رامز مكرم باكير
الثقافة “Culture” هي واحدة من أكثر الكلمات تعقيداً في اللغة الإنجليزية”، ويمكن بسهولة قول الشيء نفسه معناها في العربية او حتى في الألمانية، ومع تشابه معنى هذه الكلمة، يبقى لها صداها الخاص بدلالاتها ومعانيها المختلفة في كل لغة أيما كانت.
كان معظم مفكري القرن العشرين حساسين تجاه لهذه الكلمة لتداعياتها المتناقضة ودلالاتها، من أهمهم ثيودور أدورنو.
يعتبر البعض أدورنو أحد أهم الفلاسفة والنقاد الاجتماعيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بينما يعتبره آخرون “مبالغاً فيه بشكل غير معقول”. مهما كانت الحالة، كان ثيودور أدورنو (١٩٠٣ – ١٩٦٩) عضواً رائداً في مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية، ومن أكثر من نقد الفكر الغربي الحداثي وحتى ما بعد الحداثي.
كتب أدورنو عن “الثقافة” بكل معاني الكلمة. ولم تأت كتاباته النقدية عن الفن والثقافة وحتى الفلسفة من مواقف نظرية فحسب، فقد كان أدورنو موسيقياً بارعاً ايضاً، فقد دراسة التأليف الموسيقي في فيينا مع ألبان بيرج بعد أن حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة في مدينة فرانكفورت عام ١٩٢٤، لذلك كان قادراً على تحليل ودراسة العديد من القضايا الفنية والنقدية من الداخل فقد كان فناناً بقدر كونه مفكراً وفيلسوفاً. لذلك نجده قد شكك في الحدود الفاصلة بين النقد والخلق او الإبداع، ولكن دون أن يمحو هذه الحدود بشكل تام. ولا يمكن الحديث عن الثقافة قبل أن نشير إلى الاختلاف الأساسي بين معانيها الأنثروبولوجية والنخبوية.
فبالنسبة للأولى، التي يمكن إرجاعها في ألمانيا إلى هيردر على الأقل، تشير الثقافة إلى أسلوب حياة متكامل: من الممارسات والطقوس والمؤسسات والأعمال الفنية بماديتها، وإلى النصوص والأفكار والصور.
أما بالنسبة للأخيرة “معاني الثقافة النخبوية”، فقد تطورت في ألمانيا كعنصر مساعد لحل التناقضات الداخلية وخصوصاً الشخصية مع سطحية أخلاق البلاط “او بمعنى اخر الطبقة الحاكمة”، و يتم تحديد الثقافة بالفن والفلسفة والأدب وما إلى ذلك، فهي تمثل “المساعي الإنسانية” المزعومة “للمثقفين”. وباعتبار الثقافة بوابة للدين في بعض الأحيان، أو حتى على مستوى القيم “كما يلاحظ في مجتمعاتنا العربية”، فقد برزت “الثقافة” في القرن التاسع عشر كمستودع معاني للإشارة الى أسمى إنجازات الإنسان وأسمى قيمه، وغالباً ما تعارضت مع الثقافة “الشعبية” ولا نستطيع ان نخفي او ننكر الدلالات الهرمية والنخبوية لكلمة “الثقافة” ، لذلك فغالبًا ما أثارت العداء من النقاد الشعبويين أو الراديكاليين حتى.
اتخذت تأملات أدورنو حول هذه المعاني المتعددة للثقافة أشكالاً عديدة . وبصفته مهاجراً يهودياً في نيويورك و جنوب كاليفورنيا، فقد كان كثير التنقل بين أجواء الثقافة الألمانية والثقافة الأنجلو أمريكية، ومع أنه عاد إلى ألمانيته في آخر المطاف إلا أنه بقي يشعر طوال الوقت بالغربة الشديدة عن كلاهما. حتى بعد عودته الى التدريس في موطنه فرانكفورت في عام ١٩٥٣.
ومع زيادة اهتمام أدورنو بمفهوم الثقافة، ومساعي تعريفها بشكل أوسع وأشمل، أصر أدورنو على تشابك الواقع المادي والمثالي أو الروحي في معناها. للتمييز بشكل مجرد بين مجال الثقافة الرفيعة “ثقافة النخب الرفيعة”، وبين المصالح والاحتياجات الإنسانية الأساسية وحتى المعرفية، فعلى سبيل المثال، الجماليات الكانطية، كانت بمثابة إنكار للمتعة الحسية المادية في “الثقافة”، والتي احتوى جانبها الحسي على تصور مادي مسبق لما هو أكثر عمومية ومثالية. علاوة على ذلك، فإن الاحتفاء بالثقافة فقط لتجاوزها للاهتمامات المادية كان بمثابة تقويض كامل لإمكاناتها.
