العدد السادس والثمانون من جريدة المسار – آذار ٢٠٢٤

  • الافتتاحية: مرة ثالثة حول قضية تعدد المعايير عند السوريين
  • كيفيات العلاقة بين السلطة المستبدة والإصلاح (والضرورات)
  • المعارضة السورية في ثلاثة عشر عاماً – محمد سيد رصاص
  • حديث في السياسة
  • توافق المسار بين تراجع حركة التحرر العربية واختزال جوهر وماهية قضية الأمة المركزية – حبيب حداد
  • في نقد اليسار، نحو يسار عربي جديد – محمد علي مقلد
  • عرض لكتاب: “البيان الشيوعي” – كارل ماركس وفريدريك أنجلز

باستثناء الافتتاحية والبيانات الموقعة باسم الحزب فإن المقالات والنصوص الواردة في العدد لا تعبر بالضرورة عن رأي الحزب.


 

الافتتاحية:

مرة ثالثة حول قضية تعدد المعايير عند السوريين

هناك ثلاثة عشر عاماً تفصلنا عن بداية الأزمة السورية، التي بدأت داخلية في ربيع وصيف عام2011،ثم أصبحت اقليمية مع انتقال الأتراك إلى دعم المعارضة الاسلامية في شهر آب2011،ثم بين 18آب 2011،مع مطالبة الرئيس الأميركي باراك أوباما برحيل الرئيس السوري ،وبين 4تشرين الأول2011عندما استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو)ضد مشروع قرار بمجلس الأمن رأته ليس لصالح السلطة السورية،أصبحت الأزمة السورية دولية،ثم حصل لها طابق رابع لبنيتها كأزمة لمادخلت سوريا المنظمات العسكرية  العابرة للحدود مثل “جبهة النصرة”و”داعش”و”حزب الله اللبناني”والمنظمات المسلحة الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية الموالية لايران التي أرسلت بدورها  منذ عام2011مستشارين للأراضي السورية ساندوا السلطة في دمشق،ثم مع دخول القوات الروسية إلى سوريا في خريف2015وبناء قواعد عسكرية لها قام الأميركان في العام التالي ومابعده بانشاء قواعد عسكرية لهم في شرق الفرات وفي منطقة التنف عند المثلث الجدودي السوري-الأردني-العراقي،ثم دخلت القوات التركية بتوافق مع الروس إلى شريط جرابلس- إعزاز بعامي2016و2017ثم مدينة عفرين ومنطقتها في عام2018ثم شريط رأس العين- تل أبيض بعام2019.

قضية (تعدد المعايير عند السوريين)يمكن تلخيصها وتكثيفها في شقين:

  1. ماهو موقف المواطن السوري،مهما كان موقعه في أقانيم(الموالاة)و(المعارضة)و(التردد)،من القوات النظامية وغير النظامية(وممارساتها) التي دخلت إلى سوريا وشاركت في الأعمال المسلحة لحسابها الخاص أولصالح هذا الطرف أوذاك من السوريين أوضد هذا الطرف أوذاك من السوريين.
  2. ماهو موقف المواطن السوري،مهما كان موقعه في أقانيم(الموالاة)و(المعارضة)و(التردد)،من السوريين الذين يتحالفون أويتعاونون أويسوغون أويسكتون عن وجود وأفعال وممارسات غير السوريين من  القوات النظامية أوغير النظامية  .

هناك حجج ومسوغات يبرزها الموالون للسلطة السورية في قضية استجلابها لقوات نظامية إلى سوريا مثل الروسية،أوالمستشارون الايرانيون ومن والى طهران من قوات غير نظامية،بأن “من حق السلطة المعترف بها دولياً أن تستجلب قوات من خارج الحدود لمواجهة التهديد الخارجي”،ولكن هؤلاء يتناسون بأن الطرف الآخر كان سورياً معارضاً مسلحاً عندما طلبت السلطة المساعدة ضده من ايران وحزب الله في عام2013، وعندما عجز هؤلاء طلبت مساعدة الروس في عام2015.فالحالة السورية هي أقرب إلى حالة النزاع الداخلي المسلح الذي حصل بين الطرف اليميني الملكي وبين الطرف اليساري الشيوعي في اليونان بين عامي1946و1949، وهي ليست مماثلة لحالة ملك اليونان عام1941عندما طلب مساعدة عسكرية خارجية بريطانية لمواجهة الغزو العسكري الألماني لليونان،حيث القانون يتيح المشروعية لطلب المساعدة الخارجية من حكومة معترف بها دولياً ولكن ضد قوات من دولة غازية أومعتدية.

هناك ايضاً،عند أقنومي (الموالاة)و(التردد)،تسويغ لوجود القوات الروسية  أولمشاركة قوات ايرانية ومن والى طهران في النزاع السوري ،بأن هؤلاء مادام أتوا للمساعدة ،بناء على طلب سلطة معترف بها دولياً،فإن هؤلاء لايعتبر وجودهم غير شرعي أوغير قانوني ،وبالتالي لايمكن اعتبارهم قوى محتلة أومهيمنة أوخارقة أومتجاوزة للسيادة الوطنية،بل القوى المحتلة هي عند (الموالي)هي القوى النظامية لدول،مثل تركيا والولايات المتحدة الأميركية، الآتية من خارج الحدود من دون طلب السلطة المعترف بها دولياً،كماأن القوى غير النظامية الآتية من خارج طلب السلطة المعترف بها دولياً،مثل “النصرة”(مع مسمياتها اللاحقة)و”داعش” أو”تنظيم حراس الدين”الذي يعترف علناً بارتباطه بتنظيم القاعدة بعد فك ارتباط”القاعدة”بتنظيم القاعدة بعام2016،هي قوات عسكرية غير نظامية لاتملك أي شرعية دولية لوجودها بل هي انتهاك للقانون الدولي المعترف به من قبل منظمة الأمم المتحدة وهذا صحيح فعلاً.

عند الكثير من المعارضين،برز اتجاه منذ صيف2011نحو الاستعانة بالتدخل العسكري الخارجي ،إسوة بماجرى في العراق2003وليبيا2011،وذلك تحت مسوغات أن “هناك مشروعية لطلب الحماية الدولية ضد نظام يستخدم السلاح ضد معارضيه،أو مشروعية لطلب مناطق آمنة تقيمها وتحرسها قوات أجنبية”،من دون أن يعرف هؤلاء بأن هذا مخالف للقانون الدولي،وهم في الحقيقة منذ خريف2011شجعوا استخدام السلاح،بدعم من تركية وقطر ومع سكوت واشنطن،ضد السلطة وهم يعرفون بأن هذا لن يسقطها،فهم أرادوا من السلاح المعارض أن يكون مجرد عود ثقاب يضرم ناراً تولد حريقاً تأتي قوات خارجية وتتدخل لاخماده،كماجرى في ليبيا2011عندما تدخلت قوات حلف الأطلسي(الناتو)منذ ربيع2011حتى أسقطت نظام معمر القذافي في آب2011،وهناك أيضاً بدأت مظاهرات سلمية في شباط2011تدخل القذافي لاخمادها بعنف،فقام المعارضون بحمل السلاح.

هذا الاتجاه في المعارضة الذي برز في “المجلس”ثم في “الائتلاف”،سكت عن التطرف الاسلامي المسلح وقال العديد من ممثليه أن “جبهة النصرة جزء من الثورة”في عام2012ثم رفض هؤلاء الوقوف ضد “داعش”لماتشكل تحالف دولي واقليمي ضدها في عام2014و2015،وهؤلاء يتحالفون مع التركي الذي يحكم ويدير مناطق واسعة من الأراضي السورية وتتواجد قواته العسكرية هناك منذ عام2016،وهم لايقولون ولم يقولوا كلمة واحدة عن طرد السكان الكرد السوريين من مدينة عفرين ومنطقتها ومن مدينة رأس العين واحلال سكان سوريين آخرين تحت اشراف الأتراك الذين يريدون احداث فتنة وشرخ عربي- كردي في سوريا.

هناك حالات أخرى بين السوريين،ولوأنها تتوزع بين معارضين وموالين تجمعهم “نظرية المقاومة والممانعة”،ينظرون إلى الوجود الايراني العسكري والوجود العسكري لقوات حزب الله اللبناني وللوجود الروسي،من منظار أن هؤلاء جميعاً ينخرطون في جبهة عالمية ،تضم الصين أيضاً،تقف ضد أميركا واسرائيل،وبالتالي لايمكن تطبيق المعايير عليهم بل يجب أن تكون معايير (الاحتلال)و(الوجود غير الشرعي)تنطبق فقط على القوات العسكرية الأميركية والتركية،وهم كمايقفون مع موسكو ضد كييف في الحرب الأوكرانية ،فهم يقفون مع ايران ضد كل من تعاديه أوتتصادم معه حتى لوكان من العرب،وهم ينحازون في النزاع اليمني إلى الحوثيين الموالين لايران ضد الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً.

بالخلاصة:خلال ثلاث افتتاحيات ،قدمنا لأول مرة من قبل سوريين ، لقضية(تعدد المعايير عند السوريين) في النظر لأنفسهم وفي النظر للآخرين الذين يتواجدون عسكرياً في الأرض السورية وينخرطون بهذا الشكل أوذاك  في الأزمة السورية منذ عام2011.

