هناك تعريفات عدة لمفهوم (الأزمة):
1- في “الويكبيديا” نجد التعريف التالي: “أي حدث يتجه نحو إحداث وضع خطر وغير مستقر مما يؤثر على الأفراد، أو مجمل المجتمع. الأزمة ذات تأثير سلبي على الأمن، والقضايا الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية”.
2- يقدم الأكاديمي الدانماركي (بول سفينسون) تعريفين للأزمة السياسية:
A- “الأزمة السياسية ترتبط بالتحديات التي تواجه النظام السياسي بنوع ودرجة يمكن أن تهدد استمراره. هذا النظام. في هذه الحالة يعيش النظام السياسي حالة كامنة من التعطل أوالانحلال (BREAKDOWN)، وهذا التعطل أو الانحلال يمكن أن يظهر على السطح إذا لم يتغير النظام جذرياً في بنيته أو إذا لم تتغير البيئة المحيطة بالنظام”،
B- “الأزمة السياسية هي أشكال من الاحتجاج تصل إلى نطاق يهدد قدرة أصحاب المناصب في السلطة على حفظ النظام وقدرتهم على الاستمرار في ملء أدوار السلطة”.
3- مفهوم أنطونيو غرامشي للأزمة: “الأزمة تتشكل (أوتتكون- CONSIST)بدقة عند واقعة أن القديم يحتضر وأن الجديد لا يستطيع أن يولد”.
من الواضح أن هذه التعريفات الأربعة ل(الأزمة) تُعنى بحالة داخل معين في بلد محدد عند لحظة صراع سياسي بين طرفين أو عدة أطراف محلية.الصراع السياسي هنا يمكن أن يأخذ أشكال سلمية(مظاهرات- اضرابات- اعتصامات) أو شكل عنيف ضد السلطة القائمة.الأزمة هنا تتكون عندما لايستطيع أحد أطراف الصراع الانتصار، وعندما لايستطيع طرفا الصراع (أو أطرافه) الوصول إلى تسوية للصراع.
يمكن لتعريف غرامشي أن يدل على أن القديم عندما ينتصر فإن انتصاره لايعني حلاً للأزمة بل تسكينها أوتحويلها إلى كامنة عبر انتصاره الذي يكون بأشكال عنيفة عسكرية- أمنية محضة ، وفق تعريف سفينسون ل (الحالة الكامنة )، وبالتالي ستكون قابلة للإنفجار وتتظًهر على السطح في زمن “ما” لاحق.عند غرامشي انتصار الجديد على القديم يعني الحل للأزمة جذرياً، فيما التسوية عبر انتقال سياسي لنظام جديد يمكن أن يكون حلاً آخر للأزمة.
مفهوم غرامشي للأزمة يعني أن الأزمة ناتجة عن استعصاء توازني ناتج عن عدم قدرة أحد أطراف الصراع على الحسم وكسر التوازن، وبالتالي فالأزمة هي انسداد توازني في صراع”ما”، وهو ما يستمر ولا يمكن كسره حتى ولو مالت موازين القوى في هذا الميل أو ذاك، إلا أن هذا لايصل إلى الحسم أو الانتصار. يمكن للأزمة أن تصبح مركبة، مثل الأزمة السورية التي كانت داخلية حتى آب 2011 عندما أصبحت إقليمية مع تصادم أنقرة مع دمشق، ثم أصبحت دولية مع الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي بيوم تشرين أول 2011، ثم كان هناك طابق رابع لمبنى الأزمة مع دخول تنظيمات دولية عابرة للحدود مثل (تنظيم القاعدة) الذي أعلن عن تنظيمه الفرعي السوري :”جبهة النصرة” في يوم 23 كانون الثاني 2012 والذي أصبح لاعباً رئيسياً في الصراع السوري، ثم (تنظيم داعش) الذي أعلن تأسيسه في 9 نيسان 2013 وكان محركاً رئيسياً للصراع السوري، ليس فقط داخلياً وإنما في كونه كان دافعاً نحو قلب نظرة أطراف الصراع الدولية والاقليمية للأزمة السورية.
الأزمة السورية كانت مركبة :داخلية- اقليمية- دولية- تنظيمات عابرة للحدود، وفي المسار المتحرك للأزمة، أمسك (الدولي) بمقود الصراع السوري، ونافسه (الاقليمي)، وخاصة أنقرة في فترة خلافها مع واشنطن وموسكو بفترة 2013-2016، على رسم مسار الأزمة السورية،ثم كان تعاون أنقرة وموسكو منذ 9آب2016عاملاً أساسياً في تحديد مسارات عسكرية بالأزمة السورية(الغطاء الروسي لأخذ الأتراك لشريط جرابلس – الباب آب 2016- شباط2017،سقوط شرق مدينة حلب من أيدي المعارضة المسلحة في كانون أول 2016، أخذ الأتراك لعفرين في كانون ثاني 2018،سقوط الغوطة الشرقية من أيدي المعارضة المسلحة في نيسان 2018، سقوط حوران من أيدي المعارضة المسلحة في تموز 2018 ،وأخذ الأتراك لشريط تل أبيض- رأس العين في تشرين أول 2019) ومسارات عسكرية- سياسية (مسار أستانة بين السلطة السورية وفصائل مسلحة معارضة منذ كانون ثاني 2017) ومسار سياسي، مثل مؤتمر سوتشي(كانون ثاني2018)الذي عملياً قاد إلى تسبيق (السلة الدستورية) على (سلة الحكم الانتقالي ) في محادثات جنيف بين السلطة والمعارضة تحت اشراف الأمم المتحدة.
