المحطة الخامسة من حياة عبد الله الديرعطاني – في رحاب جمهورية ألمانيا الديموقراطية

عبد الله حنا 

(من صفحته على الفيسبوك)

استقليت الطائرة السويسرية من بيروت إلى زوريخ. وبتّ ليلة في أحد فنادقها الفخمة على حساب الشركة. وأثناء العشاء سألني نادل المطعم أي نوع من النبيذ ارغب في شربه. وفي أقل من ثوان أجبت بالاعتذار عن شرب الخمر. فقد مرّت في مخيلتي حالة المعتقلين من رفاقنا في سجن المزة وهم يسامون مرّ العذاب، ومن العار أن أشرب النبيذ وهم في السجون. في الفراش الوثير لم أستطع النوم بعمق، لأنني لم اعتد على هذا النعيم المباغت، بعد سنة ونيّف من الشقاء. وفي الصباح استقليت الطائرة من زوريخ إلى مطار براغ. وهنا تنفست الصعداء بأنني أصبحت في مأمن من مخابرات عبد الحميد السراج. ولم يطل الانتظار في مطار براغ لاستقلال الطائرة الذاهبة إلى برلين.

استقبلني بوجه بشوش في مطار برلين مندوب العلاقات العامة في النقابات الألمانية الحرة وذهبت بصحبته في السيارة إلى منتجع دولكنبروت للنقابات الواقع في وسط غابات وعلى ضفة إحدى البحيرات الكثيرة إلى الشرق من برلين. هناك وجدت ثلاثين شابا شيوعيا من مختلف الأعمار وصلوا تباعا من بيروت إلى المنتجع، وكنت آخر القادمين. والجميع كانوا مسجلين في المنتجع طلابا لبنانيين. والسبب أن جمهورية ألمانيا الديموقراطية كان لها علاقات اقتصادية قوية مع مصر، ولها علاقات دبلوماسية بمستوى قنصلية، وخوفا من تعكّر العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة، سُجّل الضيوف السوريون الهاربون من جحيم الملاحقة والتالي السجن طلابا لبنانيين.

الثلاثون “طالبا لبنانيا”، وهم الطلاب الشيوعيون السوريون الهاربون من سورية إلى لبنان أرسلهم الحزب إلى ألمانيا للخلاص من عبئهم في لبنان، ولإتمام دراستهم في ألمانيا والعودة فيما بعد إلى سورية كوادر مثقفة. وقد علمتُ أن الحزب الشيوعي أرسل أيضا العشرات إلى الدول الاشتراكية القائمة آنذاك.

اسجّل فيما يلي الظواهر التالية:

– أكثرمن نصف هؤلاء الطلاب، أو بالأصح التلاميذ ، لم يكن قد حاز شهادة الدراسة الثانوية. فقد جرت ملاحقتهم، بسبب نشاطهم، وهم لا يزالون في المرحلة الثانوية.  

– ثلثهم كان طالبا في الجامعة، والبقية حملة بكالوريا. 

– نصفهم كان مسيحيا بالولادة ، والنصف الآخر مسلمون سنة ، منهم كرديان من الجزيرة. لم يكن ثمّة بينهم علويون أو دروز أو إسماعيليون.

– جاء القسم الأكبر منهم من حمص وحلب ، ولم يكن بينهم دمشقي.

– عندما أتت لجنة من وزارة التعليم العالي لتسجيل رغبة هؤلاء “الضيوف” في الدراسة ، كانت الأكثرية الساحقة ترغب في دراسة الطب. كاتب هذه الأسطر سعى لدفعهم لدراسة الهندسة أو الاقتصاد بهدف العمل فيما بعد في صفوف الطبقة العاملة كما كان يحلم.

– مع اقتراب انتهاء سنوات الدراسة ، كان من الملاحظ أن قسما منهم لم يكن يرغب في الرجوع إلى سورية ، وبعضهم عاد مرغما. وبعضهم لم يعد وبقيَ في ألمانيا إلى “الأبد”.