نحن نريد من هذه الافتتاحيات الثلاث أن نقول بأن هناك أزمة سورية وطنية عامة تشمل كل السوريين تعكسها عملية وقضية (تعدد المعايير عند السوريين).


كيفيات العلاقة بين السلطة المستبدة والاصلاح (والضرورات)

في ظل سلطة استبدادية ، كانت متبنية لخطاب كلاسيكي يساري ، وتقوم دوما بإدارة الميزان المجتمعي وفق أجنداتها ، وفي ظل علاقات دولية معينة ، فإنها تحاول دوما بيع مواقف للقوى الدولية الكبرى مقابل حفاظها على مصدر رزقها ، والمتمثل بالسلطة السياسية .
في حال مواجهة ضغوط دولية للبدء بإصلاح اقتصادي ، فانها تقوم بوضع برنامج زمني وخطوات محددة لجعل الإصلاح الاقتصادي في حدود تضمن عدم إفراز قوى في بنيتها تشكل انقساما لها وحاملا لبديل ليبرالي يغير التركيبة الاجتماعية ويهدد وجودها .
أيضا تحاول السلطة المستبدة كما جاء أعلاه ، بحصر الإصلاح الاقتصادي ضمن دائرة تضمن عدم انطلاقه لمسارات أبعد وأعمق تجعل السلطة السياسية في تهديد وجودي من تحت ، لذلك تحاول ضبط إيقاع الإصلاح الاقتصادي دون أن يمتد لإصلاح سياسي جذري يغير تركيبة السلطة ، ويقوم المجتمع من خلال الإمكانيات التي وفرها الإصلاح الاقتصادي بإنتاج نظام سياسي بديل يجعل بها السلطة في إطار تداولي غير احتكاري ، وينتج بنية جديدة تتجاوز السلطة السابقة المستبدة .
في اطار ذلك تحاول السلطة المستبدة الإستعانة بقوى خارجية لتعديل الميزان المحلي ، للحفاظ على وجودها المادي في سلطة الدولة ، وتبيع مواقف للقوى الدولية الحليفة للحفاظ على بقائها ، بل ايضا تنخرط في أجندة تلك القوى الدولية إن لم تكن قد أضحت تابعة بسياساتها لتلك القوى .

وتستخدم السلطة المستبدة سياساتها لتلبية حاجات فئات معينة في المجتمع ، لكسب رضا محلي ما ،  ولضمان عدم اتحاد قوى محتمعية اساسية لإنتاج بديلا ما يتجاوز من هم في السلطة القائمة ، بالتالي تدير تحالفاتها الاجتماعية لتوفير شروط البقاء في السلطة ، من خلال كسب مشروعية محلية ، تكون بتلبية بعض حاجات او الحاجات لفئات معينة على حساب فئات اخرى ، تشكل قوة رئيسة في اعادة ضبط العلاقات المجتمعية وتحديد مآلاتها ، وبالتالي ضمان بقاء المجتمع ضمن حدود لا يشكل خطرا على من هم في السلطة السياسية .

الحالة الاستبدادية في ممارسة السلطة ، هي تعتبر نتاج للعلاقات المجتمعية المحلية ، وتلبية لشروط دولية قائمة، ومنتوج طبيعي لتأخر المجتمع المحلي ، وضعف أو غياب المجتمع المدني الحديث وانقسامه وعدم وصوله للنضج المطلوب .
لذلك يعتبر إفراز المجتمع المدني الحديث ضرورة ملحة لتجاوز العلاقات الاستبدادية والأبوية والقبلية ، وضروري لمراقبة من هم في السلطة السياسية ، ولتمكين الفئات المنتجة والمجتمعية من إدارة مصالحها وعلاقاتها في ظل شروط صحية ، ولإنتاج وإعادة إنتاج نظام سياسي حديث يضمن الحريات العامة والشخصية ، ويوفر ظروفا أفضل لممارسة الحقوق المدنية ، وحصر قوى الإساد والفساد والإستبداد، ولتحديث البنية الاجتماعية بشكل ديمقراطي وناضج .


المعارضة السورية في ثلاثة عشر عاماً 

محمد سيد رصاص

“نورث برس”،13\3\2024

عقب ماجرى في تونس ومصر ومع توقع عدم استمرار الوضع السوري القائم أطلقت الأمانة العامة ل”اعلان دمشق” في يوم25شباط\فبراير2011 النداء من أجل دعوة “جميع قوى المعارضة على أمل اللقاء في لجنة وطنية للتنسيق من أجل التغيير ، تنسق المواقف، وتخطط للنشاطات وتديرها ” .

في فترة مابعد درعا18آذار\مارس2011، ومانشأ من مشهد سوري جديد بفعل مظاهرات حصلت في محافظات سورية عديدة ، كان برنامج (التغيير الوطني الديمقراطي) يجمع كل أطراف المعارضة السورية ، ومن أجل تفادي مشهد الثمانينيات لماانقسمت المعارضة السورية بين الاسلاميين والديمقراطيين كانت فكرة “اللجنة الوطنية للتنسيق” التي أطلقت في نداء 25شباط هي أقرب للدعوة إلى جبهة عريضة للمعارضة ، وفعلاً في يوم9أيار\مايو 2011وزعت سراً على أطراف المعارضة السورية:”اعلان دمشق” و”التجمع الوطني الديمقراطي” و” تجمع اليسار الماركسي- تيم” و” المجلس السياسي الكردي ” و “حزب الاتحاد الديمقراطي- ب . ي . د)، وعلى خمسة وثلاثين شخصية  مستقلة بعضها من الاسلاميين، وثيقة حملت عنواناً هو:” نحو ائتلاف عام للتغيير الوطني الديمقراطي” .

خلال الأيام الفاصلة بين الوثيقتين كان مطلب (التغيير) مرفوقاً بالدعوة إلى (حوار وطني شامل) وهو ماكان بالحرف موجوداً في وثيقة “اعلان دمشق”.، ولم تكن هناك دعوات إلى ” اسقاط النظام ” بالوثيقتين . ولكن في 15أيار\مايو انتقل “اعلان دمشق” نحو طرح جديد في بيان علني يقول بأن “الحديث عن الحوار في ظل اصرار النظام على خياره الأمني يعتبر موقفاً خاطئاً”.

خلال أربعون يوماً فصلت بين 15أيار و25حزيران يوم قيام “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي”، والتي هي وليدة نداء 25شباط ، وضح أن امكانية قيام جبهة عريضة للمعارضة أصبحت غير ممكنة ، فمن وقع على وثيقة تأسيس” الهيئة ” كان  العروبيون والماركسيون واليسار الكردي، فيماتبلور اتجاه معارض آخر ،ضم ليبراليوا “اعلان دمشق” والاسلاميون ،  اتجه نحو تشكيل “المجلس الوطني”الذي أعلن عنه في اسطنبول بيوم2تشرين الأول\أوكتوبر،وكان الاتجاه الأخير يحمل شعار “اسقاط النظام” و”طلب الحماية الدولية” بالترافق مع انخراط الاسلاميين بالمجلس في تمويل وتنظيم الفصائل المسلحة المعارضة التي بدأت بالظهور منذ خريف ذلك العام.

هذا الانقسام الذي ظهرت معالمه في الصيف جرت محاولة لتجسيره لماجرت محادثات في الدوحة في الأسبوع الأول من أيلول\سبتمبر،بين “الهيئة”و”اعلان دمشق”و”الاخوان المسلمون”،وفشلت بسبب رفض الاعلان والاخوان تضمين مطلبي (رفض التدخل العسكري الخارجي)و(إدانة العنف من أية جهة أتى) في الوثيقة للجسم الجديد المقترح للمعارضة الذي أسمي بالمسودة باسم “الائتلاف الوطني السوري” ، ثم فشلت المحاولة الثانية بين “المجلس ” و”الهيئة” لمارفض المكتب التنفيذي للمجلس وثيقة 30كانون أول\ديسمبر2011التي وقعها رئيسه الدكتور برهان غليون مع نائب المنسق العام للهيئة الدكتور هيثم مناع في القاهرة . وبين التاريخين اتجهت الأحزاب الكردية إلى تشكيل “المجلس الوطني الكردي”بيوم27تشرين الأول\أوكتوبر،وكان ملفتاً بقاء “حزب الاتحاد الديمقراطي” في هيئة التنسيق وعدم اتجاهه نحو جسم فئوي قومي خاص مثل “المجلس الوطني الكردي” (حزب الاتحاد الديمقراطي قام بتجميد عضويته في هيئة التنسيق بكتاب يحمل تاريخ 7\1\2016) .

لم تكن الخلافات تنظيمية بين الاتجاهين المذكورين في المعارضة السورية ،حيث كانت “الهيئة” منذ مؤتمر حلبون في 17أيلول تطرح مرحلة انتقالية تتشارك فيها السلطة والمعارضة في “مرحلة انتقالية تتولى السلطة فيها حكومة وحدة وطنية تتمتع بكل الصلاحيات اللازمة لقيادة الانتقال نحو النظام الجديد المنشود”(وثيقة:”الانتفاضة – الثورة:المخاطر وطريق التغيير”،البند السابع).، فيماكان تحالف الاسلاميين والليبراليين في “المجلس” يطرح بدل (المطلب التغييري الانتقالي)مطلب (اسقاط النظام) بالترافق مع ميول عندهم نحو المراهنة على التدخل العسكري الخارجي وتشجيع العنف المعارض في زمن كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يرعى تحالفاً أميركياً مع تركية الأردوغانية ويؤيد تولي الاسلاميين للسلطة في تونس بخريف2011ثم مصر في صيف2012.

