في السماح للمفكرين والفلاسفة بمناقشة طبيعة الفلسفة الصينية نفسها. حيث كانوا في العقود القليلة الماضية، أكثر حرية في مناقشة البدائل السياسية.

فلاسفة وملوك

وانغ، واحد من أبرز المثقفين في الصين المعاصرة، كتب بشكل متكرر حول فترة ما بعد الثورة الشيوعية. وأصبح عضوًا بارزًا في الحركة الطلابية عام 1989 من أجل الإصلاحات الديمقراطية، وأصبح عضوًا بارزًا ايضاً في ما يُعرف بـ “اليسار الجديد” في الصين في التسعينيات. في كتابه لعام 2010، “نهاية الثورة”، حيث انتقد تحول الصين نحو سياسات السوق في التسعينات. 

في كتاب “صعود الفكر الصيني”، لا يتناول وانغ بشكل صريح أي جانب من تاريخ القرن العشرين المضطرب للصين. حيث يظهر ماو مرة واحدة فقط في هذا العمل، و يهتم وانغ أكثر بفلاسفة ومفكريين صينيين سابقين قد تعاملوا مع التحديات التي أثارتها الحداثة، مُجادلًا بأن الصين عندما تغيرت، فعلت ذلك من خلال الاستفادة من منابعها الفكرية الداخلية. (المجلدات اللاحقة، غير المترجمة في طبعة هيل، تتناول الفترة الممتدة إلى بداية القرن العشرين).

تبدأ دراسة وانغ في السلالة السونغية (960-1279) وسلالة المينغ (1386-1644) مع الكونفوشيوسية الجديدة، مدرسة الفكر التي عدلت الكونفوشيوسية التقليدية في مواجهة تحديات الطاوية والبوذية. 

ويكتسب تحليله أهمية معاصرة قوية عندما يتناول اشكال من المدارس الفكرية التي ظهرت في نهاية حقبة حكم سلالة تشينغ. في ذروة عصر تشينغ، حيث تضاعف السكان الصينيون ونجحت الحملات العسكرية بشكل كبير وتوسعت أراضيها. 

كما و وسعى الأوروبيون لنيل مكسب على حساب هذه الانتصارات. لكن بحلول نهاية القرن التاسع عشر، جلبوا الفشل الاقتصادي والهزيمة على يد البريطانيين في حروب الأفيون، حتى انحدرت الصين إلى كارثة وجودية. بعدها اضطرت الصين إلى توقيع معاهدات مهينة مع مجموعة من القوى الناشئة بما في ذلك اليابان وروسيا والولايات المتحدة، وبدت الصين وكأنها لن تكون ببساطة مؤهلة لتكون مزدهرة في العصر الحديث.

وكان أحد الاستنتاجات المحتملة هو التخلي عن التقاليد الصينية القديمة لصالح الأفكار الغربية القومية والماركسية.

يُجادل وانغ بأن الأزمات التي أثرت على إمبراطورية تشينغ المتأخرة لم تكن مشكلة جيوسياسية وحسب حيث دول أخرى حصلت على ميزات مادية على حساب الصين. بل كانت أزمة في النظرة إلى العالم. منذ فترة طويلة، لطالما زعم العلماء والمفكرين أن الطرق التي تم فيها تطبيق الكونفوشيوسية على السياسة الصينية في القرن التاسع عشر تركت البلاد جامدة – غير قادرة على التعامل مع الأيديولوجيات الغربية الحديثة مثل الرأسمالية والليبرالية والقومية. وكان التركيز على أن الكونفوشيوسية بنية على التقاليد واحترام الهرمية وأدت لبيروقراطية جامدة وأحيانًا فاسدة فشلت في التعامل بمهارة مع الغزوات الأجنبية والانتفاضات الداخلية أو في الحفاظ على الإيرادات الضريبية الكافية لضمان الأمن والبنية التحتية.