– قسم منهم وبخاصة الأطباء عادوا، بأساليب مختلفة، بعد إقامتهم مددا مختلفة في سورية إلى ألمانيا ليتمتعوا بالامتيازات ، التي توفّرها مهنة الطب.

لم أكن في أعماقي مرتاحا إلى هذه النسبة الكبيرة من المسيحيين في هذه المجموعة الهاربة من سورية، والتي وصلت إلى ألمانيا، وهي مؤشر على تركيبة الحزب الشيوعي في خمسينيات القرن العشرين. وهذه النسبة الكبيرة للمسيحيين كنت ألاحظها قبل 1958. وكانت قد ترسّخت لديّ قناعة أثناء نشاطي السياسي السابق خلاصتها: 

إن الحزب الشيوعي، (المنتشر عموما بين المسيحيين الأرثوذكس والأكراد، وبنسب محدودة بين المسلمين العرب) لا يمكن أن يصبح حزبا جماهيريا إذا لم يستطع كسب أفئدة الشباب السنة، فهم أكثرية المجتمع، وبدونهم سيبقى الحزب ضعيفا لا يمكنه التغيير والسير نحو الاشتراكية.

   هذا الاتجاه استقيته من ابن عمي خليل حنا وسرت على خطاه. خليل كان مدرّساَ للرياضيات عام 1956 في ثانوية الميدان في الحي الشعبي إلى الجنوب من دمشق. وقد حقق نجاحا في كسب قلوب عدد من طلابه، وشارك في حفلتيّ ذِكِر في الميدان، منطلقا من قناعته بالتقرب من المؤمنين المسلمين وكسبهم في مسيرة النضال من أجل الاشتراكية. وهكذا سرتُ على خطاه.  

أذكر هنا على سبيل المثال واقعتين:

الأولى جرت عام 1957 عندما طلب مني الحزب أن أقود منظمة حي القصاع المسيحي. فرفضت وأجبت المسؤول قائلا: سيضيع وقتي في العمل بين المسيحيين سدى، وإذا لم تؤيد “أمة لا إله إلا الله” الحزب فلا جدوى من العمل. فاقترح عليّ العمل في أحياء باب الجابية وباب السريجة وباب مصلى، فوافقت فورا، وأطلقت على نفسي بين شيوعيي تلك الأحياء وكان عددهم محدودا اسم ” عبد الله الخليل ” حاذفا اسم ” حنا ” المشير إلى أنني مسيحي. وكانت فترة العمل في تلك الأحياء منعشة لآمالي في تحقيق الغاية، التي أصبو غليها في كسب المسلمين للحزب. 

المثال الثاني جرى في ربيع 1957 عندما قام الطلاب الشيوعيون وأنصارهم برحلة إلى الأردن استغرقت ثلاثة أيام ورمت إلى توطيد العلاقة مع الوطنيين الأردنيين وفي مقدمتهم الشيوعيين. زرنا في أريحا قبر الطالبة رجاء حسن أبو عمّاشة، التي سقطت صريعة برصاص الشرطة أثناء مشاركتها في إحدى المظاهرات الوطنية المناهضة للاستعمار. طُلِبَ مني إلقاء كلمة أمام القبر. وبعفوية، ودون تفكير مُسبق، دعوت المستمعين إلى قراءة الفاتحة على روح الشهيدة.

شعور الاتجاه للعمل بنشاط في صفوف المسلمين لكسبهم إلى الاشتراكية لم يفارقني طوال نشاطي السياسي أو الفكري. ويبدو أن هذا الشعور تجلى بأشكال مختلفة أثناء إلقائي لدروس التاريخ. ذات مرة من عام 1967 دخلت لإلقاء الدرس على طلاب البكالوريا في ثانوية موفق الشرع في درعا. وقبل أن أبدأ الدرس رجاني أحد طلاب الصف أن أقرأ ما هو مكتوب على السبورة. فالتفت إلى السبورة المكتوب عليها بخطِ كبير:

 “هل أنت مسلم أم مسيحي يا أستاذ؟”. 