هذا الانقسام بين اتجاه “تغييري انتقالي للسلطة ” و”اتجاه اسقاطي للسلطة” مازال قائماً في المعارضة السورية  حتى أيامنا هذه ، وبداية هذا الانقسام ظهرت منذ خريف2011، وكانت بذوره في أيار 2011. تمظهر هذا الانقسام في الموقف من “مبادرة الجامعة العربية”(2تشرين الثاني2011) ومن “بيان جنيف1″(30حزيران2012) وهما يدعوان إلى حل تغييري انتقالي،حيث رفض “المجلس” المبادرة العربية وبيان جنيف وهو ماتابعه “الائتلاف”الذي هو وريث المجلس منذ خريف2012،وحتى عندما شارك “الائتلاف” في الوفد المفاوض المعارض في (مؤتمر جنيف3)، بالربع الأول من عام2016، بمحادثات أجريت مع الوفد الحكومي السوري من أجل تنفيذ القرار الأممي2254(18كانون الأول2015)،برعاية أميركية – روسية وهو يحوي خريطة طريق لمرحلة انتقالية تغييرية ، فإنه سرعان ماشارك رياض حجاب في تفشيل المفاوضات بتشجيع تركي.

يمكن هنا لملمة ماسبق: “اعلان دمشق” و”الاخوان المسلمون”، ثم جسمهما التحالفي المشترك في “المجلس”ووريثه “الائتلاف” ، لم تصب كراتهم شباك المرمى ولامرة واحدة ولاحتى أخشاب المرمى الثلاث خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية ، هذا إذا استخدمنا مصطلحات كرة القدم، وكانت قراءتهم للسياسة بعيدة عن مبدأ :”إدارة الممكنات من أجل تحقيق الهدف”، وكانت قراءاتهم للجو السوري والجوين الدولي والاقليمي لاتلامس الوقائع وتوازنات القوى ولااتجاهات الرياح حتى عند الحلفاء فكيف بالخصوم . ويمكن هنا تذكر موقف رئيس “الائتلاف ” معاذ الخطيب في مؤتمر مراكش ل”مجموعة أصدقاء سوريا”(12\12\2012) لمااعتبر “جبهة النصرة جزء من الثورة” أمام الحاضرين ومن ضمنهم نائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز، ثم كرر الموقف ذاته باليوم التالي نائبه جورج صبرة بحديث تلفزيوني مع محطة أميركية ، في وقت كانت واشنطن مصدومة بمقتل السفير الأميركي في ليبيا على أيدي اسلاميين مرتبطين بتنظيم “القاعدة”، وهو مادفعها قبل خمسة ايام من مؤتمر مراكش لتصنيف “جبهة النصرة” المرتبطة بتنظيم القاعدة “منظمة ارهابية”، ثم تكررت الصدمات لواشنطن  بالمواقف الصادرة من” الائتلاف” لمارفض النداء الأميركي في فترة 2014-2016بأن  يكون صاحب موقف مضاد من “داعش” في وقت شكلت فيه واشنطن تحالفاً دولياً ضدها .

كان موقف “مجلس سوريا الديمقراطية- مسد”و”قوات سوريا الديمقراطية- قسد” في الانخراط في الجهد ضد ” داعش ” قراءة مطابقة للجو الدولي ولاتجاه الرياح الدولية، مثلما كانت قراءة “هيئة التنسيق” مطابقة في قراءة الجو الدولي – الاقليمي نحو الحل الانتقالي منذ عام2011، و” الهيئة ” و” مسد ” اجتمعا أيضاً منذ عام2016على الحل السياسي الانتقالي . والأرجح أن هذا ماجمعهما في وثيقة التفاهم الثنائية الموقعة بينهما في 24حزيران2023، ثم فرقتهما الخلافات حول “وثيقة العقد الاجتماعي”، كمافرقتهما قضية طرح (الفيدرالية)التي طرحتها “الإدارة الذاتية”في عام2016.

كانت وثيقة 24حزيران2023جهداً أولياً من أجل تشكيل “القطب الديمقراطي”، الذي كان يؤمل أن يضم كل المعارضين غير الاسلاميين، بعد أن فشل الاسلاميون ، الذين تصدروا المعارضة السورية، بتشجيع أميركي- تركي، منذ خريف2011، وفي لقاءات لمعارضين سوريين كثر مع أطراف دولية واقليمية كان يلمس تغير الجو الدولي – الاقليمي من الاسلاميين باتجاه النبذ والسلب وضرورة تغيير مافعله أوباما وأردوغان لماساهما في جعل الاسلاميين في واجهة المعارضة السورية ، وقد كان امساك الاسلاميين بمقود مركب المعارضة السورية سبباً رئيسياً في فشل المعارضة السورية خلال ثلاثة عشر عاماً مضت.

حديث في السياسة

من أصعب الأمور أن تكتب في السّياسة في منطقةٍ هي أشبه بالرّمال المتحركة والّتي لاتعرف مصادر الرّياح التي تحركها ولا إلى أين هي وجهتها ولكن وكما هي الحال مع سيلٍ متدفّقٍ على غير هوىٍ فإن من يحدّد مسار تحرّكه هي تضاريس الأرض الّتي يتحرك بها .فإنّ من يحدّد مسارالسّياسة في هذه المنطقة هو تضاريسها السّياسية بلا شكٍ والتي تعبّر عن تشابك مصالحَ إقليميٍّ ودُوليٍّ هو على غايةٍ في التّعقيد ولكنّه أيضاً يسهل إكتشافه وحل ألغازه إذا ماإنتبهنا للخيط الخفيّ الّذي يربط بين مكوّناته كلّها كما هو التّشابك بين العلوم كافّةً فالّذي يفكّ شيفرة هذا التّداخل هو الّذي نسمّيه فلسفة العلم كذلك هو الأمر بالنّسبة لما يجري على صعيد المنطقة فله أيضاً فلسفته الّتي علينا معرفتها لنستطيع فكّ شيفرتها بشكلٍ أقرب إلى الحقيقة منه إلى التحليل البسيط الّذي تسوّقه أجهزة الإعلام من هنا وهناك.

سوريّا هي الحصان والعربة هي القاطرة والمقطورة هي اللاعب الرئيس والملعوب به الرئيس هي لغز التّناقضات كلّها لما يجري في المنطقة والعالم لماذا ؟

لنبدأ من الأهم تاريخيّاً الّذي هو محاولة محمّد علي باشا تحطيم دولة الخلافة العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر تلك المحاولة الّتي فتّحت عين أوروبّا وانكلترا تحديداً على خطورة مثل هذه المحاولة على مصالحها في المنطقة والعالم إذ لايخفى إلّا على الجاهل في علوم التّاريخ مالهذه المنطقة من أهميّة إستراتيجيّة على صعيد العالم كلّه زد عليها الآن اكتشاف الغاز والنّفط بكميّاتٍ هائلةٍ فيها
تلك المحاولة الّتي أرادها محمّد علي باشا نقطة إرتكازٍ لبناء دولة قويّة تحتلّ قلب العالم كما كانت في العهدين الأموي والعبّاسي ولمّا كان الغرب على قدرٍ من القوّة والرّؤية الإستراتجيّة أدرك لساعته مدى خطورة مثل هكذا محاولةٍ على مصالحه في الشّرقين الأوسط والأقصى وشبه القارة الهنديّة وإفريقيا فسارع بلسان بريطانيا إلى تهديد محمد علي بأنّ الحكم لن يكون من بعده إلى أولاده إذا لم يسارع إلى سحب جيوشه التي كانت تحاصر الآستانة بقيادة إبنه إبراهيم باشا ولأنّ محمّد علي باشا لم تكن الرّؤية الإستراتييجيّة العميقة لمصالح المنطقة فضّل الانصياع لرغبات أوروبّا وانكفأ جيشه عائداً إلى مصر وتمّ بذلك إغتيال مشروعٍ لو تمّ وإكتمل لتغيّر وجه المنطقة والعالم

تلك فترةٌ عبرت وعبرت معها هذا الشرق الأوسط التّعيس مرحلتي الإستعمارين العثماني والأوروبّي لتنال دوله المستحدثة إستقلالات هي أشبه بفسحة التنفس للسّجناء في ساحة السّجن
دفع الغرب بمشاريع كثيرةٍ إلى المنطقة من حلف بغداد إلى مشاريع وِحداتٍ كان الهدف من إطلاقها هو إسقاط فكرتها نهائيّا من اللاشعور الجمعي لشعوب المنطقة وتمّ زرع إسرائيل لتكون كلب الحراسة الأقوى في المنطقة الّذي يسهر على حماية مصالح الغرب في هذه المنطقة.
هنا علينا أن لاننسى أن الغرب يعي تماماً أن إسرائيل وتركيا دولتان مقامتان على أراضٍ ليست لهما فتركيا قامت على أنقاض الدّولة البيزنطيّة المشرقيّة وإسرائيل قامت على أنقاض فلسطين الجزء الجنوبي من سوريّا فالأتراك ويهود إسرائيل هم شعبان ليسا من أصول المنطقة ولذلك هما شعبان مكروهان تاريخيّاً من كلّ شعوب المنطقة بما فيها الشّعب الرّوسي الّذي خاض مع العثمانيين حرب الأربعين عاماً .

