نادر عازر
شهد تاريخ البشرية الطويل، حركات ثورية كبيرة ومعقدة، كانت متوقعة للبعض ومفاجئة للبعض الآخر. وتفاوتت بشكل كبير في أساليبها ومدتها الزمنية وأيديولوجيتها المحفزة، كما شملت نتائجها تغييرات واسعة في والاقتصاد والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وعادة ما كان ذلك استجابةً لحكم أوتوقراطي ساحق (حكم الفرد) أو حكم بلوتوقراطي (حكم الأثرياء).
فاختلفت التعريفات والتفسيرات لهذه الظاهرة، ووصلت إلى حد التناقض، عندما وصف بعضها بانقلابات عسكرية وأخرى بثورات. وحديثاً، زاد الجدل أيضاً حول ما يجري الآن في الدول العربية وسوريا حيث يسميها البعض مؤامرة خارجية ومخططات إمبريالية أو حراك شعبي وانتفاضة أو ثورة وربيع عربي.
وعند العودة إلى القرون الأخيرة، تبرز ثورات عديدة ومنها:
-
إنشاء الولايات المتحدة من خلال الحرب الثورية الأمريكية (١٧٧٥ -١٧٨٣).
-
الثورة الفرنسية (١٧٨٩ -١٧٩٩).
-
حروب الاستقلال الإسبانية الأمريكية (١٨٠٨ -١٨٢٦).
-
الثورات الأوروبية عام ١٨٤٨.
-
الثورة الروسية عام ١٩١٧.
-
الثورة الصينية عام ١٩٤٦.
-
الثورة الكوبية عام ١٩٥٩.
-
الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩.
-
الثورات الأوروبية التي أسقطت الأنظمة الشيوعية عام ١٩٨٩.
وبالنظر إلى المفكرين الماركسيين فإنهم ساهموا كثيراً في تفسير حدوث الثورات وإيجاد التعريفات لها، وأثروا فكرياً بشكل عميق، وقسّم معظمهم الثورات إلى:
-
ما قبل رأسمالية.
-
برجوازية مبكرة.
-
برجوازية.
-
برجوازية ديمقراطية.
-
بروليتارية مبكرة.
-
اشتراكية.
لكن ماذا قال الفكر الذي سبق الماركسية؟ وكيف يرى الفكر الحديث الثورة ومفهومها؟
تُعرِّف العلوم السياسية الثورة على أنها تغيير جوهري ومفاجئ نسبياً في السلطة السياسية والتنظيم السياسي والمؤسسات الاجتماعية، وتحدث عندما يثور السكان ضد الحكومة، عادةً بسبب قمع ملموس (سياسي، اجتماعي، اقتصادي) أو عدم الكفاءة السياسية.
وباللغة اللاتينية تعني كلمة ثورة revolutio انعطافة أو استدارة.
REVOLUTION
تعني كلمة ثورة في الانكليزية تغييراً شاملاً في الأوضاع العامة من مختلف جوانبها.
الفيلسوف اليوناني أرسطو، قسّم الثورة، بمفهومها السياسي، في كتابه “السياسة -الخامس” إلى نوعين:
١- تغيير كامل من دستور إلى آخر.
٢- تعديل دستور قائم.
ويعود أول استخدام موثّق لكلمة “ثورة” في سياق التغيير المفاجئ في النظام الاجتماعي إلى عام ١٤٥٠ على الأقل. وتم ترسيخ الاستخدام السياسي للمصطلح بحلول عام ١٦٨٨ في وصف استبدال ملك إنجلترا جيمس الثاني بوليام الثالث، وقد أطلق على هذه الحادثة اسم “الثورة المجيدة”.
تم استخدام مصطلح الثورة أيضاً للإشارة إلى تغييرات كبيرة خارج المجال السياسي، مثل التحولات الاجتماعية والثقافية والأدبية والفلسفية والعلمية والتكنولوجية، التي يمكن أن يكون بعضها عالمياً، بينما يقتصر البعض الآخر على بلدان بمفردها. وفي هذا السياق تأتي الثورة الصناعية والثورة العلمية والثورة التجارية والثورة الرقمية.
المؤرخ والمنظّر السياسي الفرنسي الكيس دو توكفيل فرَّق بين:
الثورات السياسية، والثورات المفاجئة والعنيفة التي لا تسعى فقط إلى إقامة نظام سياسي جديد بل إلى تغيير المجتمع بأكمله.
