من زوايا الذاكرة (٢٣)

الدكتور جون نسطة

كان رئيس القسم طبيب ذو امكانيات محدودة ومعلومات ضعيفة لا تأهل صاحبها لإشغال هذا المنصب. وكنت أرغب بالقدوم إلى ألمانيا من أجل تقوية معلوماتي وزيادة خبرتي في مجال طب العناية المشددة أو المركزة. كنا هو وأنا نقوم بالزيارات اليومية لقسم العناية المشددة، وبعد مرور شهر واحد، على ما أذكر، تكلم معي رئيس القسم وقال ظهر لي وتيقنت بأنك طبيب عناية مشددة من الطراز الأول، وقررت أن أكلفك بالاشراف الطبي الكامل على قسم العناية المشددة، وبالمقابل أتخلى لك عن كافة مداخيل المرضى الخاصين ،أصحاب الدخول العالية، وغير المشمولين بالتأمين الصحي التابع للدولة، وهذا يعني أنني سوف أضيف هذا الدخل إلى راتبي السنوي ليصل الى مبلغ 155 الف مارك بالسنة. وهذا يشكل دخل عالي جدا في ذلك الوقت. وفي الوقت ذاته تعرف الجراحون من كل الإختصاصات على تفوقي على رئيسي، وأصبح رئيس قسم الجراحة بسألني اذا كنت اليوم الفلاني موجود في العمل أو لا، بسبب نيته اجراء عملية معقدة لمريض مصاب بأمراض أخرى معقدة، لأنه لا يثق برئيسي.

ذاع صيتي كطبيب تخدير ممتاز في أجواء المشفى وبين أعضاء هيئة رئاسة المشفى من غير الاطباء.

وتشاء الصدف أن بعض العاملين في المشفى،شاهدوا بأم أعينهم ،كيف أدخل رئيسي الى مكتبه ،عاملة جميلة ،في المشفى ولم تخرج الا بعد مضي نصف ساعة منكوشة الشعر محمرة الوجه ،فأصبحوا يلغطون بإن هناك بين الاثنين علاقة جنسية مريبة.وصل الخبر لرئاسة هيئة الادارة ،وطلبت من رئيس قسم التخدير الحضور لمقابلة معه ،فقاموا بتعنيفه بشكل قاس وحاد ،فاجابهم بالكف عن ذلك ،والا سيقدم استقالته من الوظيفة ،فقالوا انت قلتها وطلبوا منه التوقيع على نص طلب الاستقالة فورا ،هذا النص كان مكتوب ومعد مسبقا ،فلم يستطيع التراجع ،وفي اليوم التالي جرى تكليفي برئاسة القسم.

وهذا التكليف يحتاج الى موافقة رئيس حكومة الإقليم ،جرت الموافقة على تكليفي مؤقتا و محددا بثلاثة أشهر ،ووضعت إدارة المشفى إعلان في المجلة المركزية لإطباء ألمانيا ،ولكي لا اطيل ،وقد أطلت ،مضت مدة

الثلاثة شهور وستة شهوربعدها قبل أن يتعاقد المشفى مع طبيب رئيس للقسم ،ومن سوء حظ المشفى كان عمر الرئيس الجديد اقل من عمري لذلك تقدمت بدوري باستقالتي على الفور ،فانا أرفض ان اعمل مع رئيس اصغر مني بالعمر.

كانت زوجتي لا ترغب بالانتقال لمدينة اخرى ،حرصا منها ،وخوفا من انتقال أولادنا إلى مدارس اخرى.

كانت هناك مدينة ،تبتعد عن مدينتنا مسافة 12 كم اسمها اولدي،oelde,وفيها مستشفى حديث جدا،تعاقد مع طبيب تخدير أخصائي،كرئيس للقسم الحديث الإنشاء،وهذا الطبيب قام بدوره بالبحث عن نائب له.اتصلت به فورا وعرضت استعدادي للعمل معه ،فكان سروره واضحا ،وطلب مني التقدم باوراقي الثبوتية،وخلال أسبوع واحد وقعت على عقد مع ادارة المشفى التي كانت تبحث عن طبيب مثلي.باشرت بالعمل يوم اثنين ،وقام رئيسي الألماني بالسفر باجازة سفر محجوزة من قبله الى جنوب المانيا.كان هذا الطبيب متعجرفا،متكبرا،غير متعاون مع جراحي المشفى.

عملت لمدة عشرة أيام فقط ظهرت خلالها طاقاتي المعرفية،مما دعى رئيس قسم الجراحة العامة،بالتوجه إلى ادارة المشفى،طالبا منهم التعاقد معي رئيسا لقسم التخدير والعناية المشددة،

وإقالة الرئيس الحالي ،التي ستنتهي مدة العقد التجريبي معه ،ومدتها ستة إشهر ،خلال هذه الفترة،حسب قوانين العمل في ألمانيا يحق لطرفي العقد ،أي المشفى والطبيب ،فسخ العقد دون مبرر،واذا تجاوز العقد التجريبي ،يصبح فك العقد أمرا صعبا جدا ،ويحتاج إلى محاكم عمل ودفع تعويضات عالية جدا من قبل المشفى.