ومع حلول نهاية القرن التاسع عشر، كان الفشل الاقتصادي قد أدى بالصين إلى أزمة كيانية. ولكن وانغ يقترح أيضاً آن هذا النوع من الركود ليس متأصلاً في الكونفوشيوسية. في الواقع، كان عالم الفكر الكونفوشي متسعًا ومرنًا. و غالبًا ما استمتع الفلاسفة الكونفوشيين بالتعامل مع الأفكار الأجنبية، بدمجها أو تركيبها لتتكيف الصين مع ظروفها التاريخية الجديدة. وبشكل ملحوظ، نحو نهاية القرن التاسع عشر، بحث مفكري حركة ”النص الجديد“ – تسمى بهذا الاسم لأنها استمدت من النصوص المكتوبة بخط جديد كشفت عنه سلالة هان القديمة – الطرق التي يمكن من خلالها إعادة تشكيل الكونفوشيوسية في الثقافة الخاصة بهم عند مواجهة الأفكار الغربية.

لم تقدم الحداثة، كما يقول وانغ، تحدياً لا يمكن الرد عليه، مما يضع صراعًا بين القديم والجديد. بدلاً من ذلك، اقترح فكر النص الجديد أن ترجمة الطقوس الكونفوشيوسية أو المبادئ إلى قوانين يمكن أن تحقق “الوحدة الكبرى” لهذه المبادئ مع المطالب الجديدة التي تطرحها العولمة والإمبريالية الغربية.كما و أراد مفكري ”النص الجديد“ أن يجدوا طرقًا لمقاومة التأثير الاجتماعي الذي خلّفه الفساد الحكومي. 

يصف وانغ كيف أعاد المفكر الجديد ”وي وان“ البارز تحدي فرضية الزعماء الصينيين بأن الكونفوشيوسية تتطلب منهم إعطاء الأفكار والاستراتيجيات صينية المنشأ الأولوية على حساب الافكار الاخرى. و سعى لتفكيك التمييز بين “الداخل” و “الخارج”؛ مما سمح له بالدعوة إلى التحديث العسكري الذي يتضمن الابتكارات الغربية، بما في ذلك التدابير الجديدة للدفاع عن حدود الصين وبناء حوض بناء سفن ومعمل تسليح في جنوب الصين. واكتشف المفكرين مثل ”كانغ يوي“ مكونات حداثبة داخل الكونفوشيوسية، مؤكدين أن التفسيرات السليمة للنصوص الكونفوشية قد تكشف عن مكونات لهذا الفكر يمكن أن توازي تأثير الأفكار الحديثة الغربية. استنادًا إلى نظريات الكونفوشيوسية، صاغ كانغ فكرة ”داتونغ“، أو “الوحدة الكبرى”، “عندما يكون كل شيء على وجه الأرض، كبيرًا أو صغيرًا، بعيدًا أو قريبًا، يكون واحد“.

لم يرَ كانغ فارقًا بين اعتناق عالمية النظرة الكونفوشية والدعوة إلى عالم يتجاهل الحدود كونها لا تعني شيئًا. وقد حازت اقتراحاته بتأثير كبير، ولعب دوراً محوريًا في حركة الإصلاح ”المائة يوم“ في عام 1898، التي هدفت إلى تحويل الصين نحو النظام الدستوري الذي يشبه اليابان. وبهلع، أمرت الحاكمة القديمة تسيشي بإلقاء القبض عليه وطرده إلى المنفى. لكن أفكاره لم تمت. كانت فترة سلالة تشينغ الأخيرة فترة من النشاط الفكري الكبير، واستمر الفكر الصيني – بعضه في المنفى في اليابان – في مناقشة ومعالجة نظريات مثل تلك التي قدمها كانغ في مجموعة من المجلات الجديدة. 

يُقال إن موقف فكر ”النص الجديد“ مكّن الجيل القادم من أن يكون مفتوحًا على الماركسية. في عام 1925، كتب المؤلف غو مورو عن ماركس “دخوله إلى معبد كونفوشيوس” في قصة قصيرة ألهمت جزئياً سلسلة تلفزيونية جديدة لتلفزيون هونان. 