لذلك نجد أنّه من الطّبيعي جدّاً ووفق منطق التّاريخ والمصالح أن يكون العثمانيّون ويهود إسرائيل في تحالفٍ دائمٍ بغض النّظر عن إدّعاءات العثمانيين الإسلاميّة وأنّه كان ومايزال من الخطأ أن نعتبر الأتراك يمكن أن يكونوا في يومٍ من الأيام مع المسلمين العرب ضدّ يهود إسرائيل لأن البعد القومي العميق عند الأتراك  دفعهم للتّحالف مع الألمان في الحرب العالميّة الأولى وقبض ثمن سكوتهم في الحرب العالميّة الثّانية بعضاً من أرض بلاد الشّام التّاريخيّة أعني كيليكية وإسكندرونة حتّى ديار بكر.
وفي الوقت عينه هناك عدم ثقةٍ عميقٍ من الغرب تجاه هذين الشعبين الأتراك ويهود إسرائيل والدّليل مايجري الآن في الكواليس ومنذ ثورة الخميني في إيران على ترويض المنطقة لتكون في القبضة الفارسيّة العريقة تاريخيّاً والتي هي أقرب حضاريّا وفلسفيّاً إلى الغرب من هذين الشّعبين.
هنا تبدو سوريّا ومع ظهور الصّين وعودة روسيّا إلى الساحة الدُّولية وكأنّها بيت القصيد لماتريده كلّ هذه القوى أكانت مجتمعةً أم فرادى.

توافق المسار بين تراجع حركة التحرر العربية واختزال جوهر وماهية قضية الأمة المركزية

حبيب حداد

منذ مطلع السبعينات وكما رأى المفكر العربي سمير أمين ، في كتابه ( أزمة المجتمع العربي ) دخلت المنطقة ،وحركة التحرر العربية بصورة عامة، في مرحلة تراجع وانحسار متواصلة وذلك في أعقاب سقوط النظامين الوطنيين التقدميين في كل من مصر وسورية بفعل الجناح العسكري اليميني في كل منهما . وكما هو معروف للجميع فقد تتالت التراجعات والانهيارات على صعيد حركة التحرر هذه مرورًا باتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو إلى حروب الخليج واحتلال العراق وتدمير دولته إلى الانتفاضات الشعبية العربية التي غدر بها وتم حرفها عن مساراتها ومن ثم إجهاضها حتى وصلنا إلى الحال التي تعيشها أمتنا اليوم.

ولعل أخطر ما اتسمت به حركة التراجع والارتداد تلك هو ما استهدف القضية المركزية اي القضية الفلسطينية ،سواء على صعيد وعي ماهيتها وما تمثله من أولوية بالنسبة لأهداف الأمة ومستقبلها المأمول، ام على صعيد الأساليب التي ينبغي انتهاجها والوسائل التي يتوجب استخدامها في سبيل التوصل للحلول الناجعة لها . فلم يكن التغير الذي حدث في فهم أبعاد هذه القضية الوطنية الإنسانية ، وفي طبيعة ومحتوى الصراع الذي يكفل تحقيق الحل العادل لها مجرد تغير في التعبير والشكل والتسميات لكنه كان في حقيقته وكما برهنت على ذلك كل التطورات اللاحقة تغيرًا وتراجعًا في فهم جوهر وأبعاد هذه القضية العادلة ،وترافق ذلك كما هو معروف بتغير وتراجع في استخدام الأساليب الصحيحة التي تكفل إنجاز الحل العادل لها.

هكذا انتقلت تسمية القضية الفلسطينية والتعبير عنها من كونها القضية المركزية للأمة وحركتها التحررية إلى كونها إحدى القضايا التي تواجهها الامة ، ومن ثم الى التعبير عنها بالمسألة الفلسطينية وبعد ذلك  بالمشكلة الفلسطينية … أي المشكلة التي تستدعي من الأنظمة العربية الحاكمة بالتوافق مع السلطة الفلسطينية الحالية التوصل إلى اي حل لها ،الحل الذي لا يعبر عن إرادة شعوبها ،والذي يخدم مصالح هذه الأنظمة واستمرار وجودها إلى أطول امد ممكن.

أما عن أسلوب الكفاح الذي ينبغي أن تعتمده  شعوب الأمة لتحرير فلسطين فقد تغيرت هويته أيضًا وترافقت بتبدل النظرة إلى طبيعة وجوهر هذا الصراع في تلازم مع تراجع مسار الكفاح التحرري النهضوي لشعوب هذه الأمة. فقد انطلقت بدايات هذا الصراع من وعي سليم لهذا الكيان في مواجهة ابعاده ومراميه والوظيفة التي اصطنع كي يضطلع بها في قلب هذه المنطقة الإستراتيجية من العالم . فهو صراع حضاري ،صراع وجود لا حدود ، كما كنا نعبر عن ذلك . وان الحل الصحيح لمواجهة هذا المخطط الصهيوني الاستعماري إنما يستدعي إقامة دولة ديمقراطية علمانية واحدة في فلسطين لجميع سكانها الأصليين. وبعد ان كان عنوان وطبيعة هذا الصراع في مسار حركة التحرر العربية: الصراع الصهيوني العربي تراجعت تسميته لتأخذ صيغة الصراع الاسرائيلي العربي وبعدها وتعبيرًا عن مواقفها انتقلت الانظمة العربية الحاكمة ومعها القوى الرجعية والمعادية باستخدام الصيغة: الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ،ولعل مانشهده منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى البطولية ومدى تخليها عن أبسط دواعي التضامن الإنساني مع شعب غزة ما يفضح طبيعة الدور الذي باتت تضطلع به هذه القوى والانظمة … وكما يقال فان ما كان يستقر في الأذهان أصبح يعبر عنه في العيان!

واضح إذن كيف تفصح مسيرة التراجع والارتداد هذه عن مسار حركة التحرر العربية وقضيتها المركزية المرحلية أي القضية الفلسطينية وعن طبيعة الدور المتواطئ للأنظمة الحاكمة وكل القوى الرجعية والمعادية في المخططات والمشروعات التي تتوالى منذ سنوات تحت مختلف العناوين والتسميات لتغتال إرادة التحدي والصمود وتجهض كل عوامل ومقومات بناء المستقبل الحضاري المنشود لهذه الأمة.

في نقد اليسار، نحو يسار عربي جديد

محمد علي مقلد

تحت وطأة انهيار التجربة الاشتراكية ومعسكرها انقسم اليسار في العالم وفي العالم العربي وتوزع على ثلاثة تيارات رئيسية : تبرأ تيار أول من ماضيه الفكري والنضالي والسياسي محملا رواد التجربة من ماركس ولينين إلى كل القادة التاريخيين في الحركة الاشتراكية مسؤولية الأخطاء النظرية والتطبيقية، نافيا أية فضيلة لتلك التجربة؛ ولجأ تيار ثان إلى نظرية المؤامرة ليفسر أسباب الفشل، متمسكا بحرفية التجربة ومبرئا قادة الفكر والنضال الاشتراكي من أية مسؤولية عن الانهيار، فيما انكبّ آخرون على نقد التجربة وتقويمها واستخلاص العبر منها ، إلى أن جاء الربيع العربي ليكشف بشكل لا لبس فيه أن اليسار، الذي كان غائبا كتنظيمات حزبية عن الثورة على الاستبداد ، كان حاضرا من خلال المشاركة الفاعلة ليساريين من كل الأطياف، ممن تخلوا عن روابطهم التنظيمية وأقاموا على ضفاف الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها، أو ممن تمردوا على قرارات أحزابهم الداعمة لأنظمة الاستبداد، كما كان حاضرا، وهذا هو الأهم، من خلال القيم السياسية والثقافية التي عمل على نشرها قبل الانهيار، وبذلك شكل الربيع العربي منعطفا عمليا في نقد ماضي اليسار، موجها الدعوة إليه صريحة ليعيد رسم مستقبله، موفرا للمفكرين والمناضلين فرص الاستفادة من الثورة الشبابية واستخلاص الدروس السليمة منها.
لقد انطلقت ورشة النقاش النظري حول مستقبل اليسار والاشتراكية ، وانخرط فيها فلاسفة ومؤرخون واقتصاديون متحدرون من التراث الماركسي . غير أن هذه الورشة افتقرت إلى الحد الأدنى من التنسيق والإدارة الكفيلة باستخلاص النتائج النظرية وترجمتها إلى لغة سياسية وشعارات ومهمات نضالية . إن الجهة الصالحة لإدارة النقاش ولعب الدور التنسيقي والانخراط في الصراع الإيديولوجي المفتوح على مداه ، بعد سقوط الأصوليات الماركسية والقومية والدينية ، هي يسار عربي جديد يعيد قراءة كل التراث النظري والمصطلحات المتعلقة بالثورة والصراع الطبقي ، ويعمل على تأصيلها وتبيئتها وتلقيحها بمعطيات العلوم والمعارف الحديثة .
بزوال المعسكر الاشتراكي زالت الحدود السياسية والجغرافية من حلبة الصراع العالمي وتخلخلت القيم والمعايير وتشوشت الحدود بين اليسار واليمين، ولا سيما بعد أن سيطرت الأحادية القطبية ، وشاركت حكومات يسارية أوروبية وأنظمة محسوبة على الحركة القومية العربية في المعارك التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية في يوغسلافيا وفي حرب الخليج الأولى ، وقد تفاقم هذا التشوش مع انتشار نظريتي نهاية التاريخ وصراع الحضارات اللتين سرعان ما بهت وهجهما لتنقشع حقائق أخرى كان من أهمها:

1. شكل سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية خسارة كبرى على كل الشعوب المستضعفة التي كانت ترى فيهما سندا في مواجهة الرأسمالية المتوحشة ومنظماتها الاقتصادية والمالية ، وخسارة أيضا على كل الأحزاب الملتحقة بهما في برامجها وسياساتها وأولويات مهماتها، والتي تيتمت بغيابهما ، بعد أن غلبت عليها صفة ” اليسار الدولي” على حساب وجهها الوطني و المحلي. غير أنه قد يكون من الآثار الإيجابية للانهيار وضع اليسار أمام مسؤولياته التاريخية في أن يتحرر من التبعية ويصبح أكثر ثقة بالنفس فيعطي الأولوية للتناقضات الطبقية والسياسية الداخلية، ويعيد النظر بدوره وبخريطة تحالفاته ورسم سياساته في مناهضة النظام العالمي الجديد، وأن يكون شريكا في المبادرة لبناء أممية جديدة على أنقاض الأممية السابقة.
لقد بدا لشعوب المنظومة الاشتراكية وشعوب العالم الثالث المتحالفة معها أنها دخلت ، بعد الانهيار، مرحلة جديدة تعتمد على( أو تطمح إلى) بناء أنظمة تقوم على الديمقراطية واحترام الحريات السياسية وحرية المبادرة الاقتصادية والاستثمارات المالية . ولئن كانت هذه التحولات قد ظهرت في إسبانيا واليونان وأوروبا الشرقية وفي دول من أميركا اللاتينية قبل الانهيار وبعده ، فهي انتظرت الربيع العربي ليطلق عملية التحول هذه في منطقتنا.ولم يحصل الانفتاح على الديمقراطية والحريات السياسية من دون خسائر، بل ترافق مع انهيار مجموعة من المكاسب والقيم التي كانت قد حققتها الانظمة الاشتراكية لشعوبها وساعدت شعوبا أخرى على تحقيقها، كما ترافقت التحولات مع حالة من عدم الاستقرار لا يمكن التكهن بمداها وبتعقيداتها ، وسيكون ذلك رهنا بدور محوري ينبغي أن يلعبه اليسار في البلدان التي حصلت فيها انتفاضات أو ثورات أو تغييرات سلمية.

2. على أنقاض اليسار العالمي المنهار نشأ نظام عالمي أحادي ، تمثل بسيطرة اقتصادية للرأسمالية العالمية ، معززة بإيديولوجية نهاية التاريخ وصراع الحضارات، التي سرعان ما كشف زيفَها تفاقمُ أزمتيها المالية والاقتصادية اللتين عصفتا بالمراكز الرأسمالية الكبرى، وتفاقم أزمتها السياسية، بعد أن تبددت أوهام السيطرة الأحادية على العالم وظهرت كلفتها العالية. أما وقد انجلى غبار الانهيار وخفت ضجيج السيطرة الإمبريالية وبهت وهج أيديولوجية نهاية التاريخ ، فقد بات من الملح أن يخرج اليسار من ذهوله وانكفائه ، ليواكب ولادة جيله الثالث ، بعد جيله الأول الذي استلهم من الثورة الفرنسية إسمه ومضمونه ، وجيله الثاني الذي نشأ في حضن الثورتين السوفياتية والصينية .إن على هذا الجيل الثالث أن يبدد نوعين من الأوهام، الفوكويامية القائلة بنهاية التاريخ، والسوفياتية القائلة بأن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية، ويرسم خطة أكثر واقعية وملموسية تظهر فيها بوضوح خصوصيات البلدان والمجتمعات والدول ، بديلا عن الوصفات الجاهزة التي اعتمد اليسار تطبيقها في كل زمان ومكان.

3. اثبت انهيار التجربة الاشتراكية المحققة من جهة، وتفاقم الأزمات الدورية للرأسمالية من جهة أخرى، أن اليسار في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الماركسية منهجا علميا لتفسير العالم ومرشدا نظريا لتغييره ، وقد أكد هذه الحاجة إقبال غير مسبوق، من اليسار ومن سواه، على ما كان قد كتبه ماركس عن الرأسمالية قبل قرنين، وذلك بحثا عن تفسير لآخر الأزمات المعاصرة التي عصفت بالاقتصاد العالمي. غير أن هذه الحاجة تتطلب أولاً قراءة غير أحادية للماركسية، تتفادى التعميم السوفياتي وتسعى إلى استخدام ما تضمنه منهجها من قوانين علمية، وتخليصها من الأفكار الإيديولوجية التي أثبتت الوقائع عقمها أوعدم جدواها، إما بسبب التأويلات المتعسفة أو بسبب بلوغها حدودها التاريخية ؛ كما تتطلب ثانيا الكف عن الاعتقاد بإن الماركسية هي نهاية تاريخ العلوم والمعارف، والعمل بالتالي على تجديدها وتحديثها، وذلك بوصلها بكل المعارف والعلوم التي تغني النظرية وتمنح مصطلح الثورة مدلوله الحقيقي بعد أن شوهته الانقلابات الفوقية التي قادها ضباط أو معممون أو رجال مخابرات، واقترنت بالعنف والارهاب وممارسة الاستبداد، واقتصر التغيير فيها على تبديل المواقع في هرم السلطة، كما يتطلب تجديدها وتحديثها إعادة النظر بكل المفاهيم المتعلقة بالثورة والتغيير والطبقة العاملة والبروليتاريا والصراع الطبقي، الخ . وشحنها بمدلولات ومضامين جديدة على ضوء العلوم والمعارف والوقائع والمعطيات الحديثة في العالم.

4. التزاما منه بأولويات الصراع العالمي بين المعسكرين ،غلّب اليسار الشيوعي العربي التناقضات الخارجية على التناقضات الطبقية الداخلية ، فاتسعت مساحة العمل المشترك مع الحركة القومية العربية ونشأت أشكال من التعاون والتنافس والصراع والتلاقح ، فتمركست تيارات قومية ، وتخلت أحزاب شيوعية ، في المقابل، عن الجانب الطبقي من صراعها الداخلي أو جعلته في آخر قائمة أولوياتها، وتشوه بفعل ذلك المضمون التقدمي لفكرة اليسار، ونشأ تحالف هش في مواجهة “الإمبريالية والصهيونية والاستعمار” دفع اليسار كلفته غاليا، بعد أن استولى حلفاؤه على خصوصيته اليسارية والاشتراكية والأممية وحددوا له حجم مشاركته في حمل الهموم القومية من موقع هامشي غير موثوق وغير ثابت ، وانتظروا لحظة الانهيار ليستكملوا تقاسم ثروته البشرية والثقافية والنضالية .

5. لقد انصب اهتمام ماركس على الجانب الاقتصادي من تطور الرأسمالية سعيا وراء تفسير التاريخ واستخراج قوانينه، ولذلك خلت الكتابات الماركسية من بحوث في السياسية توازي ، في عمقها، بحوثها الاقتصادية. كما أن لينين، من جانبه، لم ينطلق من نضج الظروف اقتصادية ، بل اقتنص لحظة سياسية كانت فيها الدول الرأسمالية في ذروة تناحرها ، لينآى بروسيا عن الحرب العالمية ويبني فيها نظاما جديدا مستلهما من أدبيات الفكر الماركسي ، فاقترن نجاح الثورة بالوصول إلى السلطة فحسب ، وجرى تأويل أفكار ماركس المبعثرة عن الدولة تأويلا أيديولوجيا مفاده القضاء على الدولة ( الرأسمالية ) بدل النضال والعمل على تأمين الشروط المادية لاضمحلال الدولة (الدولة بالمطلق بما في ذلك الدولة الاشتراكية) . وذلك من أجل بناء مجتمع( فاضل) اشتراكي يمهد لقيام المجتمع الشيوعي.

