أنت مسلم أم مسيحي يا أستاذ؟

الدكتور عبد الله حنا

من صفحته على الفيسبوك

ذات مرة في ربيع 1966 دخلتُ غرفة التدريس في درعا وشرعت في إلقاء الدرس وظهري إلى لوح الكتابة، أحد الطلاب نبّهني بلطف أن أنظر إلى اللوح، فأدرتُ وجهي فقرأت جملة مكتوبة بخط كبير:

”هل أنت مسلم أم مسيحي يا أستاذ”؟

لم يكن السؤال مفاجئا لي بل أفرحني، فلا دخان بلا نار.

 لا أذكر كيف تهرّبت من الإجابة بوضوح تاركا الأمر في إجابتي مبهما، محتميا بالعروبة والإنتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية. والتهرب من الإجابة الصريحة مبعثه بقاء الطلاب يظنون أنني مسلم حتى يكون وقع دروسي مجديا في الدعوة إلى الإشتراكية، التي كنتُ أمزجها في سرد مسهب مع الجوانب الثورية في تاريخنا العربي الإسلامي، وهذا حسب تقديري يسهم في دفع الشباب المؤمن للسير في الطريق الإشتراكي.

شعور الإتجاه للعمل بنشاط في صفوف المسلمين لكسبهم إلى الإشتراكية لم يفارقني طوال نشاطي السياسي أو الفكري . ويبدو أن هذا الشعور تجلى بأشكال مختلفة أثناء إلقائي لدروس التاريخ. في درعا واستفسارهم عن ديني ، كما رأينا.

والواقع أنّ دروسي أوقعتهم  في حيرة من أمر “ديني” بسبب المنهج الذي اتبعته وطريقة الإلقاء واستخدام التعابير الإسلامية (ومنها “صلي علنبي” ولا أزال استخدمها بعفوية إلى هذا التاريخ) مازجا بين الإسلام والعدالة الاجتماعية وبالتالي السير لتحقيق الاشتراكية. ولهذا وقعوا في حيرة من ” دين هذا الأستاذ ” . وزاد الأمر غموضا عندما سألوا مدرّس التشريح عني (وكان في عقله وشّة) فأجابهم : كان مسيحيا وأسلم ولم يستطع تغيير كنيته فغيّر اسمه.

كانت قبل ذلك قد ترسّخت لديّ قناعة أثناء نشاطي السياسي السابق خلاصتها: أن الحزب الشيوعي، (المنتشر عموما بين المسيحيين الأرثوذكس والأكراد، وبنسب أقل بين المسلمين العرب) لا يمكن أن يصبح حزبا جماهيريا إذا لم يستطع كسب أفئدة الشباب السنة، فهم أكثرية المجتمع، وبدونهم سيبقى اليسار العربي ومن ضمنه الحزب الشيوعي ضعيفا لا يمكنه التغيير والسير نحو الإشتراكية.

هذا الإتجاه استقيته من ابن عمي خليل حنا وسرتُ على خطاه. خليل كان مدرّساَ للرياضيات عام 1956 في ثانوية الميدان في الحي الشعبي إلى الجنوب من دمشق . وقد حقق نجاحا في كسب قلوب عدد من طلابه ، وشارك في حفلتيّ ذِكِر في الميدان ، منطلقا من قناعته بالتقرب من المؤمنين المسلمين وكسبهم في مسيرة النضال من أجل الإشتراكية . وهكذا سرت  ُعلى خطاه.

أذكر هنا على سبيل المثال واقعتين:

الأولى جرت عام 1957 عندما طلب مني الحزب الشيوعي أن أقود منظمة حي القصاع المسيحي. فرفضت وأجبتُ المسؤول قائلا: سسيضيع وقتي في العمل بين المسيحيين سدى، وإذا لم تؤيد “أمة لا إله إلا الله ” الحزب فلا جدوى من العمل. فاقتُرح عليّ االعمل في أحياء باب الجابية وباب السريجة وباب مصلى الاسلامية ، فوافقت فورا، وأطلقتُ على نفسي اسم “عبد الله الخليل” حاذفا اسم “حنا ” المشير إلى أنني مسيحي (بالهوية طبعا). وكانت فترة العمل في تلك الأحياء منعشة لآمالي في تحقيق الغاية ، التي أصبو إليها في كسب المسلمين لليسار عموما وللحزب الشيوعي. ولكن آمالي سرعان ما تحطمت.

فقد جاءت الوحدة بين سورية ومصر وأنا من أنصارها، فقلبت الدنيا رأسا على عقب. فالمخابرات المصرية ذات الباع الطويل في قمع اليسار، ومباحث الضابط الوطني السابق عبد الحميد السراج، الذي أصبح وزيرا للداخلية في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة انقلب على عقبه وأسهم في تأسيس مباحث سلطانية غاشمة ، لم تكن سورية بعهدها الديموقراطي تعرفها.

