محمد صالح الفتيح
(من صفحته على الفيسبوك)
أشرت في المنشور السابق للتيار الشعبوي في أوروبا – وهو التيار الذي يتلاقى طبيعياً مع روسيا، ويلقى الدعم بمختلف أنواعه منها. وأجد هذه فرصة للإشارة لنقطتين. الأولى، تتعلق بامتعاض شخصي مزمن لدي والثانية قد تكون أكثر أهمية للقارئ، لهذا يمكن لمن يريد أن يتجاوز امتعاضي الشخصي، في الفقرة التالية، ويقفز للمهم بعدها.
امتعاضي الشخصي يتعلق بمقاربة بعض من يقدم نفسه على أنه محلل أو كاتب سياسي ويمزج بين ما يعتبره موقفاً أخلاقياً وبين التحليل الموضوعي للأحداث. كثيرون في العالم العربي ينظرون – غالباً عن وجه حق – للولايات المتحدة على أنها مصدر الشرور ومصائب الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث عموماً. لا اعتراض لدي على هذا. المشكلة تبدأ مع انتقال هؤلاء من هذا الاعتقاد لمحاولة تحليل الأحداث الراهنة والمستقبلية فتتلخص تحليلاتهم بموقف واحد وهو أن الولايات المتحدة ستهزم.
ولا يهم كثيراً الطرف الذي يراهنون على أنه سيهزمها: راهنوا سابقاً على ترامب، والآن على روسيا، وبعد عامين إلى خمسة أعوام سيكون رهانهم على الصين. مثل هذا “”التحليل”” يحتوي مغالطات هائلة. ولكن المشكلة الأكبر لدي هي إصرار هؤلاء – المستمر بالمناسبة – على القول إن الولايات المتحدة – ومعها الدول الأوروبية – لن تتدخل لدعم أوكرانيا عسكرياً وستتركها لتسقط أو تستلم أو تجبرها على القبول بصفقة مع روسيا (هؤلاء تصيبهم حالة نشوة عارمة في كل مرة يتحدث فيها هنري كيسنجر عن ضرورة قبول أوكرانيا بالتنازل لروسيا عن بعض أراضيها).
المشكلة أننا خلال الأشهر الأحد عشر الماضية نسير بوضوح باتجاه معاكس تماماً لما يقوله هؤلاء. ولكن بالرغم من ذلك لا زالوا كما هم، ولا أحسبهم سيتغيرون. قد يصدق هؤلاء أن دوافعهم أخلاقية وسليمة – أي تمني هزيمة أميركا – ولكن ما يفعلونه هو تشجيع طريقة تفكير غبية ومنفصلة عن الواقع، ومؤامراتية ولا تقود سوى للتخلف.
الخطأ الفادح لمغالطة هؤلاء الباحثين المزعومين يظهر تحديداً فيما يحصل في الدول الأوروبية وموقفها من ملف الطاقة الروسي وملف تسليح أوكرانيا. هناك رهان مستمر على أن التيار الشعبوي والانكفائي الحذر هو ما سيهمن في أوروبا. وهذه قراءة خاطئة بطبيعة الحال. توقعي الشخصي لخطأ هذه القراءة يعود لتواتر مؤشرات عدة خصوصاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، حتى قبل الحرب الروسية-الأوكرانية. التيار الشعبوي الأوروبي صعد لظروف استثنائية، خصوصاً تزامن الأزمة المالية العالمية (2007-2008) مع أزمة المهاجرين الأجانب والمهاجرين الأوروبيين، خلال توسعة الاتحاد الأوروبي.
ولكن هذا الصعود بدأ يتراجع بعد أن ظهر بوضوح أن اليمين المتطرف لا يمتلك تصورات اقتصادية ولا يملك سوى خطاب كراهية فقد زخمه وبدأ السياسيون اليمنيون يكتشفون الواقع القاسي (انظروا للتغيير في خطاب جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية التي فازت في أواخر أكتوبر/تشرين الأول وكيف باتت معتدلة في السياسة الأوروبية.
إيطاليا أكبر متلقي للمساعدات الاقتصادية الأوروبية وهذا أجبرها على الاعتدال وخطاب صندوق الاقتراع لا علاقة له بالواقع). ولكن فيما يخص الحرب الروسية-الأوكرانية، هناك ما هو أهم. وباعتبار الحديث اليوم عن تسليح أوكرانيا، وتحديداً بالدبابات، فلنقي نظرة على مقاربة ألمانيا.
خلال السنوات القليلة الأخيرة كان هناك صراع واضح في ألمانيا. التركيز الإعلامي، خصوصاً العربي، كان على “حزب البديل لأجل ألمانيا” وهو حزب شعبوي متطرف وغبي، ولكن الصراع الحقيقي كان بين الصوت المعتدل ممثلاً بأنجيلا ميركل وحزبها، من جانب، والتيارات التي تطالب بسياسة خارجية أكثر نشاطاً، بما في ذلك عسكرياً وأمنياً.
انظروا مثلاً للبيان الانتخابي لحزب الخضر – الذي يمسك حالياً بحقيبتي الخارجية والاقتصاد في ألمانيا. هل تصدقون حقاً أن ألمانيا قد صاغت خلال ثلاث أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا خطة دفاعية ترفع عملياً إنفاقها الدفاعي خلال عقد من الزمن بحوالي 400 مليار يورو بما فيها 40 مليار يورو لمشروع طائرة مقاتلة من الجيل السادس؟! الحرب الروسية-الأوكرانية أعطت فقط زخماً أكبر لتيار سياسي وفكري أوروبي كان ينمو بعيداً عن عدسات الإعلام التي قدمت له خدمة جلية عبر التركيز على اليمين الشعبوي.
هذا التيار السياسي كان يظهر في الكتب ونقاشات مراكز الأبحاث. هذا مثلاً كتاب لباحثين ألمانيين نشره مركز “IISS” البريطاني في يونيو/حزيران 2021 ويتحدث عن واجب ألمانيا في الدفاع عن أوروبا والقيم الليبرالية الغربية، بما في ذلك عبر زيادة إنفاقها الدفاعي والتصدي لروسيا تحت قيادة بوتين. ما ظهر في الكتاب يتقاطع مع ما يحصل الآن ومع ما تقوله عدة أحزاب ألمانية. التغيير في موقف ألمانيا مهم. هي ليست مجرد قوة اقتصادية وسياسية ولكنها أيضاً قلب الصناعة الدفاعية الأوروبية. نصف الدبابات الأوروبية تصنعها شركة “Rheinmetall” الألمانية التي تصنع أيضاً قسماً أكبر من المدرعات الأوروبية وتقدم المكونات لدبابات دول أخرى (بما فيها مدفع دبابة Abrams الأميركية). لهذا قرار ألمانيا الأخير بتقديم الدبابات لأوكرانيا هو قرار طبيعي في ضوء التطورات السابقة، بعيداً عن التفكير الرغبوي.
أعتذر عن الإطالة وعن الحديث عن مشاعري الشخصية في منشور تحليلي ولكن ما هو أسوأ من الغباء هو الاستغباء، بغض النظر عن حسن النية المزعوم.