سياسة التوازن التركية الصعبة بين روسيا الاتحادية والغرب الامريكي

تعتبر تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بروسيا الجديدة بعد  انهيار الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١.

تاريخيا كانت العلاقة بين البلدين أكثر صدامية  ، حيث بلغت الحروب بينهما خمسة عشر حرباً على مدار أكثر من  ثلاث قرون كان الجيشان خلالها يتقاتلان على أراضي البلقان الخاضعة للامبراطورية العثمانية فخلفت الحرب مئات الآلاف من القتلى من الطرفين وشردت شعوب وقبائل تركت أحقاد تحتاج الى عقود من السلم لنسيانها كما تم فيها  تدمير العديد من المدن  بما فيها مدينة موسكو في حرب ١٥٧١ ، ١٥٧٤ التي سميت بحرب حريق موسكو،  وكان أول الحروب بين الطرفين حرب استراهان عام ١٥٦٨ ، ١٥٧٠ وهي مدينة في القرم وفيها تم ترسيم الحدود بين روسيا والقرم بعد أن كانت منطقة القرم تابعة للدولة العثمانية . 

 تعتبر  الحرب العالمية الأولى ١٩١٤ ، ١٩١٨ آخر الحروب بين روسيا والدولة العثمانية وسميت بالحروب القوقازية وفيها وصلت القوات الروسية إلى شرق الأناضول ولم تتوقف الا بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا ١٩١٧ .  دخلت العلاقات الروسية التركية مرحلة جديدة بعد توقيع معاهدة الصداقة والحياد عام ١٩٢٥ فألغيت بموجبها معاهدة لوزان ا ١٩٢٣ التي فرضها الحلفاء على الدولة التركية الا أنه بعد ٢٠ عاماً من الهدوء  بين الطرفين  ألغت الدولة السوفيتية المعاهدة مشترطة على الدولة التركية عقد معاهدة جديدة طالبت فيها  امتيازات في مضيقي الفوسفور والدردنيل وقواعد عسكرية فيهما مع تعديل اتفاقية مونترو المتعلقة بنظام العبور في المضايق المذكورة مع المطالبة بضم ولايتي قارص وأردهان التركيتان للدولة السوفيتية الأمر الذي سرع بانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي عام ١٩٥٢ وإلى دعم الولايات المتحدة الأمريكية تركيا ومنع تحقيق مطالب السلطة السوفيتية واستمرار الحال على ما هو  حتى انهيار الدولة السوفيتية.  

  كان لضعف الدولة العثمانية ، وتعاظم الدور  الروسي في المنطقة في القرن التاسع عشر وما بعد ،قد أدى الى طموح روسيا  للسيطرة على منطقة القرم و على البحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل ولتحقيق هذا الطموح  ازداد الدعم الروسي لدول البلقان التي كانت تسعى للاستقلال عن الدولة العثمانية وبالتالي لم تتوقف تلك الحروب خلال تلك السنوات .