و في نص عام 1939 بعنوان “كيف تكون شيوعيًا جيدًا”، أشار ليو شاوتشي وهو شخصية مركزية في الثورة الشيوعية الصينية، إلى “الفضائل الشيوعية”، وهي صياغة أكثر كونفوشية من ما هي مادية.

أزمة الايمان:

يُعتبر صعود الفكر الصيني، في معناه الواسع، دراسة تاريخية. أحد المقترحات الرئيسية التي قدمها المفكرين في نهاية القرن أبان حكم سلالة تشينغ كانت أن الصين لا تحتاج فقط إلى إيجاد سبيل للخروج من الأزمة التي كانت تواجهها في ذلك الوقت بل أيضًا تضمين الحل في أشكال ثقافية صينية قديمة فلم تكن توجهاتهم الفكرية مشابهًا بأي شكل من الأشكال لوضع الصين الحالي. عندما كانوا يكتبون، كانت الصين عالقة في أزمة مالية عميقة وكانت تعاني من الانتفاضات الداخلية؛ كانت العديد من مناطقها الريفية متضررة بشدة، وكانت سيادتها قد تم التضحية بها بشكل كبير من قبل الغزوات الأجنبية وفرض معاهدات متحيزة. اليوم، تتمتع الصين بقوة اقتصادية وعسكرية هائلة و لا توجد تهديدات معنوية لسيادتها الوطنية.

ولكن مثل العديد من البلدان المتقدمة اليوم، لا تشعر الصين بالتزام المعايير الدولية التي وُضعت في الغالب من قبل الغرب في القرن العشرين. ويعتقد النخب الصينية أن هذه المعايير وفروضها الفكرية العالمية قد فُرضت على الصين فرضاً. وعلى الرغم من قوة الصين، إلا أنها تتأثر بشكل متزايد بشعور بالأزمة. يُعزى هذا المشهد جزئياً إلى الظروف المادية. بطالة الشباب الحضري في الصين، التي تقدر الآن بنحو 20 في المائة أو أكثر، وتزايد الفجوة بين الحضر والريف مرتبطة بالاقتصاد. كذلك، الصعوبة التي تواجه العائلات الصينية اليوم في سداد أقساط الرهن العقاري أو التعامل مع الرعاية الصحية والمعاشات غير الملائمة.وتكون لدى الصينيين، وخصوصاً الشباب شعور بالعجز.

لقد انتجت فترة النمو الاقتصادي المذهلة الأخيرة مفهومًا ذاتيًا للمواطنين الصينيين: الصين هي قوة جريئة وصاعدة، وكونها صينيةً يعني أن تكون في طليعة التطور. والآن يواجه هذا المفهوم  تحدياً كبيراً ويبدو أن المسار النموذجي المثالي للنمو الصيني قد انحدر، ليترك ليس فقط حسابات البنك خاوية، ولكن أيضًا مفهوم الهوية الشخصية.

وتكون الشعور بالعجز في الصين أيضاً اجتماعيًا، خصوصاً بالنسبة للشباب، ولا يمكن حله بتحسين الظروف الاقتصادية وحدها.

فترة النمو الاقتصادي المذهلة الأخيرة أنتجت مفهومًا ذاتيًا للمواطنين الصينيين: الصين هي قوة جريئة وصاعدة، وكونها صينيًا يعني أن تكون في طليعة التطور. يتم تحدي هذا الفهم الأساسي الآن. يبدو أن المسار النموذجي للنمو الصيني قد انحدر، ليترك ليس فقط حسابات البنك خاوية، ولكن أيضًا مفهوم الهوية الشخصية.

اليوم، الكلمة التي يستخدمها الكثير من المهنيين الصينيين لوصف أنفسهم هي “مكتئبون”. في ثقافة تحمل الاعتراف بالمشاكل الصحية العقلية أثقالًا، حيث ذُكر في استطلاع وطني للرأي عام 2020 أن 35 في المائة من الصينين يعانون من الضيق أو القلق أو الاكتئاب. ويعبر الشباب الصيني على وسائل التواصل الاجتماعي عن خيبة أملهم و احتجاجهم معلنين أنهم “يستلقون” أو ”يتعفنون”. كما وأدت فترة الإغلاق العام أيام أزمة فيروس كورونا إلى تآكل الثقة في الدولة.