يمكن أن تكون (الأزمة) نتاج (ثورة) أو (انتفاضة) أو (حرب أهلية).
مثلاً حصلت أزمة سلطة في روسيا بعد ثورة شباط1917 التي أسقطت الحكم القيصري من خلال ازدواجية السلطة بين سلطتين متنافستين هما (الحكومة المؤقتة برئاسة الأمير لفوف ثم كرنسكي) و(مجالس السوفيتات)التي نشأت مباشرة أيضاً بعد نجاح ثورة شباط.حسمت أزمة السلطة في ثورة أوكتوبر 1917 باسقاط الحكومة المؤقتة وتولي السوفياتات للسلطة .ثم بعد ثورة أكتوبر حصلت في روسيا 1917-1920 حرب أهلية.في سوريا ما بعد 18 آذار 2011 لاتوجد حرب أهلية،رغم وجود مناطق غير خاضعة لسلطة دمشق،مثل شرق الفرات وادلب – شمال حلب،حاولت إقامة سلطات موازية هناك. هنا لا يوجد تماثل مع الحالتين الانكليزية والروسية المشار إليهما.
لم تكن هناك ثورة في سورية ما بعد درعا 18 آذار 2011 إذا أخذنا تعريف الأكاديمي الأميركي تشارلز تيلي (1929-2008) للثورة، وهو الدارس الرئيسي لميكانيزمات الحركات الاجتماعية :”هي تحويل عنيف للسلطة عبر عملية صراع تتضمن على الأقل تكتلين واضحي المعالم من المتنافسين بمطالب، التي لا يمكن مزجها مع بعض في خليط واضح،من أجل السيطرة على الدولة عبر شرائح بارزة العدد من السكان تدعم مطالب المتنافسين”.ضمن آليات مصطلح (الثورة) عند تيلي يمكن إدراج (الانقلاب)و(الحرب الأهلية)و(التمرد).
هو يرى أن هناك انقلابات أنتجت ثورة في العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية من حيث النتيجة ،مثل الانقلاب العسكري عام 1952 في مصر، وأن هناك حروب أهلية كانت نتيجتها ثورية مثل الحرب الأهلية في انكلترا1642-1649. أنتج تيلي في العلوم السياسية فرعاً جديداً هو (علم سياسة النزاعات)، وقد بدأ منذ الستينيات ،على ضوء الثورة الطلابية بفرنسة، بدراسة مسار الاضطراب الاجتماعي الفرنسي ليس من ثورة 1789 بل من ثورة 1830.أنتج تيلي كتابه :”من التعبئة إلى الثورة”،عام 1977، ليفتح مجالاً جديداً في علم السياسة.
طبعاً، مفهوم تيلي ل(الثورة) يتضمن حتى الثورات الفاشلة،مثل ثورة 1848 في فرنسا التي انتهت عام 1851 بانقلاب وديكتاتورية لويس بونابرت وحله للمؤسسة البرلمانية قبل اعلانه الإمبراطورية الثانية بالعام التالي، أو ثورة 1905 الروسية الفاشلة ضد الحكم القيصري. لم يكن لمن تحرك في المجتمع السوري بدءاً من يوم 18 آذار 2011 معالم كتلة واضحة المعالم ولم يكن لها مطالب محددة تثبت عليها،حيث انتقلت من مطلب (الاصلاح)إ لى (التغيير) إلى (اسقاط النظام) في أربعة أشهر ثم في الشهر السادس بعد أيلول انتقلت نحو السلاح وطلب التدخل العسكري الخارجي.
ربما كان لثبات النظام في مواقعه ورفضه التنازل سبباً في ذلك، كما أن الاصطدام بالجدار المسدود يفسر الانتقال نحو السلاح،وجزئياً يفسر هذا الانتقال نحو العنف المعارض استعمال السلطة السورية للعنف ضد المتظاهرين السلميين. كانت الكتلة الموالية للنظام أكثر تبلوراً من حيث المعالم،وأكثر ثباتاً،وقد مشت وراء السلطة السورية بثبات ولفترة أصبح عمرها الآن دزينة من السنين.بالتوازي مع هذا لم يكن هناك قيادة واضحة للمعارضة السورية تستطيع الامساك بمقود الحركة الاجتماعية المعارضة وتكون هي مركز القرار وهي واضعة البرنامج .إذا انتقلنا للعدد المؤيد للحراك الاجتماعي المعارض فلايمكن مقارنته مع لندن 1642-1649 عندما كانت في ثورتها على الملك تمثل وحدها نصف مليون نسمة يقطن بالعاصمة لوحدها في بلاد يبلغ عد سكانها أربع ملايين ونصف.بالثورة الايرانية ضد الشاه كان مليون شخص في مظاهرة مدينة طهران بيوم عاشوراء المصادف يوم 11كانون أول 1978.
