من زوايا الذاكرة (٢٢)

الدكتور جون نسطه

في ما سبق ذكرت بأن الوضع السياسي بين الحزب والسلطة يزداد توتراً، قابله بالحزب توترا بين اعضاء المكتب السياسي والعديد من الكوادر وبدأت السلطة العليا بالحزب تتركز بين يدي الرفيق رياض الترك والدكتور فايز الفواز.

في العام ١٩٧٧ قيل لنا بأن الحزب يمر بضائقة مالية ولهذا تقرر إلغاء التفرغ الحزبي وقطع رواتب المتفرغين ,مع أن راتب التفرغ زهيد جدا لا يتجاوز المئتان وخمسة وعشرون ل. س. لغير أعضاء المكتب السياسي أما لاعضاء المكتب السياسي فكان راتب التفرغ في ذلك الوقت خمسمئة ل.س  كما روى لي الرفيق  صبحي أنطون .وقيل لرفاق الحزب عليكم البحث عن عيادة خاصة مناسبة التكاليف للرفيق فايز ليعمل فيها كطبيب مختص،وينهي تفرغه.لكن مع ذلك لم يتم تفريغ الدكتور فايز ولم يتم قطع راتبه . أي أن الكلام لم يكن جديا بل نثرا في الهواء ، حيث كان هناك عددا ليس قليلا من المتفرغين في القيادة لم يعمل في حياته كلها سوى إنه موظف حزبي متفرغ.

ذات يوم زارني في عيادتي صديقي العزيز والرفيق المفضل لدي في صداقته واستقامته وخلقه الرفيع نبيه جلاحج وشرح لي وضعه المادي الصعب بعد إنهاء تفرغه.فقلت له رفيقي العزيز أنت حائز على شهادة في الحقوق وتستطيع العمل في مهنة المحاماة.فأجابني حتى تصبح محاميا عليك أن تكون  عضوا في نقابة المحامين وعليك أن تدفع رسم الإنتساب ،وأنا لا ملك هذأ المبلغ وقدره الفان ل س.فقلت له المشكلة محلولة.انا أعطيك هذأ المبلغ وانت تصبح محاميا. في تلك اللحظة ونتيجة الضغط النفسي إنفرجت اسارير وجهه وفاض من عينيه فرح وسرور ،وقام بتقبيلي مرارا وتكرارا. وأشير هنا الى ان المحامي الصديق نبيه قد أعاد لي المبلغ كاملا خلال السنوات التالية .

سجل الرفيق نبيه نفسه في نقابة محامي دمشق ،والتحق بمكتب المحامي العروبي التقدمي الكبير سامي ضاحي ،وبسرعة اصبح محاميا لامعا،وانخرط في العمل النقابي وغدا أفضل نقابيا وتم انتخابه  مسؤول المالية لدورات عديدة..أما رياض نفسه فتخلى عن راتبه التفرغي وحاول العمل في مكتب محاماة في حمص ،وبهذا يكون أول أمين عام بدون راتب تفرغ حزبي.

من المعلوم أن الحزب كان لديه تنظيم سري يقوده كليا الرفيق رياض ودون مشاركة أعضاء القيادة الآخرين.

تمركزت السلطة الحزبية بأيدي رياض الترك والدكتور فايز الفواز وانخفض عدد اجتماعات المكتب السياسي وتوزيع للمهمات الحزبية.بدأنا نشعر بالغربة وملاحظة فروقات المواقف السياسية والتنظيمية ،وبدأتُ حينها  أشعر بخطر انقسام جديد.

في تلك الأيام كان السيد الدكتور محمد علي هاشم وزيراً للتعليم العالي وكان يأتي بزوجته إلى مستشفي نزار جمعان أغا عند الحاجة لأي مداخلة جراحية نسائية وأقوم أنا بتخديرها ورعايتها أثناء المداخلة.كان الاستاذ الدكتور  الطبيب محمد علي هاشم معجب جدا بقدراتي الطبية وخاصة في اختصاصي  في فن التخدير ،وكان يقول لي مثلك يجب أن يكون أستاذا جامعيا ولذلك أطلب منك ان نسافر الى دولة اجنبية للحصول منها على شهادة أختصاص ،وعندما تعود سوف أعينك فورا مدرسا جامعيا.

بناءا على الوضع الحزبي المزري وحرصا مني على الصعود المهني فكرت جديا بالسفر إلى ألمانيا الغربية للحصول على الشهادة المطلوبة.كانت بين أيدينا مجلة طبية تنشر اعلانات لبعض المستشفيات  التي بحاجة الى أطباء للعمل فيها وخصوصا في ظل نقص أعداد الأطباء الألمان.

كتبت رسالة لأول مشفى الماني أبدي فيها استعدادي للعمل كطبيب تخدير ،فجاء الجواب بسرعة فائقة يدعوني للقدوم فورا. كنت مرتبط في ذلك الوقت  بعقد مدني مع وزارة الدفاع السورية ،وفك العقد ليس من الأمور السهلة ،فكتبت لهم بأنني أحتاج لفترة ثلاثة اشهر لفك العقد،ولكن زوجتي وهي طبيبة أمراض داخلية جاهزة للقدوم فوراً ،فكتبوا أنهم ليسوا بحاجة لأطباء أمراض داخلية ولكنهم مستعدين لتوظيفها وإنهم مستعدين لدفع أثمان بطاقات الطائرة لي ولزوجتي وأولادي الاثنين.

وبالفعل سافرت زوجتي مع الاولاد وبدأت في العمل هناك.