فالجانب الماركسي في أدورنو لم يثق بأي مفهوم “للثقافة” إذا ما انسلخ عن سياقاته الاجتماعية الطبقية وخصوصاً إذا ما كانت ملوثة في عدم المساواة.
الصناعة الثقافية:
كان ثيودور أدورنو أول من صاغ مصطلح “صناعة الثقافة”، ويشير إلى الإنتاج الضخم أو الشامل للمنتجات الثقافية. والتي تحولت بشكل كبير إلى سلع تنتج وتسوق ومن ثم توزع وتباع مثل الموسيقى والكتب وبعض الأعمال الفنية والأفلام وما إلى ذلك. مثلها مثل أي سلع أخرى، فكانت رؤيته للصناعة الثقافية رؤية ماركسية بامتياز، حيث تشكل الثقافة الشعبية هيكل المصنع والذي فيه يتم إنشاء هذه الإنتاجات الجماعية “الإبداعية”.
وكان كتاب “جدل التنوير” والذي شارك في تأليفه أدورنو مع رفيق عمره ماكس هوركهايمر، أهمية كبيرة لوضع أسس النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت الفكرية. حيث يناقش الكتاب بشكل معمق وتحليلي كيف تولد الميديا نوع من التجانس أو التشابه الكئيب في كل منتج ثقافي. وكيف من خلال هذه الظاهرة يتناقض الإنتاج الكمي مع الحرفية والاتقان في العمل، مع أن السلع التي يصنعها الحرفيون تبقى فريدة من نوعها وتحافظ على نوع من “هالة” او خصوصية المصمم أو الفنان. والتي استمرت حتى بدأت المنتجات تحاكي نمط الإنتاج الكمي الميكانيكي، ونتيجتاً لذلك، اصبحت الثقافة تحاكي أنماط الإنتاج الحديثة إلى حد كبير، حتى تصوراتنا الجمالية لم تسلم.
ويشخص كل من أدورنو وهوركهايمر الصناعة الثقافية على أنها آلية للسيطرة النفسية والاجتماعية، وتأبيد للأمر الواقع. وفي ظل هيمنة الرأسمالية الأمريكية، تلعب “الصناعة الثقافية” دور الديكتاتور على الذوق والرأي العام، كونها أداة للهيمنة الفكرية. فتخضع الجماهير لحالة من التبلد والجمود الثقافي.
ومن أكثر ما يثير الدهشة والغرابة هنا، أن كلاً من أدورنو وهوركهايمر كانا يكتبان عن الديكتاتورية في الولايات المتحدة في الأربعينات، في الفترة نفسها التي كانا قد هربا فيه للتو من ألمانيا النازية. وكما كان الحال مع المفكرين الماركسيين في فترة ما بعد الحرب العالمية، فقد حاول أدورنو فهم السبب وراء معارضة الجماهير لفكرة الثورة، على الرغم من كل التناقضات الاقتصادية التي كانوا يعيشونها، لا سيما عدم المساواة والاغتراب الكبيرين، بل ويفضلون أن يكونوا مستهلكين نائمين، وغير فاعلين، على أن يثوروا من أجل عالم أفضل او حتى ان يفكرو او يتصوروا هكذا عالم حيث يكونون فيه محققين لذاتهم وحريتهم الفكرية.
الثقافة الشعبية، وثقافة البوب:
من أكثر الأعمال الفنية تجسيداً لمفهوم الصناعة الثقافية كانت مطبوعات اندي وارهول التكرارية الشهيرة حيث عكست هذه الاعمال نقداً صارخاً للثقافة الحديثة. ولم تكن مطبوعات صور مارلين مونرو هي الوحيدة التي استخدمها آندي وارهول في هذه المطبوعات الفنية، فقد استخدم أيضاً إلفيس بريسلي وكذلك جاكي أوناسيس، وحتى وصلت مواصيله لماو تسي تونغ. ومن الأعمال الفنية الأخرى التي أنتجها آندي بكميات كبيرة علبة شوربة كامبل التي كان يحب تناولها. وتضمن هذا العرض اثنين وثلاثين علبة شوربة مختلفة، ولكن هذه المرة كانت جميعها متطابقة.