التحولات البطيئة والشاملة للمجتمع بأسره، والتي تستغرق عدة أجيال لإحداثها (مثل التغييرات في الدين).
أما المنظّرة السياسية حنة آرندت قدّمت مقارنة بين ثورتين رئيسيتين في القرن الثامن عشر، الفرنسية والأمريكية. وعارضت وجهات نظر ماركسية ويسارية مُجادلة بأن الثورة الفرنسية كانت كارثة، وأن نقطة التحول كانت عندما رفض القادة أهدافهم في الحرية، من أجل التركيز على التعاطف مع الجماهير والاكتفاء بمطالبتهم بالخبز بدل العمل، فنسي الناس أسماء قادتها.
فيما الثورة الأمريكية، التي تم تجاهلها إلى حد كبير، كانت ناجحة، حيث لم يخن المؤسسون أبداً هدف التحرر الدستوري، وكانوا فاعلين حقيقيين، وأن دستورهم خلق جماهيراً تساعد على العمل، فيتذكر الناس أسمائهم دوماً.
تفاءلت آرندت بالحركات اللاعنفية التي من شأنها أن تعيد الحكومات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، واتضح أن تنبؤاتها صحيحة إلى حد كبير. إلا أن المؤرخ الماركسي إريك هوبسباوم، انتقدها قائلاً إن نهجها انتقائي، واستبعَدت ثورات لم تحدث في الغرب، ووصفَت الثورة الروسية بشكل خاطئ، وأن مفهومها المعياري للثورة يعتمد على المثالية الفلسفية القديمة.
وفي الفكر المعاصر، فإن عالمة الاجتماع الأمريكية ثيدا سكوكبول عرّفت الثورة بأنها “تحولات سريعة وأساسية لدولة المجتمع وهياكله الطبقية مصحوبة جزئياً بالثورات الطبقية من أسفل”، وعزَت الثورات إلى اقتران صراعات متعددة تشمل الدولة والنخب والطبقات الدنيا.
ومن جهته، يفرّق عالم الاجتماع والسياسة الأمريكي تشارلز تيلي، بين:
الانقلاب (أي الاستيلاء على السلطة من أعلى إلى أسفل)، والحرب الأهلية، والثورة، والثورة الكبرى التي تغيّر الهياكل الاقتصادية والاجتماعية وكذلك المؤسسات السياسية، مثل الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، والثورة الروسية عام ١٩١٧، والثورة الإسلامية الإيرانية ١٩٧٩.
فيما صنّف الباحث الأمريكي مارك كاتز الثورات على النحو التالي:
مركزية: في دول عادة من القوى العظمى، التي تلعب دوراً رائداً في قيام موجة ثورية، مثل الاتحاد السوفييتي، وألمانيا النازية، وإيران الإسلامية.
ثورات طموحة تعقب الثورات المركزية.
الثورات التابعة أو “الدُمية”.
الثورات التنافسية، مثل يوغوسلافيا الشيوعية، والصين بعد عام ١٩٦٩.
البعد الآخر لتصنيف كاتز هو أن الثورات إما ضد الملكية أو الديكتاتورية أو الشيوعية أو الديمقراطية أو مؤيدة للفاشية أو الشيوعية أو القومية.
أما البروفيسور في علم الاجتماع في جامعة هارفارد جيف جودوين قدّم تعريفين للثورة:
الأول، واسع، ويشمل جميع الحالات التي أطيحَت فيها دولة أو نظام سياسي، وتحوّلت بواسطة حركة شعبية، بطريقة غير منتظمة أو غير دستورية أو عنيفة.
الثاني، ضيّق، قال إن الثورات لا تتضمن فقط تعبئة جماهيرية وتغيير أنظمة فحسب، بل يتبعها تغيير جوهري اجتماعي واقتصادي وثقافي خلال فترة الصراع من أجل السلطة وما بعدها.
من ناحيته، عرّف عالم الاجتماع والسياسة الأمريكي جاك غولدستون الثورة بأنها:
محاولة لتغيير المؤسسات السياسية ومبررات السلطة السياسية في المجتمع، مصحوبة بتعبئة جماهيرية رسمية أو غير رسمية وإجراءات غير مؤسسية تقوض السلطات.
وتحدّث عن أربعة “أجيال” حالية من الأبحاث العلمية التي تناولت الثورات.