6. أثبتت نتائج الانهيار أن التجربة الاشتراكية قصرت عن الرأسمالية في تطوير القوى المنتجة لكنها تفوقت عليها في توزيع الثروة توزيعا خفف من حجم الكوارث الاجتماعية الناجمة من التفاوت الطبقي داخل بلدان العالم الراسمالي ومن التطور اللامتكافئ بين مركزه وأطرافه. ولذلك بات على اليسارالعربي اليوم ، بعد أن بنى برامجه على هاجس الاستقلال الاقتصادي وفك التبعية عن الاستعمار(عن الرأسمالية)، أن يناضل لتحسين شروطه داخل الرأسمالية، مستندا إلى كتلة ضخمة من الدراسات الاقتصادية وضعها مفكرون تقدميون ماركسيون من العالم العربي ومن كل العالم، ومسترشدا بها لإعادة بناء مشروعه الهادف إلى تجاوز النظام الاقتصادي في الرأسمالية ، ومسترشدا أيضا بتجارب عالمية تميزت بطابع اشتراكي في بعض بلدان شمال أوروبا ولا سيما السويد والدنمرك وبعض بلدان أميركا اللاتينية ولا سيما البرازيل ، وبتجربة الصين التي اعتمدت، بديلا عن اقتصاد السوق والاقتصاد الموجه ، نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي، الخ. وكذلك بتجارب البلدان التي تحولت من الاشتراكية إلى الرأسمالية في أوروبا الشرقية ، كل ذلك بحثا عن حلول اقتصادية مرحلية مناسبة لبلدان العالم العربي منفردة ومجتمعة.

7. بتركيزه على الجانب الاقتصادي، أغفل اليسار كون الرأسمالية منظومة كاملة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفنية ، الخ. شكلت ، بحسب ماركس، بديلا ثوريا تقدميا من منظومة أخرى كانت سائدة في حضارة العصور الاقطاعية ، وبالتالي فإن تجاوزها لا يتم بالتبسيط الذي تخيله اليسار العالمي ، بثورتيه السوفياتية والصينية ، أي بمجرد استلام قوى سياسية جديدة ، تزعم تمثيلها لليسار، السلطة عن طريق الثورة المسلحة أو الثورة الثقافية أو الثورة الجماهيرية، أو بانقلاب يقوده ضباط أو معممون أو زعماء قبائل، بل هو عملية معقدة طويلة الأمد لا تتحقق إلا عندما تبلغ الرأسمالية حدودها التاريخية وتنضج ظروف بديلها الثوري التقدمي التاريخي كحضارة، أي كمنظومة كاملة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفنية قد تحمل الإسم الذي أطلقه عليها ماركس : الاشتراكية. هذه المنظومة الجديدة التي تمهد لاضمحلال الدولة تستند إلى نمط من علاقات الانتاج المادي والروحي تتضافر فيه كل مقومات الحضارة الجديدة وتلعب فيه منظومة القيم الأخلاقية دورا مركزيا بديلا عن القوانين الوضعية أو مساعدا لها ورقيبا عليها. إن القيم الأخلاقية في الاشتراكية تلعب دور القوانين في الدولة الرأسمالية. هذه العملية المعقدة تحتاج إلى يسار لا تقتصر مشاركته على النضال ضد على الرأسمالية والعمل على تجاوزها فحسب، بل إلى أنضاج بدائلها .

8. انطلق اليسار من الاعتقاد بأن العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية ، ورسم برامجه وحدد جبهة أعدائه وجبهة حلفائه على هذا الأساس ، فكان من أثمان ذلك ، مع استثناءات قليلة لا تغير في طبيعة المشهد العام، تماهي اليسار العربي بالحركة القومية العربية والنضال تحت عباءتها والتخلي عن خصوصيته وتمايزه عنها. وإذا كان من مآثر تلك الحركة مجابهتها الوجود الاستعماري المباشر وتحقيقها انتصارات كبرى من أهمها استقلال الجزائر ومواجهة العدوان الثلاثي على مصر وحصول معظم البلدان العربية على استقلالها خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية ، غير أن هذه الحركة فشلت في مواجهة المشروع الصهيوني الذي اقتلع الفلسطينيين من أرضهم وأسس دولة توسعية عدوانية وهدد مصالح الشعوب و الدول المحيطة تهديدا مباشرا ، وسائر الدول العربية تهديدا غير مباشر، كما فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة في الوحدة والحرية والاشتراكية ، وأوصدت كل الأبواب أمام تطلعات الشعوب العربية إلى التقدم والدخول في حضارة العصر التي كانت أوروبا قد استلمت رايتها ، بعد أن حملتها الحضارة العربية ، في إطار سباق البدل، مدة ألفية من الزمن. ومع هذا الفشل أطبقت على العالم العربي من محيطه إلى خليجه أنظمة سياسية ترقى إلى حضارة سابقة، وتقوم على توارث السلطة وإحاطتها بنوع من القداسة لا تحظى بها إلا السلالات التي حكمت باسم الله لا باسم الشعب، على الضد تماما من مسار التطور العام في العالم المتجه إلى بناء الديمقراطيات واحترام حقوق الانسان وإقامة الجمهوريات.
لقد جاء الربيع العربي ليعيد الاعتبار إلى حقيقة الصراع الطبقي الداخلي، وليثبت أن الخطر الأساسي الذي هدد مستقبل الأمة العربية تمثل بسيطرة قوى داخلية مارست طغيانها السياسي والاقتصادي تحت ستار محاربة أعداء الخارج ، وأن البيئة الحاضنة للخطر الخارجي تمثلت في سوء إدارة الوضع الداخلي ، من جانب الحركة القومية التي شكل اليسار جزءا منها ولو غير مرغوب فيه، والتي تمادت في ممارسة الاستبداد والطغيان وطمست الخصوصيات القطرية وأججت مشاعر التنافس الشوفيني بين القوميات والإتينيات والطوائف والأديان التي يتشكل منها العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وقد كان من خطايا اليسار، لا من أخطائه فحسب، التي لوثت تاريخه وجعلت سقوطه مدويا ، تحالفه مع أعتى أنظمة الطغيان في حركة التحرر الوطني العربي ، في ليبيا والعراق وسوريا وغيرها.

9. سقطت الفرضية القائلة إن البشرية تعيش “عصر الانتقال إلى الاشتراكية”، وبات على اليسار أن يعيد رسم حلمه على أسس جديدة ، ويعيد النظر بالبديهيات السابقة التي أنتجتها المرحلة السوفياتية، ويناضال داخل الرأسمالية لتحقيق الشروط الموضوعية لتجاوزها ، ويواجه مفاسدها وشرورها، وهي كثيرة ، ويستفيد من كونها ، كما قال عنها ماركس ، شكلت، حين قيامها، ثورة تقدمية ضد علاقات الانتاج السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية ، الخ التي كانت سائدة قبلها. أن أهم درس قدمته لنا هذه الثورة هو أنه ما كان لها أن تنجح وتترسخ في الحقلين الاقتصادي والثقافي لولا الحماية والضمانة اللتين تحققتا في الحقل السياسي( الثورتان الفرنسية والأميركية)، حين انتقل النظام السياسي من السلالات الوراثية إلى دولة الحق والقانون ، تتويجا لعمليات التحول الأخرى من الاقتصاد الزراعي والريعي إلى الاقتصاد الصناعي ، ومن العقل الغيبي والاسطوري إلى العقل العلمي. لقد شكل غياب هذه الأولوية عن الانقلابات الفوقية ، ولا سيما تلك التي عمت العالم العربي في مرحلته القومية ، تعبيرا عن فهم مغلوط لطبيعة الرأسمالية ، إذ لم يجد فيها اليسار إلا وجهها الاستعماري ، وغابت عن تحليله أن الاستعمار شكل مرحلة إلزامية في تطور الرأسمالية حكمته قوانين وآليات توسعها الأفقي والعمودي التي تحدث عنها ماركس.
على ذلك الفهم المغلوط والمجتزأ، حددت الحركة القومية العربية أولويات النضال الوطني، وطمست الصراعات الطبقية الداخلية وشطبت من قاموسها السياسي مصطلح الديمقراطية مع شجرة العائلة السياسية التي ينتمي إليها،(دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات ، دولة الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان، الدولة المدنية ، العلمانية.الخ)، تحت ذرائع ومبررات سوغت لها اعتماد أنظمة سياسية استبدادية مستلهمة من أنظمة القرون الوسطى الوراثية ومن نظام الحزب الواحد في البلدان الشيوعية، أنظمة لم تجد سبيلا لإخفاء عجزها عن تحقيق المهمات التي تنطحت لها (تحرير فلسطين، الوحدة العربية، الاشتراكية، التحرر من الاستعمار) إلا بممارسة الاستبداد وقمع الحريات والقضاء على بذور الديمقراطية التي كانت قد بزغت في مرحلة الاستقلال.
جاء الربيع العربي ليضع تشخيصا جديدا للأزمة وليبدل ، على ضوء ذلك ، الأولويات في جدول العمل : لقد دخل العالم العربي في الحضارة الرأسمالية من أبواب شتى . غير أن استمرار الباب السياسي موصدا أمام التغيير الديمقراطي، في ظل استمرار أنظمة الاستبداد الوراثية ، الملكية والجمهورية، قائمة من المحيط إلى الخليج ، ألغى الضمانة الوحيدة لتعزيز إنجازات تحققت على الصعيد الاقتصادي فتفاقمت أعراض الرأسمالية الطرفية ، وإنجازات أخرى على الصعيد الثقافي، إذ بقيت نسبة الأمية مرتفعة ، ولم يتمكن العقل العلمي والعلماني من إحداث القطيعة المعرفية مع العقل الغيبي الأسطوري، فضلا عن أن أنظمة الاستبداد عجزت عن مواجهة التحدي الخارجي المتمثل بمشروع الدولة الصهيونية، ولم تميز بين المراحل المتعددة من تطور الرأسمالية العالمية ، ولا بين الصيغ المتنوعة التي جسدت ميل الرأسمالية إلى التوسع ، فلم تتغير صورة الاستعمار ، في نظر حركة التحرر الوطني العربية ، من بداية تكون الرأسمالية العالمية ( اكتشاف أميركا اللاتينية ) حتى غزو الفضاء والمحيطات وأشكال السيطرة العلمية والاقتصادية والتكنولوجية ، الخ. ولم تتغير بالتالي أشكال مواجهتها بل تجمدت على شكل وحيد هو النضال العسكري المسلح ومشتقاته كالمقاومة والممانعة والصمود والتصدي حتى في غياب الوجود العسكري الاستعماري المباشر ، وأغفلت معادلات اليسار القومي المتغيرات الهائلة السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية ، الخ. التي حصلت على امتداد القرن العشرين ، ولاسيما في نهايته عند سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية.

