من زوايا الذاكرة (٢١)

الدكتور جون نسطه

بدأت تظهر بين صفوف المكتب السياسي للحزب، الذي انتخبته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) المنبثقة عن المؤتمر الرابع (كانون الأول 1973)، خلافات وتباينات في وجهات النظر. من أسبابها الرئيسية الموقف من النظام والموقف من السوفييت، في تلك المرحلة كان بعض الأعضاء من المكتب السياسي أكثر قرباً سياسياً للجنة المنطقية والتي كان يرأسها الرفيق حنين نمر الدمشقي الأكثر قرباً الى الناس والجماهير. وهو شاب ذكي وصاحب قلب أبيض، محبوب، محترم، وذو لسان طليق تلتف حوله أغلبية أعضاء اللجنة المنطقية وأغلب الكوادر والنشطاء الحزبين الذين يضعون ثقتهم به، وكان موضع محبة زملائه في العمل وكذلك في حيه القصاع، أما الرفيق رياض الترك فلم يكن يتمتع بهذه الصفات، له احترامه عامة ولكن ليس محبوبا كالرفيق حنين.

وأيضا كانت اللجنة المنطقية هي الجهة الأكثر قربا من مكتب المثقفين حيث تقوم بدعمه وتوجيهه وحضور اجتماعاته.

أما الجريدة المركزية: “نضال الشعب” التي تصدر شهريا فغالبا هي خالية من أخبار الاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية، بل كانت أحيانا تقوم بتلميح نقدي للسياسة السوفياتية في لاوس وافغانستان. والأهم من ذلك كله خلو كامل الجريدة من زاوية ثقافية تشرح النظرية الماركسية اللينينية. أما افتتاحيات الأعداد فأصبحت تزداد نقدا للنظام وتتهمه بترتيب البيت الداخلي السوري استعدادا منه لتغيير سياسة النظام لصالح التفاهم مع الغرب والتصالح مع أميركا أو التسريع به.

وبعض تلك الافتتاحيات كانت شديدة اللهجة تجعلنا نشعر بخطر الاعتقال من قبل الأجهزة الأمنية، مما يستدعيني للنوم خارج البيت أحيانا، ونقل أوراقي وبعض المطبوعات الحزبية الأخرى إلى بيوت الجيران أو إلى بيوت بعض الأصدقاء.

كانت في هذه الفترة تتدفق على البلاد، بعد حرب ألف وتسعمائة وثلاث وسبعون أموالا طائلة حيث بدأ معها ارتفاع هائل في أسعار الأراضي والمباني والعقارات وارتفاع متصاعد في أسعار وسائل المعيشة، وكان ذو الهمة عيسى شاليش لا يزال يتردد بزياراته إلى بيتي، وقد طلب مني يوما أن أقوم بالتعرف على شقيقه رياض شاليش، فذهبنا بسيارته إلى غوطة دمشق، وهناك وجدنا رياض يعمل بيده في صنع بلوكات أو خفان البناء على مكابس بدائية عادية والعرق بتصبب منه، فتعجبت في نفسي كيف يقوم بهذا العمل وخاله حافظ الأسد، وقدرت له عصاميته واعتماده على نفسه ولم يمض وقت طويل على هذا اللقاء، حتى جاءني ذو الهمة يطلب مساعدتي في عدم إغلاق مصنع رياض لأن محافظة ريف دمشق طلبت منه ذلك بحجة أنها أي الغوطة منطقة زراعية وليست صناعية. 

كنت أعرف محافظ ريف دمشق ابن الغوطة بواسطة العقيد الطبيب مصطفى سلاخو، وكنت قد جالسته عدة مرات على طاولة الشراب الذي يحتسيه بشراهة. لم أتردد بالمساعدة فذهبت إلى المحافظ رياض بدون تردد، وشرحت له الأمر، ابن أخت رئيس جمهورية عصامي يعمل بيديه وبعرق جبينه حتى يُحصل قوت يومه، وأنتم تهددوه بإغلاق معمله الصغير هذا. أرجوك أن توعز إلى المختصين بأن يغضوا الطرف عنه. والمحافظ رجل شهم طيب الخلق وعدني بتنفيذ ذلك.

ورياض شاليش هذا أصبح فيما بعد من أغنى رجال أعمال سوريا حيث يملك أساطيل في البحار وقصور في البر.