ويواجه العمال الصينيون الشبان في مجال الأعمال والأكاديميات ووسائل الإعلام المزيد والمزيد من القيود التي يجدونها صعبة الفهم. (على سبيل المثال، العديد من الطلاب الصينيين حريصون على الدراسة في الخارج، ولكن يُخبر العديد منهم أيضًا أنه إذا فعلوا ذلك، سيتعطل صعودهم في البيروقراطية الصينية.) ومع بدء الشيخوخة في الصين، يدرك الشبان أن تكاليف رعاية الوالدين ستقع بشكل كبير على عاتقهم. 

طبعاً هذه التطورات لا تجعل الحياة في الصين لا تحتمل، كما كان الحال في عصر دولة تشينغ الفاشل. ولكنها تجعلها غير مرضية. قد تكون الصين قادرة على الاستمرار في خلق نمو اقتصادي متين. ومع ذلك، “متينة ولكن غير مدهشة”، ليست مثيرة. “ضعيفة وهشة“، ومع تصور دائم بأنها قد تصبح أسوأ.

يُشير الكثيرون من المراقبين الغربيين إلى اليابان كتحذير للصين حول ما يحدث عندما تنهار الفقاعة العقارية وتدخل البلاد في فترة شيخوخة. ومع ذلك، تظل اليابان اقتصادًا و عالميًا قوية، وذات دور إقليمي مهم، وتبقى واحدة من أفضل الأماكن في العالم للعيش. قد تكون الصين قادرة جيدًا على اتباع مسار اليابان من خلال ضبط اقتصادها المحلي لإنشاء وظائف جديدة في قطاع الخدمات والتركيز على الرعاية للمسنين، ولكنها قد لا توفر السردية البطولية التي تعتبر أساساً للقوى الصاعدة. 

الطب التقليدي

في هذا السياق، يصبح من المنطقي أكثر أن يبدأ شي في محاولة تقديم فكرة محدثة تجمع بين رؤية ماركسية للمجتمع ورؤية كونفوشيوسية. حيث تعزز الماركسية وحدها الانتقاد الذاتي، خاصةً عند تطبيقها على السياسة الحقيقية. لذلك يرغب شي في تجنب ذلك في لحظة سياسية هشة. 

لذلك يبدو خيار مزيجًا مجددًا مجردًا جيدً له للدفاع عن نفسه والحزب ضد الانتقاد، حيث تُعطى الأولوية للاستقرار واحترام السلطة.

تقترح دراسة وانغ بشكل ضمني أن الكونفوشيوسية والماركسية قد لا تكونان تنافريتان بشكل أساسي. وتحليله له أهمية كبيرة للصين اليوم، حتى لو لم يتناول الصين المعاصرة مباشرة. ويظهر عمله أن الجهد المبذول لاستخدام الفلسفة الصينية التقليدية لمواجهة التحديات الناشئة له تسلسل زمني. 

حديثاً، تحدثت مع طالبة مسجلة في إحدى المدارس البارزة للماركسية اللينينية في الصين. سألتها “ماذا تعني لك الماركسية؟”. شرحت لي أن دراسة الماركسية تقدم لها طريقة للتفكير في تطورها الشخصي. الماركسية، قالت، أعطتها سلامًا داخليًا عميقًا. كان ذلك مثيراً للفضول، أخبرتها. ما وصفته يبدو أكثر قرباً للكونفوشيوسية بالنسبة لي من الماركسية. ربما كان ذلك بسبب تشربها بعضاً من الثقافة التقليدية المحدثة. أو ربما كان بديهياً لها أن عناصر من الفلسفتين قد يتوافقان – وكان من المريح بالنسبة لها أن تشعر أن ثقافتها الخاصة لديها بعض الإجابات على الشعور الفادح والشعور بالتفكك في جيلها. 