مع قيام روسيا الجديدة بعد انهيار الدولة السوفيتية استطاع  الرئيس التركي سليمان ديمريل فتح صفحة جديدة من التفاهمات بين الدولتين تقوم على  احترام السيادة والمساواة والندية مع روسيا يلتسين 1991-2000الا أن العلاقات فيما بينهما وخاصة في السياسة الخارجية بقيت يساورها الشك  وعدم الثقة رغم توثيق معاهدة احترام السيادة   والمساواة  والندية وتحسن العلاقات التجارية بينهما  ذلك بسبب عدة قضايا لاتزال أغلبها شائكة بين الدولتين حيث لكل منهما موقف يختلف عن الاخر وفي مقدمة هذه القضايا – الموضوع الشيشاني  وموضوع الإبادة الجماعية الأرمنية والمسألة  والكردية وايضاً النزاع حول مرتفعات قره باغ  والحرب بين أذربيجان وأرمينيا والتدخل الروسي في البوسنة   وفرض قيود على حركة السفن الروسية في منطقتي البوسفور والدردنيل –  و أيضا دعم  روسيا لقبرص اليونانية  لذلك تعتبر  معظم تلك القضايا العالقة  من أهم محفزات التوتر بين البلدين والتي  قد تنشأ بين الطرفين من وقت لأخر، رغم حساسية تلك الخلافات الا أن العلاقات بين البلدين لم تصل إلى حد القطيعة بينهما ،  فمع وصول بوتين إلى رأس  الحكم في روسيا عام ٢٠٠٠ بدأت مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين كما كان  لنجاح حزب العدالة في تشكيل حكومة في تركيا بمفرده عام2002ووضع مبادئ للعلاقات الخارجية للحكومة التركية ومن أهمها ، مبدأ التوازن السليم بين الحرية والأمن ومبدأ السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد وتضيق المشاكل مع الدول الخارجية وقيام أردوغان في زيارة موسكو في عامي ٢٠٠4 وأيضاً و٢٠٠٥  مصطحباً معه  ٦٠٠ رجل أعمال تم خلالها توقيع عشرات العقود التجارية ، فأصبحت تركيا من أهم شركاء روسيا في الاقتصاد قياسا الى حجم التبادل التجاري بينهما وهي  تشكل المرتبة الخامسة بين الشركاء التجاريين وتعتبر موارد الطاقة والحديد والمواد والصناعات الكيماوية من أهم الموارد الروسية  كما تم توقيع عشرات العقود والاتفاقيات بينهما في مجال الطاقة والمحطات الكهربائية كما يعلق الطرفان أهمية كبيرة على مشروع النقل الأمن للنفط عبر تمديد أنبوب نفط سامسون الذي بدأ تنفيذه عام ٢٠١٠ في البحر الأسود يمر من مضيقي الفوسفور والدردنيل لنقل النفط الروسي إلى أوروبا ، أما  الصادرات التركية إلى روسيا فتشمل النسيج ومنتجاته والماكينات ووسائل النقل وبعض المواد الغذائية ، لذلك تري روسيا في تركيا فيما يتعلق بالعلاقات التجارية شريكاً موثوقاً، كما تم بينهما تفاهمات سياسية وأمنية وكان أهمها أنهاء النشاط الشيشاني في تركيا وبالمقابل وقف روسيا دعم حزب العمال الكردستاني كما دعمت روسيا دخول تركيا للاتحاد الأوربي ودعم تركيا روسيا للانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي كدولة مراقبة ولكن بقيت بعض المسائل الشائكة عالقة بينهما دون التوصل إلى تفاهمات بينهما وفي مقدمتها المسألة السورية حيث كانت روسيا تتهم أنقرة بدعم  المعارضة المسلحة  السورية لقلب نظام الحكم في سورية والتنسيق مع قوى إرهابية متطرفة وتسهيل عبورهما نحو سوريا الا أن موسكو استطاعت في عامي ٢٠١٦ و٢٠١٨ أن توجد صيغ لتفاهمات مع تركيا لحل الأزمة السورية عبر لقاءات أستانا وسوتشي خارج المظلة الأممية في جنيف . 

لا يتجاهل الساسة الاتراك أن  تركيا عضواً أساسي في حلف شمال الأطلسي وأن جيشها يعد ثاني أكبر قوة عسكرية من حيث العدد والعودة بعد الولايات المتحدة الأمريكية في الحلف  كما يحاول ساستهم قدر المستطاع أن يجعلوا من موقعها الجغرافي بين القارات الثلاث الأوربية والأسيوية والأفريقية    وقربها  من الحدود الروسية عاملاً مهماً في تدعيم سياسة التوازن بين الغرب والشرق ،  فهي تعتبر بوابة لروسيا إلى البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والممر الرئيسي لقواعدها وتواجدها في سورية وفي تمددها في الشرق وفي الخليج العربي وفي أفريقيا وهي أيضا بوابة للغرب الأمريكي إلى البحر الأسود وعبر هذا العامل يمكن لها  ترسيخ حضورها لدى الغرب الأمريكي وفي حلف شمال الأطلسي وفي الصراع مع روسيا الاتحادية أو مع الصين الشعبية وعبره أيضاً  تعمل  على توظيفه  في  تدعيم سياسة التوازن التي تتخذها تركيا  بين الغرب والشرق وبالتالي تستطيع تحقيق انجاح مصالحها عند الطرفين عبر استمرار علاقاتها مع كل منهما  دون أن تتعرض لخطر المواجهة مع أي منهما. 