الواقعة الثانية جرت في ربيع 1957 عندما قام الطلاب الشيوعيون وأنصارهم في الجامعة السورية برحلة إلى الأردن استغرقت ثلاثة أيام ورمت إلى توطيد العلاقة مع الوطنيين الأردنيين وفي مقدمتهم الشيوعيين. زرنا في أريحا قبر الطالبة رجاء حسن أبو عمّاشة، التي سقطت صريعة برصاص الشرطة أثناء مشاركتها في إحدى المظاهرات الوطنية المناهضة للإستعمار. طُلِبَ مني إلقاء كلمة أمام القبر. وبعفوية، ودون تفكير مُسبق، دعوت المستمعين ، قبل إلقاء كلمتي، إلى قراءة الفاتحة على روح الشهيدة.

وغالبا ما أشكل اسمي على الكثيرين، الذين يظنون أن اسم عبد الله “اسم مسلم”.

فمدرس الفيزياء فؤاد خوري في درعا كان ضليعا في مادته وهو على جانب من الدروشة والتواضع. كان كثير من المدرسين يجتمعون أسبوعيا في سهرة عامة. وبعد سنتين من هذه اللقاءات أشار أحدهم ببراءة وعفوية أنني مسيحي. عندها جحظت عينا الأستاذ فؤاد خوري ونظر إلىّ بتعجب مستفسرا هل أنت مسيحي هذا غير معقول.

أثناء مؤتمر تاريخي اجتماعي في عدن كنتُ مشاركا فيه. وفي اليوم الأخير دُعيت إلى لقاء تلفزيوني ، يبدو أن حديثي في الجمع بين الإسلام والعروبة أثارهم . وبعد تسجيل اللقاء جلستُ مع أربعة يمنيين وأثناء الحديث ، نظر إليّ أحدهم متسائلا باستغراب تركيبة اسمي . فعبد الله حسب معلوماته اسم مسلم وحنا اسم مسيحي  ، وبادرني بالسؤال : ما هو دينك ؟ .. فأجبته على الفور: بلهحة تحمل الجدّ والهزل ” مسلم روم “.

وختاما وعطفا على ما سبق أورد العلاقة الحميمية بين الطبيب النهضوي العلماني شبلي شميلّ مترجم نظرية دارون وصديقه الشيخ السلفي النهضوي رشيد رضا ، وكلاهما نشأ في لبنان ونشطا في مصر.

الشيخ محمد رشيد رضا الداعية إلى التجديد الديني الإسلامي (وصاحب مجلة “المنار” القاهرية) السلفية التنويرية (المولود في بلدة القلمون إلى الجنوب من طرابلس الشام والمنتقل إلى مصر عام 7981 عقد صداقة حميمية مع شبلي شميل (اللبناني والمسيحي بالولادة) على الرغم من اختلافهما في الرأي. وظاهرة العلاقة الإيجابية بين الرجلين تسترعي الإنتباه.

يقدم الدكتور شميل في هذا المجال نموذجاً لتعامل العلمانيين مع الآراء الدينية النهضوية.

هذا الخط المتمسك بالعلمية والعلمانية والمبدئية الصادقة من جانب شميل لم يمنعه من العمل المشترك والصداقة الشخصية مع السلفي النهضوي محمد رشيد رضا ، إلى درجة دفعت الأخير إلى الدفاع عن شميل عندما ترشّح لعضوية مجلس المبعوثان عن ولاية بيروت . ولم ينس رشيد رضا صديقه بعد وفاته فنشر في مجلته المنار مقالة في رثاء شميلّ وزاد عليها إلقاءه كلمة تأبين في أربعينيته. 

وقبل وفاة شميّل بسنوات أرسل لصديقه رشيد رضا رسالة نشرتها مجلة رشيد رضا، هذا نصّها:

“إلى غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار:

أنت تنظر إلى محمد كنبي فتجعله عظيما وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم. ونحن وإن كناّ في الإعتقاد أو المبدأ الديني على طرفي نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.

من صديقك الدكتور شميل”.

وعلقت مجلة المنار على رسالة شميّل بمقالة جاء فيها:

” … كان الدكتور شبلي شميل من دعاة الاشتراكية وهو مستقل برأيه فيها غير مقلّد لطائفة من طوائفها . وكان ماديا في آرائه وأفكاره، إلا أنه كان متحليا بكثير من الأخلاق الحسنة المحمودة كالرأفة والسخاء والصدق والوفاء والنجدة والمروءة والشجاعة وغير ذلك.

من العدد ٥٥ من جريدة المسار