كان اندي وارهول من أبرز الفنانين الذي ارتبط اسمهم بثقافة البوب والتي ظهرت في بريطانيا والولايات المتحدة مع بداية الخمسينات، والتي لم يصلنا مدها إلا مع انتشار أجهزة التلفزة الملونة في منتصف السبعينات. ونلاحظ أنه يكثر الخلط بين مصطلحي ثقافة البوب والثقافة الشعبية، مع عدم مراعاة الاختلاف الكبير في دلالات ومعاني كل منهما، فالثقافة الشعبية هي مجموعة المنتجات الثقافية التي يتم ترويجها وصناعتها من قبل عامة الناس، وقد تحتوي الكثير من عناصر التراث والسخرية والحكمة الشعبية، حيث انها ترتبط بشكل عضوي بالهوية الجمعية لسكان مكان ما، ومع أن هذه العناصر قد تكون مشابهة لتلك التي نجدها في ثقافة البوب، إلا أن ثقافة البوب تختلف جوهرياً مع الأخرى. ففي ثقافة البوب يتولى إنتاج وتسويق وتوزيع تلك المنتجات وسائل الإعلام “الميديا”، وحقيقة أن جميع هذه المنتجات يتم إنتاجها والإعلان عنها عن طريق تلك المؤسسات والتي تكون في الغالب مؤسسات ربحية، ووفق آليات وسياسات معينة. يعني أن الناس العاديين يشاركون فقط في الاستهلاك.
والمشكلة هي بالأحرى مع الصناعة التي تنتجها وآليتها الربحية ، وكيف أن هدفها الوحيد هو تسويق المنتجات على نطاق واسع وإنتاجها بالجملة بدافع الربح في الدرجة الأولى. لذلك من الصعب أن تجد منتجات ثقافيها رائجة يكون فيها مزايا فنية أو فكرية أو حتى إبداعية في محتواها، فالعملية الإبداعية تحتاج الكثير من التجريب والمغامرة، مما قد يشكل خطورة على ربحية هذه المؤسسات، لهذا نلاحظ أن أكثر شركات الإنتاج تلجأ إلى إعادة تدوير وتكرار أعمال على شاكلة “مسلسل باب الحارة السوري، وافلام الأبطال الخارقين Marvels و DC comics” الأمريكي.
الاحتكار الثقافي:
في الكثير من بلدان العالم اليوم نرى أن كل من السياسة، والأخبار والفن والسينما والموسيقى وكل ما له علاقة بالصناعة الثقافية، يهيمن عليها عدد قليل من المؤسسات الإعلامية الكبرى، “طبعاً ساهم الإنترنت بتقليص دور هذه المؤسسة ولكن بشكل صغير جداً”.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية تستحوذ خمس شركات عملاقة على اكثر من ٩٠٪ من الصناعة الثقافية بقوتها السوقية الكبيرة، وهي شركة Fox, Vicom CBS, COMCAST, AT&T , Disney
وفي المملكة المتحدة تجد مؤسسات مثل “BBC و Sky و ITV” ومن أكبر المعضلات التي تتعاون هذه المؤسسات على الوصول الى حلول لمشكلة عدم الرضا، أو التململ لدى الجماهير من الوضع الراهن. أحد هذه الآلية المتبعة هي دمج مفاهيم التمرد و العدالة الاجتماعية في منتجاتهم الثقافية او الدعائية.
وتعود هذه الفكرة الى جماليات أرسطو ومفهومه عن ال“Catharsis” حيث اننا نتشارك بالعواطف التي تظهر لنا في هذه الأعمال الترفيهية على الرغم من أنها ليست مشاعرنا. ويتم تطبيق هذا المفهوم في الموضوعات المعادية للرأسمالية أو الثورية الزائفة من خلال دمجها في ثقافة البوب، والتي تجعلنا نشعر بالثورية والغضب والتنفيس لمجرد مشاهدتنا وتفاعلنا مع أفلام مثل “فيلم الجوكر”، و “V For Vendetta”، فيلم الجوكر نفسه الذي تجاوزت أرباحه المليار دولار أمريكي.
يقول أدورنو: ” يتحقق انتصار الإعلان في صناعة الثقافة عندما يصبح المستهلكين يشعرون بأنهم مضطرون لشراء منتجاتها واستخدامها على الرغم من أنهم يرون ما هو سلبي من خلالها”.
فكل ما هو إنساني من مشاعر ورغبات، سواء كانت ثورية أو تضامنية، حتى مخاوفنا وشكوكنا ومفاهيمنا عن الأشياء، تحور وتباع لنا مرةً أخرى، ولكن هذه المرة بهدف توجيهنا والهيمنة على عقولنا وإرادتنا، لنشر القيم الاستهلاكية ونوع من الواقعية الرأسمالية.