أن تركيا تدرك ان تحقيق معادلة التوازن بين الشرق والغرب هي معادلة  صعبة وخطيرة  لذلك هي  تعمل على جعل  العلاقة مع روسيا  أن تبقى في حدود الشريك الموثوق تجارياً لا أكثر وأن لا تتطور تلك الشراكة  إلى تحالف استراتيجي أو سياسي وأنه على الغرب أن يدرك هذه المعادلة كما أن تركيا تدرك جيداً أن روسيا لا يمكن لها أن تقدم لتركيا أكثر من ذلك  بسبب المشاكل  الاقتصادية والمالية التي تواجهها  مع الغرب بفعل  العقوبات غير المسبوقة  المفروضة عليها من الغرب  بعد غزوها لأوكرانيا .   أما روسيا فأنها تجد في توتر علاقات تركيا مع الغرب الأمريكي  فرصة لإبعاد أنقرة عن هذا المحور لذلك نجدها تضامنت مع تركيا  بعد محاولة الانقلاب الفاشل في ١٥ تموز عام ٢٠١٦ كما اعطت تركيا الموافقة لعمليتين عسكريتين في شمال سورية وفي عقد هدنة ووقف القتال في ادلب كما تحاول ان تراعي مصالح تركيا في تفاهمات أستانا وسوتشي المعنية بحل الأزمة السورية ثم عقدت مع تركيا صفقة منظومة صواريخ أس 400 الدفاعية المتطورة التي أزعجت أمريكا كثيراً وهي  مؤخراً تبذل  جهوداً لتحقيق مصالحة أنقرة ودمشق  بعد قطيعة  دامت بينهما أكثر من عشرة سنوات بسبب الانفجار الشعبي في سورية ٢٠١١ وهي بذلك تقدم لأردغان ورقة رابحة ضد خصومه داخل تركيا في الانتخابات  الرئاسية والبرلمانية القادمة بعد  أقل من شهرين اضافة الى أبرامها تفاهمات مع روسيا لإدارة نفوذها في شمال سورية وفي جنوب القوقاز . .هذا التفاهم والتقارب  في العلاقات السياسية مع  روسيا أثار إستياء وانزعاج واشنطن مما ادى الى فرض أمريكا عقوبات عسكرية ومالية على تركيا ومع ذلك فأن تركيا ومن خلال سياسة التوازن التي تعتمدها فأنها تعمل دون الوصول إلى  الى قطيعة مع الولايات المتحدة الامريكية لأنه يهمها أن تبقى  ضمن الحلف الأمريكي والاستعانة به  لمواجهة الشريك الروسي الطامع في أراضيها  عند الضرورة .. كما أن طموحها في الحصول على منظومة صواريخ باتريوت وطائرات اف ٣٦ المتطورة /الشبح / الأمريكية وفي رفع العقوبات الأمريكية عن   الصناعات العسكرية الجوية   تظل قائمة وهي على استعداد لتقديم تنازلات لأمريكا في حال الحصول عليهما لذلك نرى  أردوغان يصرح في أكثر من مناسبة أن تركيا هي حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية . 

