منذ بطرس الأكبر (توفي 1725)، مؤسس الدولة الروسية الحديثة، كان الغرب هو المجال الرئيسي لتطلع روسيا حضارياً. وهذا التطلع، بالمعنى الثقافي ترافق مع توسع في السيطرة الجغرافية في الشرق والوسط الأوروبيين للقياصرة الروس، لكن التطلعات التوسعية الروسية لم تكن أوروبية فقط بل آسيوية أيضاً، في سكتين متوازيتين: آسيا الوسطى والقفقاس من جهة، ومنطقة المضايق: البوسفور والدردنيل. كانت «سايكس-بيكو» ثلاثية عملياً مع إضافة اسم سيرج سازانوف، وزير الخارجية الروسي، وكانت عين الروس على إسطنبول. فضح البلاشفة نصوص «سايكس -بيكو» بعد ثورة أكتوبر 1917 وتبرؤوا منها، لكن ستالين في الحرب العالمية الثانية استطاع إقناع تشرشل بأن الدفاع عن منطقة القفقاس أمام هتلر يتطلب وجود قوات سوفياتية في الشمال الغربي الإيراني، ولكن، عندما جرى تقاسم العالم بعد الحرب فإن زعيم الكرملين قايض إيران ببولندا، متخلياً عن جمهوريتي مهاباد وأذربيجان الإيرانيتين، اللتين أقامهما السوفيات هناك عام 1946.
دخل الروس إلى منطقة الشرق الأوسط عبر صفقة الأسلحة التشيكية لمصر عام 1955، وكان الدخول سورياً أيضاً عبر بدء تسليح الجيش السوري بأسلحة سوفياتية، وشهد عام 1957 صعود قوة الحزب الشيوعي السوري على وقع المساعدة السوفياتية للعرب في حرب السويس، وعملياً فإن صعود الشيوعيين السوريين كان عاملاً أساسياً في تراكض العروبيين نحو القاهرة لطلب الوحدة مع مصر خوفاً من وقوع دمشق تحت سيطرة خالد بكداش ورئيس الأركان عفيف البزري. بسبب دمشق، ثم بغداد ما بعد 14 تموز (يوليو) 1958، اصطدمت موسكو مع عبد الناصر الذي بدأ باعتقال الشيوعيين السوريين والمصريين منذ رأس عام 1959، وبدأ بتشجيع محاولات انقلاب العروبيين في العراق على حكم عبد الكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين، وصولاً إلى محاولة انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل في آذار (مارس) 1959.
تصالحت موسكو مع القاهرة عام 1964 حين ضمنت دمشق البعثية إلى جانبها ضد عبد الناصر، وحاولت مصالحتهما تحت جناحيها بعد انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966 اليساري البعثي بقيادة اللواء صلاح جديد، ولكن، كان تفضيلها لدمشق اليسارية، بالقياس لعبد الناصر الحذر دائماً من الشيوعيين، قد فتح أبواب سورية أمام السوفيات عبر مشاريع اقتصادية عملاقة كان منها سد الفرات، إضافة إلى الأسلحة السوفياتية ووجود الخبراء السوفيات. في عهد الرئيس حافظ الأسد منذ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، الذي انفتح على القاهرة والرياض ثم عام 1974 على واشنطن، لم تحدث قطيعة بين دمشق وموسكو، كما فعل الرئيس المصري أنور السادات الذي يمّم وجهه نحو واشنطن ثم تل أبيب.
وعندما عارض السوفيات عام 1976 دخول القوات السورية إلى لبنان، اختار الرئيس السوري في ظرف الصدام مع موسكو واليسار اللبناني خيار المصالحة مع السادات (بعد خصام بدأ مع اتفاقية سيناء في أيلول – سبتمبر 1975) في مؤتمر الرياض السداسي في تشرين الأول (أكتوبر) 1976 الذي قام بتشريع عربي للوجود السوري العسكري في لبنان، ولكن، عندما زار الرئيس المصري القدس في 19 تشرين الثاني 1977 اختارت دمشق التقارب مع موسكو وصولاً إلى معاهدة 1980 السوفياتية – السورية ثم صفقات الأسلحة النوعية السوفياتية في عهد يوري أندروبوف (10 تشرين الثاني 1982 – 10 شباط 1984).
هنا، يقال في الوسط السياسي السوري أن الرئيس حافظ الأسد زار موسكو عام 1987 أساساً من أجل قراءة ميخائيل غورباتشوف والبيريسترويكا عبر رؤية عيانية، وعندما استخلص أن هناك اتجاهاً سوفياتياً نحو الاستقالة من وضعية الدولة العظمى عند حكّام الكرملين اختار من جديد الانفتاح على واشنطن بدءاً من لبنان 1988 (اتفاق مورفي- الأسد) ثم اتفاق الطائف الذي كان مثلّث الأبعاد: واشنطن – دمشق – الرياض، وصولاً إلى مشاركة دمشق في التحالف الدولي بقيادة واشنطن في حرب خليج 1991، وهو ما نتج منه أيضاً مشاركة سورية في مؤتمر مدريد الذي رعته واشنطن من أجل تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي.