وبقي ذو الهمة عيسى شاليش يداوم على زيارتي يومياً ويأكل على موائدي من الطعام البسيط والرخيص من حمص وفلافل وفول، وعندما كنت أضع (بسطرمة) على الطاولة، كان يبدي فرحا كبيرا، وقد صار معروفاً للعلن بأنه من معارفي بمن فيهم إخوته وأقاربه وأصدقائي المقربين.

أذكر هذا لأن حادثة غريبة جرت معي، في إحدى الأمسيات وكنت في عيادتي، رن جرس الهاتف وكان معي على الطرف الآخر من الخط العميد مصطفى النابلسي، مساعد وزير الإدارة المحلية، صديقي وشقيق صديقي محمد سعيد النابلسي. كان صوته متهدجا ملتاعا وهو يقول لي (دخيلك)، (ايدي بزنارك) يا أبو فائز أنقذ أبني أحمد من القتل، فقد تورط بمشاجرة مع حرس أحد بيوت رفعت الأسد المقابل لبيتنا في حي الروضة، المخصص لإحدى زوجاته المدللات من آل الخير، على ما أذكر، وهم يطلقون الآن الرصاص على بيتنا، وأنت الوحيد الذي يستطيع ردعهم والا قتلوا أحمد. سألت بعد أن أغلق من هو المشرف على فريق الحرس قالوا لي العقيد أو الرائد محمد شاليش، فتكلمت معه فورا على الهاتف وبدون معرفة شخصية سابقة معه، وقلت له بصوت عال: “ولك انتم لا تستحون تهاجمون بالرصاص بيت إحدى الشخصيات الوطنية البارزة، صاحب الأفضال العديدة على الوطن وتهددون ابنه بالقتل” سألني عن اسمي قلت له الدكتور جون نسطة، فقال تمهل لعدة دقائق وسوف أنهي الموضوع. وبالفعل لم تمض ربع ساعة وإلا هاتفي يرن وصوت العميد مصطفى يشع فرحاً وهو يقول شكراً جزيلاً يا أبو فايز على ما قمت به من إنقاذ ابني وابنك أحمد فقد توقف كل شيء.

هذه حادثة لا أنساها طوال عمري ولم افهم أسبابها إلى اليوم وكنت وقتها طبيباً مغموراً في دمشق وعضو حزب معارض ايضاً. وحادثة أخرى مماثلة جرت معي أرغب بروايتها للقارئ الكريم. مع بداية تواجدي في دمشق جاءني صديقي المفضل والأبهى والأوفى مصطفى شاكر وقال أريد أن أعرفك على شاب بعثي ظريف ولطيف اسمه عبد حداد وهو يعمل صحفي في وكالة سانا ويتردد على القيادتين القومية والقطرية ويعرف أغلبية أعضائها وهو شاب فقير من ريف الرقة ويقف معنا سياسياً.

وبالفعل تعرفت على هذا الشاب الودود اللطيف وصاحب جرأة ليس لها مثيل، وأصبح يتردد يومياً على عيادتي وبيتي عارضا خدماته على زوجتي الإنسانة المتواضعة الحنونة، وبعد سنوات من المعرفة حاولت فيها أن أشجعه على الدراسة والحصول على الشهادة الثانوية العامة واشتريت له الكتب وقلت له ندرس سوية ونتقدم للامتحان سوية وندرس في الجامعة سوية، كان شابا ذكيا يلتقط الأسماء والأشياء المعقدة، ولكنه لا يملك القدرة على الدراسة.

صار عبد فرد من أفراد الأسرة، يأخذ أولادي منى وفايز في نزهات خارجية ويلعب معهم ويدخل إلى المطبخ ليغلي الشاي مشروبه المفضل، ويأكل ما حضر.

وعندما سافرت زوجتي والأولاد إلى ألمانيا بقصد متابعة دراسة الاختصاص، أصبح ينام عندي هو وصديقي سعد النابلسي ونحيي الليل بالسهر. 

كنت أعتقد أن عبد رجل صاحب عزوة عند نظام الأسد وله باع طويل عند أجهزته الأمنية ويشكل حماية لي نظرا لمحبتي ومعاملتي الجيدة له. كان رفاقي في الحزب يشكون في إمرة ويطلبون مني الجذر تجاهه. وكنت أصرح لهم دائما أن الآية معكوسة عند عبد فهو لا يتجسس على بل يتجسس على حزبه لصالحي وينقل لي أخبار القيادتين القومية والقطرية وصراعات الفرقاء فيهما. 