10. لقد استخف اليسار العربي بالديمقراطية واستصغر شأنها ورأى أن طرحها على جدول العمل بمثابة شد عربة التطور إلى الخلف، قياسا بمهمة بناء الاشتراكية ، وهي مهمة “متقدمة” من وجهة نظره . غير أن الربيع العربي أثبت أن الديمقراطية ثورة وهي ليست أقل أهمية ولا تحقيقها أقل كلفة من المهمات الوطنية والقومية والأممية الكبرى، وأن السبيل إلى الوصول إليها لن يتأمن إلا عبر سيرورة وعملية نضالية طويلة الأمد لن تنتهي بين ليلة وضحاها ، ولن تكتمل إلا إذا تعممت على كل بلدان العالم العربي من محيطه إلى خليجه.

11. على ضوء هذه المعطيات بات على اليسار العربي أن يعيد صياغة برنامج القضية القومية فيخلصها من مضمونها الشوفيني، ويلغي التناقض المفتعل فيها بين مصلحة الشعوب العربية بالوحدة والخصوصيات القطرية التي ترسخت خلال القرن العشرين ، ولا سيما أن الربيع العربي قد أكد على عمق الترابط الذي يجمع بين الشعوب العربية ماضيا وحاضرا ومصيرا مشتركا، وعلى أن الأزمة البنيوية في كل بلدان الوطن العربي ، تتمثل بوجود أنظمة استبدادية وملكيات وجمهوريات وراثية، جافت الديمقراطية وحقوق الإنسان وألغت الحريات السياسية والشخصية وعطلت الدساتير وزورت الإرادة الشعبية، كما أكد على أن برنامج الخروج من هذه الأزمة واحد في كل هذه البلدان ، وهو برنامج التغيير الديمقراطي الهادف إلى بناء دولة الحق والدستور، دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات، دولة المواطنة والمساواة أمام القانون، دولة المحاسبة والمراقبة التي يختار فيها الشعب بإرادته الحرة نظامه السياسي وممثليه في الحكم بديلا من التوريث والتعيين والاستيلاء على السلطة ومصادرتها والاستئثار بها.
بموازاة برنامج التغيير الديمقراطي الخاص بكل بلد ، على اليسار أن يشارك بفعالية في صياغة برنامج قومي تحترم فيه خصوصيات كل بلد ، تحتل فيه القضية الفلسطينية موقعا مركزيا، على أساس التضامن مع الشعب الفلسطيني واحترام استقلالية قراره وعدم التدخل في شؤونه الداخلية ولا في شؤون أي شعب عربي آخر إلا من باب التضامن والتعاون ، تأسيسا لتكامل اقتصادي وسياسي ومالي وتربوي، الخ. وتطويرا وتفعيلا لكل المنظمات الإقليمية العربية ، بما يمهد لقيام أشكال تدريجية من الوحدة بين بلدان العالم العربي .

12. لقد خرج قطار العالم العربي عن سكة تطوره التاريخي حين اجتمعت الأصوليات اليسارية والدينية والقومية على إعلان عدائها السافر للديمقراطية في بداية القرن العشرين، إلى أن جاء الربيع العربي في بداية الحادي والعشرين ليضعه مجددا على سكة التطور الصحيحة . ومن المؤكد أن فوز الأصوليات الدينية في الانتخابات التشريعية قد حصل في سياق سياسي مختلف عن مسار الصراعات السابقة ، وجاء ليطوي صفحة الصراع على المشروع الأيديولوجي، فلم يكن شعار “الإسلام هو الحل ” أساسيا ، ولا كانت القضية الاجتماعية ولا القضايا القومية هي المحرك الأساسي في الربيع العربي ، بل كان إجماع من كل القوى على شعار مركزي هو استبدال أنظمة الاستبداد بأنظمة ديمقراطية. إن الأصوليات المشاركة في الربيع العربي متحدرة من الأصوليات القديمة، ولذلك برزت خلال الثورات بقايا من شعاراتها ، وفازت بالأغلبية في أول انتخابات حرة. غير أن ما حصل ليس سوى بداية مخاض طويل ، تكون المراحل التالية منه رهن الدور الذي ينبغي على اليسار أن يلعبه لتصويب عجلة الربيع ، ولا سيما أن المشهد العام كان مطبوعا بطابع آخر عنوانه الأول وحدة الموقف الشعبي حول المواطنة والانتماء إلى الأوطان لا إلى الطوائف والمذاهب والأديان ، و النضال من أجل الديمقراطية سبيلا لا لإسقاط الاستبداد القديم فحسب ، بل للحؤول دون عودته مرة أخرى عن طريق الأصوليات.

13. إن المعطيات التاريخية والعلمية والمعرفية المعاصرة أثبتت أن تجربة الأحزاب “الانقلابية التآمرية ” السرية ، المشكلة من فرق وخلايا ومجموعات ، في بناء هرمي يقوده أمين عام أو رئيس ومكتب سياسي ولجنة مركزية( يشبه التنظيم العسكري)، لم يعد مؤاتيا . وبات على اليسار أن يبتكر التنظيم الذي يتناسب مع مهمات بناء الدولة الحديثة ، ويستفيد من التطور التكنولوجي وسهولة التواصل وسرعة الاتصال، ويستلهم من تجارب مجموعات التلاقي المختلفة على الأنترنت، وتجارب الصحف والنشرات الإلكترونية ليبني تنظيما حديثا ، يكون العنصر المحرك فيه هو الموقف والقضية، وإطاره هو كل صيغ التواصل الممكنة من اجل تجميع وبناء الكتلة التاريخية القادرة على تحقيق التحول الديمقراطي.

14. ينتظم اليسار في مجموعات تشمل كل المنادين بالعلمانية والدولة المدنية والديمقراطية ، المنتظمين حول قضايا شاملة كالاشتراكية، والوحدة العربية، أو وطنية كالعلمنة والدفاع عن استقلالية القضاء ، أو بيئية تخص كل بلد ،أو حول قضايا مهنية كالنقابات العمالية والمهن الحرة والأجور، أو حول قضايا فكرية ، ولا سيما المتعلقة منها بتطوير الفكر الماركسي وبالصراع الايديولوجي،الخ. سعيا وراء تجميع وتشكيل الكتلة التاريخية للتغيير، على أن يستفيد من تجارب أحزاب الكادر كالحزب الاشتراكي الفرنسي، أو لتيارات تمكنت من بلوغ أهدافها التغييرية عن غير طريق العنف ، كالبرازيل وبعض بلدان أميركا اللاتينية، على أن تحترم كل صيغ التنوع والتعدد من داخل الوحدة بين قوى التغيير اليساري العلماني.

عرض لكتاب: “البيان الشيوعي”

كارل ماركس وفريدريك أنجلز

التاريخ: أواخر سنة ١٨٤٧

تاريخ النشر: فبراير ١٨٤٨

إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية.

حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين.

وفي العهود التاريخية الأولى نجد، في كل مكان تقريبا، تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة، (نلقى) تدرجا متفاوتا للمنزلة المجتمعية. ففي روما القديمة، كان ثمة نبلاء، وفرسان، وعامة، وعبيد، وفي القرون الوسطى، أسياد وإقطاعيون، ومقطعون، ومعلمون وصناع، وأقنان. وإضافة إلى ذلك نجد، في كل طبقة من هذه الطبقات، تراتبية فارقة.

والمجتمع البرجوازي العصري، الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يلغ التناحرات الطبقية، بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة، وحالات اضطهاد جديدة، وأشكالا جديدة للنضال.

غير أن عصرنا، عصر البرجوازية، يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين، إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية والبروليتاريا.

فمن أقنان القرون الوسطى تحدّر سكان أولى البلدات. ومن هؤلاء السكان تكونت الأصول الأولى للبرجوازية.

فاكتشاف أمريكا والطواف البحري حول إفريقيا أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعا جديدا. إن سوق الهند الشرقية والصين، واستعمار أمريكا، و التبادل مع المستعمرات، وازدياد وسائل التبادل، والسِّلع عموما، وفرت للتجارة والملاحة والصناعة دفعا لم يسبق له مثيل، وبالتالي وفرت نموا سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي المتداعي.