الجيل الأول:
قال إنهم وصفيون في نهجهم، وكانت تفسيراتهم لظواهر الثورات مرتبطة عادةً بعلم النفس الاجتماعي. ومنهم جوستاف لوبون وبيتريم سوروكين.
الجيل الثاني:
سعى منظرو الجيل الثاني إلى تطوير نظريات مفصلة عن أسباب وتوقيت حدوث الثورات، على أساس نظريات السلوك الاجتماعي الأكثر تعقيداً. ومنهم تشالمرز جونسون، وتشارلز تيلي، وصامويل هنتنغتون.
ويمكن تقسيم أعمالهم إلى ثلاثة مناهج رئيسية: نفسية واجتماعية وسياسية.
اتبع منظرو المنهج النفسي نظريات علم النفس المعرفي وفرضية الإحباط-العدوان ورأوا سبب الثورة في الحالة الذهنية للجماهير، واتفقوا على أن السبب الرئيسي للثورة هو الإحباط المنتشر من الوضع الاجتماعي والسياسي، لكنهم اختلفوا في تحديد الأسباب الدقيقة لثورة الناس (مثل: التحديث أو الركود أو التمييز).
أما أصحاب المنهج الاجتماعي، ساروا على خطى النظرية البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع. ورأوا المجتمع كنظام في التوازن بين مختلف الموارد والمطالب والأنظمة الفرعية (السياسية والثقافية). وكما في المدرسة النفسية، اختلفوا في تعريفاتهم لما يسبب عدم التوازن، لكنهم اتفقوا على أن حالة عدم التوازن الشديد هي المسؤولة عن الثورات.
أصحاب المنهج السياسي بحثوا في نظريتي التعددية وصراع مجموعات المصالح، اللتان تنظران إلى الأحداث على أنها نتائج صراع على السلطة بين مجموعات المصالح المتنافسة. في مثل هذا النموذج، تحدث الثورات عندما لا تتمكن مجموعتان أو أكثر من التوصل إلى تفاهم ضمن عملية صنع القرار العادية التقليدية لنظام سياسي معين، وفي نفس الوقت يكون لديهم موارد كافية لتوظيف القوة في السعي لتحقيق أهدافهم.
رأى منظرو الجيل الثاني في تطور الثورات عملية من خطوتين. الأولى، تنتج عن تغيير الوضع السابق. والثانية، خلق فرصة الثورة من خلال الوضع الجديد. وفي هذه الحالة، يكون الحدث الذي لم يكن كافياً في الماضي لإحداث ثورة، مثل حرب أو أعمال شغب، كافياً الآن. ومع ذلك، إذا كانت السلطات على دراية بالخطر، فلا يزال بإمكانها منع الثورة من خلال الإصلاح أو القمع.
بمرور الوقت، بدأ العلماء في تحليل مئات الأحداث الأخرى على أنها ثورات، وأدت الاختلافات في التعريفات والمناهج إلى ظهور تعريفات وتفسيرات جديدة. وانتقدت نظريات الجيل الثاني بسبب نطاقها الجغرافي المحدود، وصعوبة التحقق التجريبي، فضلاً عن أنها لم تشرح سبب عدم حدوث الثورات في مجتمعات أخرى في مواقف مشابهة جداً.
الجيل الثالث:
أدى انتقاد الجيل الثاني إلى ظهور جيل ثالث من النظريات، مع توسّع كتاب مثل ثيدا سكوكبول، وبارينجتون مور، على نهج الصراع الطبقي الماركسي، وتحويل انتباههم إلى صراعات الدولة الزراعية الريفية، وصراعات الدولة مع النخب المستقلة، وتأثير المنافسة الاقتصادية والعسكرية بين الدول على التغيير السياسي المحلي.
ومنذ أواخر الثمانينيات، بدأت مجموعة جديدة من الأعمال العلمية في التشكيك في هيمنة نظريات الجيل الثالث. وتعرّضت النظريات القديمة أيضاً لضربة كبيرة من خلال الأحداث الثورية الجديدة التي لم يكن من السهل تفسيرها، مثل الثورتين الإيرانية والنيكاراغوية عام ١٩٧٩، وثورة سلطة الشعب عام ١٩٨٦ في الفلبين وخريف الأمم التي أسقطت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية عام ١٩٨٩، حيث شهدت جميعها تحالفات عابرة للطبقات أطاحت بأنظمة اعتبرت قوية، من خلال مظاهرات شعبية وإضرابات جماهيرية وثورات لاعنفية.