لا أذكر كيف تهرّبت من الإجابة بوضوح تاركا الأمر في إجابتي مبهما، محتميا بالعروبة والانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية. والواقع أنّ دروسي أوقعتهم في حيرة من أمر “ديني” بسبب المنهج الذي اتبعه وطريقة الإلقاء واستخدام التعابير الإسلامية مازجا بين الإسلام والعدالة الاجتماعية وبالتالي السير لتحقيق الاشتراكية. ولهذا وقعوا في حيرة من “دين هذا الأستاذ”. وزاد الأمر غموضا عندما سألوا مدرّس التشريح عني (وكان في عقله وشّة) فأجابهم: كان مسيحيا وأسلم ولم يستطع تغيير كنيته فغيّر اسمه.

وغالبا ما أشكل اسمي على الكثيرين، الذين يظنون أن اسم عبد الله “اسم مسلم”. وأثناء مؤتمر تاريخي اجتماعي في عدن دُعيت إلى لقاء تلفزيوني. وبعد تسجيل اللقاء جلست مع أربعة يمنيين وأثناء الحديث، نظر إليّ أحدهم متسائلا باستغراب تركيبة اسمي. فعبد الله حسب معلوماته اسم مسلم وحنا اسم مسيحي، وبادرني بالسؤال: ما هو دينك؟ فأجبته على الفور: بلهجة تحمل الجدّ والهزل “مسلم روم”.

                                             ***

نعود إلى الحديث عن المجموعة الشيوعية، التي حلّت في ألمانيا الديموقراطية، وبعض ما جرى لي معها في ضوء تفكيري المذكور قبل قليل وأنا المسؤول حزبيا عنها. لم أهتم كثيرا بالمسيحيين، وتركّز اهتمامي على المسلمين والمؤهلين منهم ككوادر ناشطة بعد الدراسة والعودة إلى سورية. وحسب اجتهادي وقع اختياري على اثنين وهما: سلطان أبا زيد من درعا وكمال زبيدة من حلب. وفيما يلي نبذة عنهما:

سلطان أبا زيد المولود في درعا عام 1936 امتهن التعليم بعد حصوله على الشهادة الثانوية. وانتسب إلى الحزب الشيوعي على يد قريبه المعلم عبد الكريم أبازيد وهو من المؤسسين الأوائل للحزب في حوران. وعندما كشّرت المباحث السلطانية عن أنيابها أيام الجمهورية العربية المتحدة، التجأ إلى بيروت ومنها إلى ألمانيا. بعد أن أنهي أبا زيد دراسة الطب عاد فورا إلى الوطن مقدما النموذج للكثيرين، الذين فضلوا البقاء في ألمانيا بذرائع مختلفة. ارتبطت حياة الطبيب سلطان أبا زيد ارتباطا وثيقا بنشاطه الشيوعي. كانت المباحث السلطانية (الأسدية) بالمرصاد لسلطان ونشاطه البارز في حوران وهو طبيب وينتمي لعشيرة معروفة في درعا. اضطر سلطان للتخفي واللجوء إلى لبنان ومنها إلى الجزائر فألمانيا وفرنسا. فُجع سلطان وهو في باريس، متزعما مع المحامي أحمد محفل الشيوعيين (جناح رياض الترك)، بوفاة أخيه تحت التعذيب في أيار 1988 في سجون المباحث السلطانية. ورغم الظروف القاسية، التي عاشها لم ينكس علم النضال في مختلف المراحل. ولكن مرض السرطان لم يمهله طويلا، وفارق الحياة في باريس أواخر 2006. أثناء صراعه مع المرض كتب أو أملي مذكراته، التي رأت النور بعد وفاته تحت عنوان: ” ذاكرة الوطن والمنفى “. هذه المذكرات أعدتها وحررتها السيدة فادية فضة المقيمة في برلين. وكان سلطان وهو على فراش المرض قد فوّضها بنشر المذكرات بالصورة التي تراها مناسبة.