في إحدى الأمسيات كنت أعالج أحد المرضى وإذا بجرس الهاتف يرن وعلى الطرف الآخر كان صوت عبد يجهش بالبكاء وهو يقول “قتلوني وضربوني وجرحوني” فسألته من منهم فقال مجندون عسكريون كنا سوية ضيوفا عند أحد الأصدقاء وبعد ملاسنة بسيطة قاموا بضربي ضربا مبرحا وأسالوا دمي.

أدهشني الأمر الذي شكل لي مفاجأة غير متوقعة ولم يكن في يدي حيلة فأنا لا أعرف أحدا من رجال السلطة ولكني فجأة وأنا معه على الهاتف تذكرت الأمس حين كنت أمشي في شارع خالد بن الوليد وسط العاصمة تقابل وجهي مع وجه شاب كنا ندرس سويا في الصف التاسع في مدرسة البطركية في شارع الزيتون ورغم مرور سنوات طويلة، استطعنا التعرف على بعضنا بكل وضوح، شاب أبيض الوجه شعره أحمر شركسي يدعى أديب ونسيت للأسف إلى اليوم أسم عائلته وأخذنا بعضنا بالأحضان، وبعد حديث قصير فهمت منه أنه أصبح عقيدا في الشرطة العسكرية وفي قيادة موقع دمشق وقام بتسليمي كرت تعريفه عليها أرقام هواتفه، طالبا الاتصال به بدون إي حرج حين احتاج أي مساعدة. 

أغلقت مع عبد واتصلت مباشرة بالعقيد الصديق أديب موضحاً عنوان عبد بدقة وأخبرته ما حصل. فأرسل مباشرة دورية عسكرية قامت بواجبها على أكمل وجه. ارتفعت أسهمي كثيرا عند صديقي عبد وأصبح يعتقد إنني من أصحاب النفوذ ولكن تواضعي يغطي ذلك. 

كانت اجتماعاتنا في مكتب الإشراف على المثقفين منتظمة ونشأت بين أعضائه صداقات متينة لا يزال بعضها مستمر إلى اليوم مثل صداقتي مع الاقتصادي اللامع فؤاد اللحام والمهندس بسام العبيسي على سبيل المثال لا الحصر.

وأصبح بيتي ملتقى للكثير من الرفاق القياديين أمثال الرفيق العزيز محمد ديب الكردي أبو دياب والرفيق يوسف نمر والرفيق نبيه جلاحج والرفيق فايز الفواز وأبو فهد خليل الحريري وغيرهم الكثير.

يوسف نمر كان وطنياً عروبيا ومتسامحا مع سياسات النظام، وهكذا بدأت ترشح رويدا رويدا الخلافات بين أعضاء المكتب السياسي وكانت في جوهرها ومنذ البداية تدور حول الموقف من السلطة والموقف من السوفييت. بالإضافة للموقف من العمل المشترك مع رابطة العمل الشيوعي وقول الرفيق رياض بان حزبنا مصاب بالجبن والخوف ويجب التحرر منهما بأسرع وقت ممكن.

كانت القيادة ممثلة بالمكتب السياسي تضم في البداية ثلاثة عشرة عضوا وأصبحوا في نيسان 1976 بعد وفاة نوري حجو الرفاعي من حمص اثنا عشرة. مقسومون إلى كتلتين سبعة وخمسة أعضاء.

كان صديقي العزيز الدكتور نايف بلوز كثيرا ما يؤكد ويكرر القول بان هذه القيادة ليس فيها رفيقا واحدا يستطيع أن يقود هذا الحزب بمفرده وأن يسد الفراغ الذي تركه خالد بكداش، ولكنهم إذا عملوا بشكل جماعي ومتعاون يستطيعوا أن يسدوا هذا الفراغ وأن يتجاوزوه نحو الأفضل.

كان هناك رفيقين قيادين فقط لا يترددوا على عيادتي أو بيتي إلا فيما ندر وهما الرفيق ميشيل عيسى والرفيق بدر غزي الطويل، والأخير كان يتمتع بخبرة سياسية وتنظيمية واسعتين بالإضافة إلى سلاح أيديولوجي ماركسي قل مثيله.

من العدد ٧٢ من جريدة المسار