وقمت أنا من جهتي ببذل كل امكانياتي واستخدام علاقاتي المتشعبة  لفك العقد مع وزارة الدفاع ،رغم كونه عقدا مغريا جدا بقيمة ٢٢٠٠ ل.س شهريا موقعا من رئيس الجمهورية ،لأن وزير الدفاع السوري لا يحق له بتوقيع عقد مع احد المدنيين يتجاوز مبلغ ١٥٠٠ ل.س.

أخيرا نجحت بفك العقد بعد ثلاثة أشهر وتوجهت بالطائرة إلى مطار كولونيا وكان يوم العاشر من شهر كانون الأول عام ١٩٧٧ يوم يصادف تاريخ  ميلاد حبيبتي الصغيرة منى..

قبل خروجي من دمشق نلت  موافقة منظمتي الحزبية و حصلت على موافقة لجنة الحزب المنطقية مع أسفهم الشديد و مع وعد قاطع مني بالعودة بعد ثلاثة سنوات على أبعد حد. 

وفي مطار دمشق كان في وداعي أكثر من خمسين رفيقا وصديقا من اتجاهات سياسية متعددة.

وصلت ليلاً إلى مكان أقامة عائلتي وكان المنزل عبارة عن غرفة واحدة ومطبخ ينامون  على صوفيات  منخفضة وبسيطة من حديد  حيث بدا المكان يشع بؤسا وفقرا والشيء الوحيد من وسائل الراحة والرفاهية كان جهاز التلفزيون.

كانت زوجتي من معدن خاص في الصبر والأناة وتحمل للمعاناة،تركب في الصباح على دراجتها وأمامها إبني الصغير فايز وخلفها ابنتي منى متوجهة الى روضة الاطفال لإيداع فايز هناك وعمره ثلاثة سنوات وتتابع لإيصال منى وعمرها خمسة أعوام الى المدرسة ثم تتابع الى المستشفى لتعمل ثماني ساعات وتعود مع الاطفال على نفس الطريق لتقوم بشراء بعض المواد الغذائية  من أجل الغذاء ،وفي المساء تقوم بتدريس منى التي لم تتعلم اللغة الألمانية بعد كل ذلك في جو بارد جدا وتراكم الثلوج في شهر كانون الاول.

وتقوم بكل هذا الجهد ستة أيام بالأسبوع دون أية شكوى أو تذمر.فالمرأة تظهر عظمتها وبأسها وصلابتها في الأيام العصيبة وليس في ساعات الرخاء والنعيم.

الحب الذي ربطنا لسنوات عديدة بدأ يتطور الى احترام شديد.

قبل أن أبدأ العمل نزلت إلى السوق واشتريت سيارة  لونها أحمر ،لأن الحياة في مثل ظروفنا بدون سيارة كانت لا تطاق.

لم يكن في المدينة التي نعمل بها أي  معارف أو أصدقاء والمجتمع الالماني كان قد دخل الى مرحلة متقدمة  من تطور الراسمالية متخليا عن المشاعر الإنسانية  شيئاً فشيئاً والإنسان لايفكر إلا بنفسه وتفوقه على زميله الآخر . بعد دخولي العمل بمرحلة أسبوع جاءني رئيس القسم وطلب بأن نقوم بزيارة مشتركة لتحضير المرضى إلى عمليات اليوم التالي ،وخلال ذلك سألني هذا مريض يشكومن الأمراض التالية ،فكيف ستقوم بتخديره وأية آلية ستقوم باستخدامها؟

فما كان مني إلا أن قلت له بأن خبرتي في فن التخدير تفوق خبرته بمراحل وإني لا أسمح له بامتحاني وأوراقي وشهاداتي هي في حوزته ويستطيع الرجوع إليها ،فقال أنا رئيس القسم ويحق لي أن أسأل ،فرفضت مجدداً فقال إذن نحن مفصولون ،بمعنى أني مفصول عن العمل.

نزلت إلى إدارة المشفى وأخبرتهم بما جرى ،فقالوا هذا ليس من صلاحياته.نحن قمنا بالمفاوضات ونحن من دفعنا أثمان بطاقات الطائرات لك ولأولادك ووظفنا زوجتك طمعا بالعمل معك.

خرجت من هناك إلى غرفة استراحة الأطباء ووجدت هناك مندوب دعاية  لشركة أدوية .سألني لماذا أنا مقبوض على غير عادتي،فحدثته بما جرى فقال هذه مشكلة بسيطةً وأنا سأجد لك مكان أفضل من مكانك الحالي ،انتظرني أسبوع فقط.لم يمضي اسبوع الا ورئيس أطباء مشفى في مدينة مجاورة يتصل معي على الهاتف ويطلب أن أزوره.الرئيس السابق تراجع عن موقفه ولكن صحن البورسلان قد تكسر في نظري ولا يمكن الصاقه.

يوم الأحد الذي تلى الحادث كنت في زيارة رئيس الأطباء الجديد الذي أبدى الرغبة بالعمل معي بعد أن  أخبرته عن خبراتي وعرض علي منصب رئيس القسم اي نائبه ومبلغ راتب مغري جدا.

خرجت سعيداً جداً وبدأت في العمل بعد أسبوع تماما.

على الجانب السياسي اتصلت مع الرفيق سلطان أبازيد المقيم في باريس، والذي كنت أعرفه جيدا في فترة الدراسة في لايبزيغ، وأخبرته عن عزمي متابعة دراسة التخدير، فقال لدينا فرقة حزبية في ألمانيا، فهل تريد أن تنضم اليها أم أنك تفضل العمل في الحزب من خلال الاتصال الفردي، كنت متخوفاً بعض الشيء من وجود ألغام لصالح النظام، لذا فضلت طريقة الاتصال الفردي معه.

من العدد ٧٣ من جريدة المسار