الجيل الرابع:
لم يعد يرى الباحثون تعريف الثورات على أنها غالباً تجري بسبب صراعات طبقية أو في دولة أوروبية عنيفة ما في مواجهة مواطنيها، بل أكدوا على أهمية تطبيق نظريات بنيوية قديمة وحديثة على أحداث خارج أوروبا، ودعوا إلى مزيد من الاهتمام بالفاعلية الواعية والأيديولوجيا والثقافة في تشكيل التعبئة الثورية والأهداف. كما أدركوا أنه يوجد ظواهر كثيرة مشتركة بين الثورات والحركات الاجتماعية.
أما الاقتصادي دوغلاس نورث جادل بأنه من الأسهل على الثوريين تغيير المؤسسات السياسية الرسمية مثل القوانين والدساتير بدلاً من تغيير الأعراف الاجتماعية غير الرسمية.
وقال إن التناقضات بين المؤسسات الرسمية سريعة التغيّر، فيما المؤسسات غير الرسمية بطيئة التغيّر ويمكن أن تمنع التغيير الاجتماعي والسياسي الفعال. وبسبب هذا، فإن إعادة الهيكلة السياسية الثورية يكون تأثيرها طويل المدى، وغالباً ما تكون أكثر اعتدالاً من التأثير الظاهري قصير المدى.
يمكن للأزمات أن تكون ناتجة عن ثورات…
مثلاً حصلت أزمة سلطة في روسيا بعد ثورة شباط ١٩١٧ التي أسقطت الحكم القيصري من خلال ازدواجية السلطة بين سلطتين متنافستين هما (الحكومة المؤقتة برئاسة الأمير لفوف ثم كيرنسكي) و (مجالس السوفيتات) التي نشأت مباشرة أيضاً بعد نجاح ثورة شباط.
أمام تنامي قوة المجالس السوفياتية للعمال والفلاحين (ثم الجنود) حاول قائد الجيش “كورنيلوف” حسم هذه الازدواجية بالسلطة الروسية من خلال حركة عسكرية لقلب حكومة كيرنسكي في آب ١٩١٧ والإمساك بالسلطة، حيث وقف لينين مع كيرنسكي ضد كورنيلوف وأحبطا معاً محاولته العسكرية لاستلام السلطة السياسية، رغم تصادم واعتقالات كيرنسكي للبلاشفة في تموز.
في أكتوبر ١٩١٧ أطاح لينين بكيرنسكي، وقادت ثورة أكتوبر إلى حرب أهلية ١٩١٧-١٩٢٠ كان انتصار البلاشفة فيها حسماً لأزمة السلطة الروسية.
في انكلترا حصلت ثورة البرلمان ضد سلطة الملك المطلقة بين عامي ١٦٤٢ و ١٦٤٩. قادت هذه الثورة إلى حرب أهلية بين مركزين للسلطة في لندن وأوكسفورد، وإلى انقسام طبقي متجابه ومتحارب بين التجار والمزارعين الأغنياء وأصحاب الشركات البحريةK وبين الأرستقراطيين والكهنة بالكنيسة الأنجليكانية، وإلى جيشين متحاربين، وإلى انقسام مناطقي بين لندن وجنوبها ومدن الساحل الشرقي ومدينة مثل برمنغهام مزدهرة فيها الحرف والمانيفاكتورات وبين شمال لندن وغربها الريفيين، وشكل أيديولوجي: طائفة البيوريتان ضد الكنيسة الأنجليكانية التي يرأسها الملك.
انتصر البرلمان على الملك وقطع رأس الأخير وأقيم (الكومونويلث) برئاسة أوليفر كرومويل. لم تعمر السلطة غير الملكية سوى أحد عشر عاماً وعادت الملكية عام ١٦٦٠، ولكنها لم تستطع الاستمرار في طريقة السلطة المطلقة.
احتاج حل أزمة السلطة في انكلترا إلى ثورة ١٦٨٨ – ١٦٨٩ لحل أزمة السلطة من خلال انشاء الملكية الدستورية: الملك يملك ولا يحكم حيث تحكم الحكومة المنبثقة عن البرلمان، الذي كانت ثورته ضد سلطة الملك منذ عام ١٦٤٢ تعبيراً عن وجود أزمة سلطة، وهو ما احتاجت انكلترا لحلها إلى ثورتين تخللهما حرب أهلية.