إذا كان بالإمكان بذل جهد صادق لدمج الماركسية والكونفوشيانية يمكن أن يساعد ذلك في معالجة هذا العدم عن طريق السماح للصين بالاحتفاظ بفكرتين في آن واحد. 

من المتوقع أن تواجه الماركسية مستقبلاً مواجهات مضطربة مع تحديات العصر، كمسألة عملية الانتقال إلى الطاقة النظيفة، وهيمنة الولايات المتحدة، أو النظام الدولي الليبرالي على سبيل الامثلة، مما يتيح فرصة لترويج الصين لفكرة أو لتوجه عالمي نحو الكونفوشيانية، وبأن ذلك قد يمهد لفكرة أن الصين ستحتاج إلى المزيد من الهدوء والتنبؤ والاستقرار في المستقبل – وأن المواجهات العسكرية المباشرة مع بين الصين والغرب من المحتمل أن تقلل من مصالح الصين نفسها.

يحتفظ الفكر السياسي الصيني بحيوية وتنوع، حيث أنه عمل قائم على التطور. في عام 2019، نشر الفيلسوف باي تونغدونغ، من جامعة فودان في شنغهاي، كتابًا بعنوان “ضد المساواة السياسية”. على الرغم من العنوان كان مثيراً للجدل، فإن العمل يعتبر دفاعًا قويًا عن الليبرالية، مؤكدًا أن بعض أشكال الحكم غير الديمقراطي، مثل تلك المستندة إلى قيم كونفوشيوسية، يمكن أن تحافظ بشكل أفضل على القيم الليبرالية مقارنة بما يمكن أن تفعله الديمقراطية. 

يعتمد باحث العلاقات الدولية يان شوتونج على سبيل المثال، في كتابه لعام 2011 بعنوان “الفكر الصيني القديم، القوة الصينية الحديثة“، تصارع الفكر الصيني الذي يُعتبر واقعيًا مقارنةً مع الأفكار الكلاسيكية، مع الرجوع  إلى الفكر الصيني قبل الحداثي لتفسير النظام العالمي المعاصر. نظرًا لوجود سابقة صينية تجمع بين الكونفوشيانية والماركسية التي يحاول شي تنفيذها، و من المثير للاهتمام أن يعتمد إلى حد كبير على مصادر قديمة جدًا.

كان من الممكن بسهولة إنتاج سلسلة تلفزيونية تتوافق فيها الكونفوشيانية مع الحداثة بشكل أكبر وأغنى: ويمكن أن يكون كانغ، مفكر ”النص الجديد“ مناقشة دور كونفوشيوس كمصلح. كان بالإمكان للمفكر الجريء في القرن العشرين ليانغ شومينغ أن يجادل مع ماو حول ما يتكون بالضبط من “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. وقد أجرى هؤلاء المفكرين بالفعل اثنين من الحوارات النشطة حول ذلك، في عام 1946. ولكن الاعتراف بفكر ”النص الجديد“ على وجه الخصوص قد يكون خطيرًا. 

جهد شي لتوحيد كونفوشيوس وماركس ليس لاغٍ، كتمرين. ويستحق الصيني الأصلي لوانغ  الذي نُشر في عام 2004، التأمل والنظر فيه. حيث كانت البيئة الفكرية في الصين مختلفة تمامًا في  ذلك الوقت، وكان الأكاديميون أكثر حرية في مناقشة البدائل السياسية المختلفة، وكانت وسائل الإعلام قادرة على المخاطرة بإبداء تعليقات سياسي أكثر حدة. 

لا تزال الهوية الصينية متعددة، وليست متجانسة، وكان الفكر الصيني دائمًا يسهم بشكل أفضل في ازدهار الصين عندما كان حرًا وجادًا، وليس مغلقًا. و يبقى هذا هو جانب الصيني ”التقليدي“ الذي لا يمكن لحزب الشياو جين بينغ تجاهله.


لقراءة أعداد جريدة المسار اضغط هنا