كان عدد سكان طهران يبلغ 4 ملايين و494ألف نسمة عام 1976. رغم لجوء الشاه لحل مغادرة البلاد مع تكليف شخصية معارضة برئاسة الحكومة ،هو شاهبور بختيار، فإن الشارع لم ينقسم بل ظل وراء الخميني الذي تحدى بختيار بعد ثلاثة أيام من توليه منصبه بمظاهرة في يوم 19 كانون ثاني كان فيها ربع سكان طهران بالشارع ضد بختيار.كان الغرب واعياً لحدود قوة بختيار حيث وصفه دبلوماسي غربي بأنه “كرنسكي إيراني” الذي رأس الحكومة المؤقتة التي أسقطها لينين .في 11 شباط 1979 سقط بختيار وتولى الخميني السلطة .في روسيا 1917 كانت بتروغراد وموسكو وراء لينين في ثورة أكتوبر بكتلة عمالية يقودها الحزب البلشفي عبر جهاز هو (مجالس سوفييتات العمال والجنود)، والمدينتان تبلغان خمسة ملايين من أصل 150مليوناً مجمل عد سكان روسيا آنذاك.مع تحالف لينين مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين عشية ثورة أكتوبر قام القائد البلشفي بتأمين قاعدة فلاحية قوية للثورة كانت ظهيراً مساعداً لانتصارها.
لا يمكن للحالة السورية عام2011أن تقارن بتلك الحالات الإنكليزية 1642-1649 ولا الروسية عام 1917 ولا الإيرانية بثورة 1978- 1979. وبالتالي، لا ينطبق على سورية ما بعد 18آذار2011 مصطلح الثورة.
يمكن للوقائع السورية أن ينطبق عليها مصطلح حراك اجتماعي معارض واسع متفرق من دون قيادة موحدة جرى في مناطق (حوران- ريف دمشق- ريف حلب) وفي مدن (درعا- حمص- ديرالزور) وفي بلدات محافظة إدلب.لم يشمل هذا الحراك المدينتين الكبيرتين دمشق وحلب،وكانت قاعدته الاجتماعية الرئيسية في الريف السني، وفي مدن مهمشة.
يمكن تسمية هذا الحراك ب(الانتفاضة) uprising أو insurrection، ولكن لم يكن لها قيادة واضحة، ولا مطالب واضحة،وأساليبها تبدلت بسرعة من مظاهرات سلمية إلى استعمال العنف المسلح، وفي الأشهر الستة الأولى لم تكن ذات طابع أيديولوجي واضح، ولكن منذ خريف 2011 غلب الطابع الاسلامي على الحراك السوري المعارض وهو ما ترافق مع استعمال العنف المعارض .
في الحالة السورية عام 2011 لا نجد وضعاً يتطابق مع الشروط الثلاثة اللازمة التي حددها تشارلز تيلي لنشوء ثورة:
- ظهور منافسين للسلطة يقدمون مطالب حصرية تحوي بديلاً ،
- التزامات كاملة بهذه المطالب،
- عجز الحكومة عن القمع .
هذا الحراك الاجتماعي السوري المعارض منذ يوم 18آذار2011أنتج أزمة سورية لها طوابق أربعة في مبناها:طوابق سورية- اقليمية- دولية- تنظيمات عابرة للحدود.يمكن لحالة التنظيمات العابرة للحدود، مثل (النصرة) و (داعش)، أن يضاف لها تنظيمات أتت من وراء الحدود لمساندة السلطة السورية في الصراع، مثل حزب الله اللبناني،وتنظيمات شيعية عراقية- أفغانية موالية لايران.الأزمة السورية من حيث قوة محركاتها الداخلية وتغذيتها الخارجية ومن حيث تأثيراتها على اقليم الشرق الأوسط ومن حيث تأثيراتها الدولية هي أكبر أزمة شهدتها العلاقات الدولية في فترة مابعد الحرب العالمية الثانية.
بالمقابل لا يوجد (حرب سورية) وإنما نزاع بين سلطة ومعارضة سوريتين،حيث ليس هناك من حرب سورية- سورية مادام لا يوجد حرب أهلية، وليس هناك حرب سورية من خارج على داخل، وبالطبع من داخل على خارج. هناك صراع على سورية وصراع في سورية بين الأطراف الدولية- الإقليمية المتصارعة والمتنازعة في الساحة السورية،والتي أحياناً تتلاقى مثل موسكو وواشنطن عبر تلاقياتهما في اتفاق موسكو بين جون كيري وسيرغي لافروف في 7 أيار 2013 التفعيل (بيان جنيف1)، الصادر في 30 حزيران 2012، ثم اتفاقهما حول السلاح الكيماوي السوري في 14 أيلول 2013، ثم اتفاقهما على القرار الدولي 2254 في 18 كانون أول 2015 الذي قاد إلى مسار جنيف التفاوضي بين السلطة والمعارضة السوريتين.