كان وضع انكلترا مختلفاً عن روسيا: أزمة سلطة بين الملك صاحب السلطة المطلقة وبين البرلمان قادت لثورة قادت بدورها لحرب أهلية، ثم أزمة سلطة بعد موت كرومويل عام ١٦٥٨ حسمت بعودة الملك بعد سنتين ثم تناقض بين مجتمع وسلطة أصبحت بشكل متدرج بالثمانينيات ضعيفة التمثيل الاجتماعي مما قاد لثورة حسمت سؤال (من يحكم: البرلمان أم الملك؟) بعام ١٦٨٩، وهو نفس سؤال ١٦٤٢.
في روسيا ثورة قادت لازدواجية سلطة حسمت بثورة ثانية قادت بدورها إلى حرب أهلية قاد انتصار البلاشفة فيها إلى تفردهم بالسلطة. في الصين عام ١٩٤٧ حصلت حرب أهلية مسلحة بين الشيوعيين والقوميين (حزب الكيومنتانغ) قادت مع انتصار الشيوعيين عام ١٩٤٩ إلى ثورة.
تروتسكي، هنا، يعطي تعريفاً للحرب الأهلية: “لا تعلن تجزئة السلطة عن شيء آخر غير الحرب الأهلية”.
في انكلترا ١٦٤٢ – ١٦٤٩ هناك حرب أهلية، وفي روسيا ١٩١٧-١٩٢٠ توجد حرب أهلية. في سوريا ما بعد ١٨ آذار ٢٠١١ لا توجد حرب أهلية، رغم وجود مناطق غير خاضعة لسلطة دمشق، مثل شرق الفرات وادلب وشمال حلب، حاولت إقامة سلطات موازية هناك. هنا لا يوجد تماثل مع الحالتين الانكليزية والروسية المشار إليهما.
لم تكن هناك ثورة في سورية ما بعد ١٨ آذار ٢٠١١ إذا أخذنا تعريف الأكاديمي الأميركي تشارلز تيلي للثورة، وهو الدارس الرئيسي لميكانيزمات الحركات الاجتماعية: “هي تحويل عنيف للسلطة عبر عملية صراع تتضمن على الأقل تكتلين واضحي المعالم من المتنافسين بمطالب، التي لا يمكن مزجها مع بعض في خليط واضح، من أجل السيطرة على الدولة عبر شرائح بارزة العدد من السكان تدعم مطالب المتنافسين”.
ضمن آليات مصطلح “الثورة” عند تيلي يمكن إدراج “الانقلاب” و “الحرب الأهلية” و “التمرد”.
هو يرى أن هناك انقلابات أنتجت ثورة في العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية من حيث النتيجة، مثل الانقلاب العسكري عام ١٩٥٢ في مصر، وأن هناك حروب أهلية كانت نتيجتها ثورية مثل الحرب الأهلية في انكلترا ١٦٤٢ – ١٦٤٩.
أنتج تيلي في العلوم السياسية فرعاً جديداً هو (علم سياسة النزاعات)، وقد بدأ منذ الستينيات، على ضوء الثورة الطلابية بفرنسا، بدراسة مسار الاضطراب الاجتماعي الفرنسي ليس من ثورة ١٧٨٩ بل من ثورة ١٨٣٠.
أنتج تيلي كتابه: “من التعبئة إلى الثورة”، عام ١٩٧٧، ليفتح مجالاً جديداً في علم السياسة. في كتابه هذا يبدأ من عام ١٧٦٥ في بريطانيا.
طبعاً، مفهوم تيلي لـ “الثورة” يتضمن حتى الثورات الفاشلة، مثل ثورة ١٨٤٨ في فرنسا التي انتهت عام ١٨٥١ بانقلاب وديكتاتورية لويس بونابرت وحله للمؤسسة البرلمانية قبل إعلانه الامبراطورية الثانية بالعام التالي، أو ثورة ١٩٠٥ الروسية الفاشلة ضد الحكم القيصري.
إلى جانب هذه المحاولات العديدة في تفسير هذه الظواهر الإنسانية المعقدة، توجد العشرات غيرها، وسيحمل المستقبل ما هو جديد أيضاً. لكن تبقى أسئلة قائمة، وهي كيف سيتم تصنيف ما يجري الآن في الدول العربية وسوريا؟ وكيف سيحكم التاريخ عليها؟