منذ 1991 وتفكّك الاتحاد السوفياتي في أسبوعه الأخير وحتى 4 تشرين الأول 2011، كانت العلاقات مع موسكو ليست أولوية عند دمشق ما دامت روسيا في حال ضعف، وهو ما دفع دمشق إلى إعادة تشكيل مثلث (القاهرة – الرياض – دمشق) الذي أنتج حرب 1973 عبر التقارب من جديد مع قاهرة حسني مبارك في أوائل التسعينات، ومن ثم تقاربت دمشق مع بغداد صدام حسين في أواخر ذلك العقد، إضافة إلى تعزيزها العلاقة مع طهران، ولكن، عندما اختارت موسكو ممارسة الفيتو في شأن الأزمة السورية في مجلس الأمن الدولي في 4 تشرين الأول 2011 كان هذا أول إعلان روسي بأن الكرملين بدأ بالمصارعة لزحزحة وضعية «القطب الواحد للعالم» التي احتلتها واشنطن بعد انتصارها على السوفيات في الحرب الباردة، وهو ما كان معلناً قبل سنتين مع تشكيل «مجموعة دول البريكس» مع الصين والهند والبرازيل (ثم جنوب أفريقيا التي انضمت عام 2010).
اختارت موسكو الباب الدمشقي لهزّ وضعية الأحادية الأميركية للعالم وأجبرت واشنطن على عدم الانفراد بالأزمات العالمية مثل الأزمة السورية بخلاف ما جرى في حرب كوسوفو (1999) وغزو العراق (2003) وحتى عندما بدأت واشنطن، بعد شهر عسل أميركي -إيراني في العراق المغزّو والمحتل، في مجابهة طهران إثر استئناف برنامجها في تخصيب اليورانيوم في آب (أغسطس) 2005، فإن موسكو كانت تجاري واشنطن في مجلس الأمن الدولي في قرارات فرض العقوبات على إيران، وهو ما استمر حتى القرار الدولي في نيويورك تجاه ليبيا في آذار (مارس) 2011. عملياً كانت الأزمة السورية ميداناً عند الروس لمحاولة كسر الأحادية الأميركية ولوفي أزمات محددة، وهو ما ترجم في (بيان جنيف 1- 30 حزيران 2012) ثم في (اتفاق كيري – لافروف، 7 أيار 2013) تجاه الأزمة السورية، ثم تم تكريس الثنائية الأميركية – الروسية تجاه الأزمة السورية التي كثّفت الصراعات والاستقطابات الدولية والإقليمية، في اتفاق الكيماوي السوري في 14 أيلول 2013 قبل أن ينهي نشوب الأزمة الأوكرانية في شباط 2014 الوفاق الروسي- الأميركي في جنيف 2 السوري بين السلطة والمعارضة البادىء بالشهر الأول من عام 2014 والذي كان أحد نتائج اتفاق الكيماوي السوري وهذا ما قاد على فشل (جنيف 2).
كانت خطوة التدخل العسكري الروسي في سوريا بدءاً من يوم 30 أيلول 2015 ناتجة عن اتفاق أميركي-روسي على منع مسلحي المعارضة السورية من إسقاط النظام السوري بعد أن تقدموا كثيراً بربيع وصيف 2015 في محافظة إدلب ومنطقة الغاب ثم قطعوا طريق دمشق-حمص بالنصف الأول من شهر أيلول وقد أعقبها بعد شهرين ونصف القرار الدولي 2254 من أجل حل الأزمة السورية. لم يستمر الوفاق الأميركي- الروسي في العالم وفي سوريا وعلى الأرجح أن هذا هو الذي دفع الأمريكان للتواجد العسكري في شرق الفرات السوري لموازاة الوجود العسكري الروسي منذ عام 2016 أو لاستخدام ورقة القيمة الاقتصادية لشرق الفرات حيث غالبية النفط والغاز والقمح السوريون من أجل الضغط على الروس وحليفتهم السلطة السورية من أجل أجندات أميركية تتجاوز الساحة السورية وهذا ما جعل المسألتين السورية والأوكرانية في ارتباط وثيق، ويلاحظ هنا كيف أن هاتين الأزمتين تشتركان في خصيصة أن اللاعبين الكبيرين فيهما هما موسكو وواشنطن ويبدو أن أوكرانيا أهم للكرملين والبيت الأبيض من سوريا ولكن الطرفان يمكن أن يستخدما سوريا للضغط على بعضهما في أوكرانيا يمكن عبر وسائل عسكرية ولكن غير مباشرة بالساحة السورية ويمكن أن يستخدم الروس سوريا للضغط على الأمريكان عبر مبادرات منفردة لحل الأزمة السورية من دون أن يكون عليها إجماع دولي أو إقليمي أو غطاء الأمم المتحدة.
من المتوقع أن يزداد لهيب الأزمة السورية بعد أن كانت خامدة لفترة طويلة من الزمن وأن يكون هذا الاشتعال بفعل التوتر الروسي- الأميركي بمرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا في 24 شباط 2022، وخاصة مع بدء ابتعاد الأتراك عن الروس في فترة ما بعد تلك الحرب ومع احتمال محاولة إبعاد الأمريكان للإيرانيين عن الروس عبر إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وهذا ما سيجعل الساحة السورية ميداناً ملائماً لواشنطن من أجل الضغط على الروس في سوريا لحسابات عند البيت الأبيض بأن الساحة السورية هي نقطة ضعف روسية يمكن الضغط من خلالها عليهم لحسابات تتعلق بأوكرانيا وغيرها.