قال رئيس قسم الجراحة للإدارة  بأن الدكتور جون أفضل مهنيا وسلوكيا من الرئيس الحالي.توجه المدير الاداري وقام  بارسال رسالة مسجلة بالبريد على عنوان الفندق الذي يسكن فيه الرئيس خلال إجازته يعلمه فيها عن فك عقد العمل معه.ولم يرجع هذأ الطبيب إلى مكان عمله مرة اخرى.

وقامت ادراة المشفى بالاعلان عن حاجتها لطبيب تخدير كرئيس للقسم ،والسبب في ذلك يرجع إلى قانون الماني اتحادي ،يمنع فيه تولي أجانب رئاسة أقسام في المشافي ،فقط حاملي الجنسية الألمانية يحق لهم ذلك.لذلك كان عقدي مع المشفى مؤقتا.

خلال عملي وفي بدايته ،جاءنا مريض مصاب بكسر عنق عظم الفخذ قادما بمروحية من اسبانيا ،حيث كان يقضي اجازته السنوية.هذا الرجل صاحب سمعة كبيرة وخطيب بارز  في المحافل ،ويشغل منصب رئيس تحرير جريدة واسعة الانتشار في ولاية مونستر..واصر على إجراء العملية الجراحية ،زرع مفصل اصطناعي في مدينته.

قمت مساء حضوره بزيارته في غرفته في المشفى لاقوم بفحصه ولشرح أخطار عملية التخدير والأجابة على اسئلته.اثناء حديثي معه تبين أنه يخاف ويهلع من التخدير ويخاف أن ينام ولا يصحى.فقمت بتهدئته وقلت له بأنني ساجري له عملية تخدير قطني، نصفي ،ولا حاجة لتخدير عام ،وبأنني ساجلس بالقرب من رأسه ونتحدث سوية أو أعطيه جهاز تسجيل يسمع من خلاله الموسيقى التي يرغب بها.تحدثنا خلال كل فترة العملية دون أن يشعر بأي الم او ازعاج ،وقلت له بانني سأقوم مساءًا بزيارته ومعي زجاجة خمر احمر نشربها سوية ،وهذا ما حدث فعلا.

قمت باليوم التالي بزيارته وفحصه.سألني من أي بلد قدمت لنا إلى  ألمانيا فأجبته إني من سوريا ،فقال أنت مكسب لألمانيا ،هل استطيع أن أقدم لك أية خدمة.كنت أعلم بمدى نفوذه السياسي ،فأجبته بأنني بحاجة لتسريع عملية الحصول على الجنسية الألمانية ،حيث تقدمت بطلبها من رئاسة حكومة منستر منذ عدة اسابيع.فقال أبق هنا، واتصل هاتفيا على الفور برئيس الحكومة وبعد التحية والسلام ،قال له بأن كنز كبير ومكسب عظيم لألمانيا يقف الى جانبي في المشفى يدعى د.جون نسطة تقدم بطلب الحصول على الجنسية الألمانية فارجو الاسراع بالموافقة عليها ولم يمضي الا إسبوعين حتى جاءني الخبر اليقين بأنني حصلت على الجنسية الألمانية دون أن اتخلى عن جنسيتي العربية السورية التي أفتخر بها.

وبعد ذلك وقعت على عقد عمل دائم كرئيس أطباء في المشفى الذي أعمل فيه.

في هذه المرحلة كنت هلى صلة دائمة مع الرفيق سلطان أبازيد الذي يقيم في باريس وكان هذا التواصل  يتنوع بين زيارات الى فرنسا لرؤيته وبين اتصالات هاتفية وأيضا كنت على صلة برفاقنا بالحزب مثل الرفيق عبد الحميد الأتاسي والرفيق المرحوم شكر الله عبد المسيح الذي كان يزور باريس أيضا ويزور الرفاق المقيمين هناك . . لكنني كنت معارض لموقف الحزب  تجاه علاقاته وصلاته مع العراق و كنت معارض لرئيس فرع الحزب في باريس بقيادة  أحمد المحفل  بصلاته مع صدام  وكنت أقول ما الفرق بين حافظ الأسد وصدام حسين حيث يتمتعان بصفة الديكتاتور بنفس السوية .

في هذه الفترة كانت صلة أحمد المحفل مع العراق قوية ومتينة . بحيث كان يأخذ أموالا من العراق ويصرفها على حزبنا في فرنسا وغيرها . طبعا كان إنسانا شريفا ولم يستخدم الأموال لأغراض شخصية فقط كان يستخدمها لدعم الحزب والرفاق

لكن انتقادي لهم يقوم على مفهوم مبدأي لدي  فهذه العلاقة تضر بسمعة الحزب والرفاق . زرت احمد المحفل في البيت  وعبرت فيه عن رأيي  بواجب الابتعاد عن أي صلة مع العراق والجواب كان أن الحزب بحاجة الى تمويل لأستمراره ولا يوجد طريق آخر.

من العدد ٧٤ من جريدة المسار