بعد غزو روسيا لأوكرانيا انتقد الرئيس التركي أردوغان حلف شمال الأطلسي والغرب الأمريكي حيث قال ( أن حلف شمال الأطلسي  والاتحاد الأوربي لم يتخذا موقفاً حازما لردع الهجوم الروسي)  . يبدو غريباً أن يحصل هذا النقد للغرب الأمريكي في السياسة التركية  كما يبدو متناقضا  مع سياسة التوازن التي تعتمدها تركيا  في سياستها الخارجية ، حيث أنه لا يمكن تفسير مثل هكذا تصريح الا من خلال الخلافات المتراكمة مع الغرب الأمريكي هذا اضافة الى ما سيلحق تركيا من مواقف صعبة  بسبب هذا الغزو للحفاظ  على  سياسة التوازن التي تنتهجها بين روسيا والغرب الامريكي وكذلك  بسبب موقعها الجغرافي بين روسيا وأوكرانيا فتركيا لها  علاقات عديدة  تجارية وزراعية  وتعاون عسكري  بشكل قوي مع أوكرانيا وهي تزودها بطائرات مسيرة دون طيار  مما يجعلها منخرطة في هذه الحرب كما أن العقوبات المفروضة من  الغرب الامريكي على روسيا  أربكتها إلى حد بعيد  اتجاه شريكها التجاري الروسي فقررت رفض المشاركة في فرض العقوبات عليها ، كما انها رفضت  تزويد أوكرانيا بصواريخ اس ٣٠٠ أو ٤٠٠ الدفاعية التي اشترتها من روسيا ، كما انخرطت في جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا  .

لاتزال تركيا تعتبر نفسها جزءً من الغرب وهي تسعى جاهدة التمسك بخيط رفيع في علاقاتها مع الأوربيين رغم الخلافات الكبيرة بينهما وفي مقدمتها الخلافات المستمرة مع اليونان وحول المسألة القبرصية  وذلك على أمل انضمامها إلى الأتحاد الأوربي رغم توقفها منذ زمن وبسبب روابطها الاقتصادية الكبيرة معهم اضافة الى وجودها معهم في حلف شمال الأطلسي .

وجدت تركيا في سياسة الردع التي اتبعها الغرب الأمريكي ضد موسكو  فرص كبيرة لها لا تعوض فمن خلالها تحاول أن تحقق عبر  ادارة علاقاتها بين الشرق والغرب شروطها بشكل أفضل فهي تجد في  ازدياد  حدة الردع ضد موسكو وكلما توطدت وحدة الغرب ومساعدة اوكرانيا في حربها مع موسكو كلما ضعفت  سياسة مخاطر التوسع الروسية عن المناطق الغربية عن حدودها وفي منطقة البحر الأسود وهي ايضاً ضمن هذا السياق تستطيع أن تبني سياسات أكثر انسجاما واتساعاً مع الغرب الأمريكي وأن تبدد العديد من الخلافات معهم ، كما ترى في لعب دور الوساطة والتهدئة  بين روسيا وأوكرانيا والمساعي التي تبذلها لوقف الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية قد يمنع انتشار نيرانها وعدم الإنخراط فيها .

وكما نوهنا سابقا تبقى سياسة المناورة والموازنة التي تتبعها أنقرة مع كل من الغرب  والشرق وتحديداً في حرب روسيا على أوكرانيا لا تخلو من المخاطر، فهي  تحقق مكاسب لتركيا في حال تم تسوية الصراع الروس – الغربي في أوكرانيا الا أنه ومن المؤكد يضيق هامش المناورة أمامها في حال طال أمد هذا الصراع وتصاعدت حدة المواجهة بين روسيا والغرب الأمريكي وهذا هو الأحتمال الأكبر والأقوى وأغلب المؤشرات تفيد أن إجراء تسوية في هذا الصراع لا يزال ضعيفاً جداً وعندها ستجد أنقرة نفسها في حالة صعبة ومعقدة لا تحسد عليها.

من العدد ٧٤ من جريدة المسار