كمال زبيدة وهو من حلب. تعرّفت عليه عام 1957 أثناء دراسته الحقوق في الجامعة السورية. هرب إلى لبنان ومنها إلى ألمانيا. وكان تقديري له يشبه تقديري لسلطان أبا زيد. فهو مرتبط بالحركة الشيوعية مسلم متزن فعقدت عليه الآمال في المستقبل بعد رجوعنا إلى سورية. درس كمال في كلية الاقتصاد في برلين وعاد فور تخرجه إلى سورية وعمل موظفا في وزارة التخطيط، ومن ثمّ انتقل كخبير اقتصادي للعمل في مجلس الوزراء، وأخيرا حطّ الرحال في مدينته حلب مشرفا على المنطقة الحرة، التي أنشأتها الدولة. لم ينقطع عن النشاط السياسي وكانت له عليّ أياد بيضاء في مشروعي الهادف إلى جمع المعلومات من أفواه الحرفيين والنقابيين والشيوعيين القدامى. وهو الآن (ربيع 2015) مقيم في منزله في حي السبيل بحلب يعيش المأساة السورية بعامة، وهو يعاني مع أسرته مصاعب الحياة في حلب المقسّمة، والمدمّرة أسواقها التاريخية بسبب الحرب الهمجية. هذه الأسواق كان كمال (ابن حلب) يشرح لي ولزوجتي سكريد الألمانية، التفاصيل الدقيقة عن هذه الأسواق كلما زرنا حلب. 

ضمّت المجموعة أيضا كلا من محمد عطري، الذي كان وجها طلابيا ناشطا في الجامعة السورية أثناء دراسته في كلية الحقوق. وبعد هربه إلى بيروت فألمانيا كان من المقربين إلى قلبي. وهو شهم مخلص ” وشيخ شباب “، ولكنني كنت أجده ” فوضويا “. درس عطري الصيدلة وعاد فورا بعد تخرّجه إلى حلب مسقط رأسه. وهناك افتتح صيدلية، وكان ناشطا، وعندما ضاق عليه حبل خناق المخابرات السلطانية الأسدية التجأ إلى ألمانيا وافتتح عيادة في هامبورغ إلى حين بلوغه سنّ التقاعد.  

ولا بد من ذكر طيب التيزيني، وهو من مجموعتنا التي أرسلها الحزب، والحاصل على البكالوريا، ولم يكن طالبا جامعيا عند هربه من سورية إلى لبنان. انتسب تيزينيي إلى كلية الفلسفة وبعد الإجازة حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وعاد إلى سورية. وكان واضحا أنه كشيوعي وحامل شهادة الدكتوراه في الفلسفة ” سيموت من الجوع ” لأن النظام لن يقبل دخوله الجامعة. لم يكن تيزيني وهو من حمص معروفا بأنه شيوعي. ولهذا سار بعد عودته في طريق مسايرة اتحاد الطلاب وإلقاء محاضرات فلسفية في إطار نشاطات البعث.  ولم يكن الخط الإيديولوجي العام لتيار البعث وبخاصة اليساري منه معارضا، بل محبّذا لهذه المحاضرات. وعن طريق الشباب اليساري في البعث، وتكتمه عن ماضيه، تمكّن تيزيني من دخول جامعة دمشق مدرسا ثمّ أستاذا فيها. وله دراسات وكتب نالت الشهرة. ونشاطه العلمي والبحثي لا يشقّ له غبار. ولكن لم يسلم تيزيني من الناقدين له وفي مقدمتهم الماركسي عبد الرزاق عيد، الذي وصفه بالعبارة التالية: وهو ” ممن يعيشون من خبز السلطان ويتنعمون بزهو العصيان “.

من العدد ٧٢ من جريدة المسار