فكل مرحلة، من مراحل تطور البرجوازية تلك، كانت مشفوعة بتقدم سياسي متطابق. فالبرجوازية: فئة مقهورة تحت سيطرة الإقطاعيين، وعُصبة مسلحة تسوس نفسها بنفسها في – الكمونة– جمهورية مدينية مستقلة هنا، وطبقة عوامٍ مُـلزمة بدفع الضرائب للنظام الملكي هناك – وقوة موازنة للنبالة زمن المانيفاتورة في النظام الملكي المقيَّد أو المطلَق، وحجر الزاوية للأنظمة الملكية الكبيرة بوجه عام، (هذه البرجوازية) انتَزعت أخيرا، بقيام الصناعة الكبيرة والسوق العالمية، السلطة السياسية كاملة في الدولة التمثيلية العصرية. وسلطة الدولة الحديثة ليست سوى هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها.

فالبرجوازية لعبت، في التاريخ، دورا ثوريا بارزا كل البروز.

والبرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون، التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين، ولم تُـبق على أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة، والإلزام القاسي بـ “الدفع نقدا”. وأغرقت الرعشة القدسية للورع الديني، والحماسة الفروسية، وعاطفة البرجوازية الصغيرة، في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة، وحولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية، وأحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها، محل الحريات المُـثـبَتة والمكتسبَة التي لا تحصى. وبكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا مباشرا وشرسا، محل الإستغلال المُغلَّف بأوهام دينية.

فالبرجوازية جرّدت كل الفعاليات، التي كان يُنظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة والخشوع، من هالتها. فحوّلت الطبيب ورجل القانون و الكاهن والشاعر والعالم، إلى أجراء في خدمتها.

والبرجوازية نزعت حجاب العاطفية عن العلاقات العائلية وقَصَرتها (العلاقات) على علاقات مالية بحتة.

والبرجوازية كشفت كيف أنّ عرض القوة الشرسة، الذي كانت الرجعية تُعجَب به في القرون الوسطى، قد وجد تتـمّـته المؤاتية في التكاسل إلى أبعد حدود الكسل. فهي الأولى، التي بيَّـنت ما يستطيع النشاط الإنساني إتيانه. فأتت بعجائب تختلف كليا عن أهرامات مصر، والأقنية الرومانية، والكتدرائيات القوطية، وقامت بحملات تختلف كليا عن الإجتياحات والحملات الصليبية.

والبرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك، كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم، بدون تبديل، الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. وهذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية، والقلق والتحرك الدائمان، هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور. فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات وأفكار قديمة موقّرة، تتفكك كلها، وكل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده، والتقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء، وكل ما هو مقدّس يدنّس، والناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة.

وحاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشعش في كل مكان، ومن أن تنغرز في كل مكان، ومن أن تقيم علاقات في كل مكان.

والبرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج والإستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. فالصناعات القومية الهرمة دُمّرت وتدمَّـر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة، أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها، تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الإكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والإنعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم. وما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكا مشتركا. والتعصب والتقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. ومن الآداب القومية والإقليمية ينشأ أدب عالميّ.

الفصل الثاني 

بروليتاريون وشيوعيون

ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عموما؟

إنّ الشيوعيين ليسوا حزبا منفصلا في مواجهة الأحزاب العمالية الاخرى و ليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح عموم البروليتاريا.

و هم لا يطرحون مبادئ خاصة يريدون قَولَبَة الحركة البروليتارية بقالبها.

إن الشيوعيين لا يتميزون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلاّ في أنّهم: من ناحية، يُبرزون ويُغلِّبون المصالح المشتركة في الصراعات القومية المختلف للبروليتاريين، بصرف النظر عن تابعية عموم البروليتاريا، ومن ناحية أخرى، يمثِّلون دائما مصلحة مُجمل الحركة في مختلف أطوار التطور، التي يمر بها الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية.

إذن الشيوعيون عمليّا هم الفريق الأكثر حزما من الأحزاب العمالية في جميع البلدان، والدافع دوما إلى الأمام، ونظريا هم متميزون عن سائر جُموع البروليتاريا، بالتبصّر في وضع الحركة البروليتارية، وفي مسيرتها ونتائجها العامّة.

والهدف الأول للشيوعيين هو الهدف نفسه لكل الأحزاب البروليتارية الأخرى: تشكّل البروليتاريا في طبقة، إسقاط هيمنة البرجوازية، واستيلاء البروليتاريا عن السّلطة السياسية.

وطروحات الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار، على مبادئ، ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مُصلحي العالم.

إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقيّ قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا. وإلغاء علاقات الملكية القائمة حتى الآن، ليس هو إطلاقا السِّمة المميزة للشيوعية.

الفصل الثالث 

الأدب الاشتراكي والشيوعي

١ – الإشتراكية الرجعية 

أ – الإشتراكية الإقطاعية 

وَجدت الأرستقراطية الفرنسية و الإنكليزية نفسها مدعوّة، بحكم موقعها التاريخي، إلى كتابة قطع هجائية ضدّ المجتمع البرجوازي الحديث. ففي ثورة تموز (يوليو) الفرنسية عام ١٨٣٠، وفي حركة الإصلاح الإنكليزية، كانت قد انهزمت مرة أخرى، أمام هذا الوصوليّ المقيت، فلم يعد ممكنا الحيث عن نضال سياسي جديّ. لقد بقي لها النضال الأدبي فقط. ولكن التشدقات الكلامية القديمة، عهد إعادة المَلَكية[١] ، غدت في ميدان الأدب أيضا مستحيلة. ولتستدرَّ العطف اضطرت الأرستقراطية إلى التظاهر بالتخلّي عن مصالحها، وإلى وضع قرارها الإتهامي ضد البرجوازية لمصلحة الطبقة العاملة المستَغلَّة فقط. وعلى هذا الوجه وفرت لنفسها لذة هجاء سيّدها الجديد بواسطة الأغاني، والغمغمة في أذنه بتنبؤات مشحونة بفيض من النذر.

وهكذا نشأت الإشتراكية الإقطاعية مزيجا من نحيب وهجاء من صدى الماضي و وعيد المستقبل، مصيبة أحيانا البرجوازية في الصميم بحُكم قاس ثاقب، و مُثيرة السخرية باستمرار لعجزها التام عن إدراك مسيرة التاريخ الحديث.

الإشتراكية البرجوازية الصغيرة 

الأرستقراطية الإقطاعية ليست الطبقة الوحيدة التي أطاحتها البرجوازية، والتي ذبُـلت شروط حياتها وهلكت في المجتمع البرجوازي الحديث. فإنّ برجوازيي المدن وفئة الفلاحين الصغار في القرون الوسطى كانوا طلائع البرجوازية الحديثة.

وهذه الطبقة لا تزال، في البلدان الأقل تطورا صناعيا وتجاريا، تعيش حياة خاملة إلى جانب البرجوازية الصاعدة.

وفي البلدان، التي نمت فيها الحضارة الحديثة، تكونت برجوازية صغيرة جديدة تتأرجح بين البروليتاريا والبرجوازية. وهي كجزء مكمل للمجتمع البرجوازي لا تفتأ تعيد تشكيل نفسها؛ ومن جرّاء المزاحمة ينحدر أفرادها باستمرار إلى (صفوف) البروليتاريا؛ بالإضافة إلى ذلك يرون، مع نمو الصناعة الكبيرة، اقتراب الساعة التي سيضمحلّون فيها كليّا، بوصفهم قسما مستقلا عن المجتمع الحديث، ليحُلّ محلهم، في التجارة والمانيفاتورة والزراعة، نُظّار

العمل والمستخدمين.

الفصل الرابع 

موقف الشيوعيين من مختلف أحزاب المعارضة

وفقا للفصل الثاني يتضح بالبداهة موقف الشيوعيين من الأحزاب العمالية القائمة، وبالتالي موقفهم من الشارتيين في إنكلترا، والإصلاحيين الزراعيين في أمريكا الشمالية.

فهُم (الشيوعيون) يناضلون لتحقيق الأهداف والمصالح المباشرة للطبقة العاملة، لكنهم في الوقت نفسه يمثلون، في الحركة الراهنة، مستقبل الحركة. ففي فرنسا ينضم الشيوعيون إلى الحزب الإشتراكي – الديمقراطي ضدّ البرجوازية المحافظة والراديكالية، بدون أن يتخلوا عن حق اتّخاذ موقف نقدي من الجُمل الرنانة والأوهام التي خلفها التقليد الثوري.

وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.

وفي ألمانيا يناضل الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البرجوازية مادامت تناضل هذه البرجوازية تناضل نضالاً ثورياً ضد النظام الملكي المطلق وضد الملكية الاقطاعية العقارية وضد البرجوازية الصغيرة الرجعية…فالثورة البرجوازية الألمانية لاتكون بالتالي سوى بداية وتمهيد مباشر لثورة بروليتارية.

ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلاّ بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالما يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان، إتحدوا، هذا النداء درج على ترجمته بـ “يا عمّال العالم، إتحدوا”. 

“البيان الشيوعي” : كتبه كارل ماركس وفريديريك إنجلس في كانون الأول (ديسمبر) ١٨٤٧ وكانون الثاني (يناير) ١٨٤٨.

ظهر للمرة الأولى، كراسا مستقلا بالألمانية في لندن، في شباط (فبراير) ١٨٤٨.


لقراءة أعداد جريدة المسار اضغط هنا