كيف تعاملنا نحن السوريين مع هويتنا الوطنية حتى الآن؟

د. حبيب حداد

(مقال كتب قبل سبع سنوات)

قبل ست سنوات ومنذ الأيام الأولى لإنطلاق انتفاضتهم الشعبية من اجل الحرية والكرامة والمساواة عبر السوريون عن هويتهم الوطنية بصورة عفوية وجماعية عندما كانوا يؤكدون في هتافاتهم، وعلى الدوام، ان الشعب السوري شعب واحد واحد، وان وحدته كانت خلال حقب التاريخ المتعاقبة أمضي سلاح امتلكه في مواجهة كل التحديات. غير أن مواقف السوريين وفهمهم لمقومات وحدتهم وبالتالي لمضمون وما هية هويتهم الوطنية قد تباينت واختلفت إلى حد كبير، كما اتضح ذلك بصورة جلية عبر المسار الدامي الذي قطعه شعبنا طوال السنوات الماضية للخلاص من حياة القهر والعسف والاستبداد وبناء دولة ديمقراطية عصرية. البعض منا ارجع كيان الشعب السوري الواحد، أو لنقل الموحد، إلى مجموعة شعوب تبعا لتعدد المكونات القومية والأثنية والثقافية التي يضمها نسيج الوحدة الوطنية، وبعض هذا البعض ذهب ابعد من ذلك بأن فسر أن حق تقرير المصير الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك الحق في الانفصال والاستقلال وتكوين دولة خاصة يمكن أن ينطبق على كل من المكونات الأقوامية وربما المذهبية والثقافية لفسيفساء الوحدة المجتمعية الوطنية للشعب السوري.

. والبعض رأى أن الهوية الوطنية السورية تتعارض مع الرابطة أو الهوية العربية للشعب السوري، وذهب ابعد من ذلك أيضا، بإصراره على معارضة التسمية الدستورية الحالية لسورية أي الجمهورية العربية السورية والاكتفاء بتسمية الجمهورية السورية أو الجمهورية السورية الاتحادية أو الديمقراطية، وهذا البعض الذي يجهل كيف جاءت هذه التسمية في أعقاب انهيار الجمهورية العربية المتحدة من قبل حكم الانفصال، يدرك بالتأكيد أن قضية التسمية ليست قضية شكلية أو ثانوية وإنما هو يتمسك

بذلك لانطلاقه من فهم خاص به للهوية الوطنية السورية ومن تصور خاطئ يتعارض مع حقائق الواقع ومعطيات التاريخ المديد.

وبالمقابل نجد بعضا آخر ما يزال يرى في التأكيد على الهوية الوطنية السورية اتجاها يعزز الحالة القطرية والتجزئة والانكفاء أو التخلي عن تحمل مسؤولية القضايا المركزية أو التزامات وأعباء المصير المشترك للأمة العربية، فكأن هذا البعض ما يزال يعيش في مرحلة الصراع الإيديولوجي والعقائد الشمولية التي اثبت مسار التطور العالمي إخفاقها وانتهاء وظيفتها كما اثبتت مختلف تجارب حركة التحرر الوطني العربية خلال نصف القرن الماضي أن الوصول إلى أي شكل من أشكال توحيد الأقطار العربية لا بد أن تكون قاعدته الأساسية استكمال مقومات الاستقلال الحقيقي لكل من تلك الأقطار بإقامة أنظمة وطنية ديمقراطية حقيقية، أنظمة تجسد إرادة شعوبها وتحرر وتنمي طاقاتها وقدراتها الذاتية وتوفر ظروف التعاون والتكامل فيما بينها في كل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والدفاعية انسجاما مع ما كان يكرره عبد الناصر في اكثر من مناسبة بعد الانفصال، بان وحدة القوة وقوة الوحدة هما سبيل العرب إلى التقدم والنهضة.

أما تيار الإسلام السياسي، وكذا الإسلام الجهادي المتمثل اليوم بالمجموعات التكفيرية المسلحة فقد اعتى كل منهما للهوية الوطنية السورية مضمونا خاصا يعتمد على مقوم واحد هو المرجعية الدينية فالأمة بالنسبة لهذا التيار هي الأمة التي يوحدها الدين الواحد وهو الإسلام وان تجسيد إرادة هذه الأمة وصنع المستقبل الذي تنشده يتطلب العودة إلى الماضي الزاهر واستعادة دولة الخلافة، ولذا فلم يكن مستغربا أن نجد التنظيمات الإسلامية الجهادية تتحاشى دوما ذكر اسم سورية في منشوراتها وبياناتها وتستبدلها بتسمية الشام أو بلاد الشام تمشيا مع الأدبيات والمرجعيات السلفية التي تعتمدها وتسير على نهجها.

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الصدد حيث أزمة الهوية الوطنية السورية تواجهنا باعتبارها انعكاسا أو وجها من أوجه الأزمة الشاملة والمتفاقمة التي تمر بها بلادنا اليوم، والتي أخذت بأبعادها الكارثية حالة المأساة المهددة لوجودنا الوطني، السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا هو لماذا أصبحت هويتنا الوطنية السورية في هذا الوقت بالذات موضع تساؤل عن ماهيتها وموضع تشكيك في مقوماتها وموضع تنكر لها، ولماذا يمضي البعض في محاولة اصطناع وتركيب هويات بديلة عنها تطعن في الصميم وحدة شعبنا وتتجاهل حقائق التاريخ وتضحيات أجيالنا وتجهض بالتالي مشروعنا الوطني الديمقراطي السوري الواحد؟

في محاولتنا الإجابة على هذا السؤال نرى من المناسب أن نبدي ملاحظتين أساسيتين: أولها أن ازمه مجتمعنا السوري اليوم. والتي تلتقي في معظم مظاهرها وأسبابها مع أزمات العديد من المجتمعات العربية الأخرى، هذه الأزمة الشاملة هي من وجهة نظرنا ازمه وعي وثقافة بالدرجة الأولى، ازمه النخب الفكرية والسياسية وحركات الإصلاح والتجديد بصورة عامة. حيث يتجلى اليوم على ارض الواقع

إضافة إلى القصور في وعيها وممارساتها القصور الفاضح في تكوينها البنيوي الوطني، والارتداد إلى روابطها العصبوية والفئوية ما قبل الوطنية برغم تأكيدها المتواصل على التزامها بقيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية في سلوكها وفي حياتها الداخلية، الأمر الذي أدى من حيث النتيجة إلى تقاعسها وتخلفها عن أداء دورها الوطني والعجز عن إنجاز المهمات المرحلية التي تطرحها في برامجها السياسية. أما الملاحظة الثانية فهي أن ما نواجهه اليوم من مشاكل أو إشكاليات سواء على صعيد بنائنا الوطني اعلى طريق استكمال تحررنا وصنع غدنا في مسار التقدم الإنساني الشامل، هذا الواقع هو حصاد حقبة كاملة من التراجعات والهزائم والخيبات التي منيت بها شعوبنا العربية، ونعني بذلك الحقبة التي أعقبت مرحلة المد التحرري الوطني والقومي في خمسينات وستينات القرن الماضي.

ففي تلك المرحلة وبرغم ما عرفه كفاح الشعوب العربية من نكسات وهزائم وفي مقدمتها نكسة الانفصال وهزيمة حزيران عام 1967 غير أن إرادة شعوب الأمة العربية لم تنكسر كما أن إيمانها بمصيرها المشترك لم يتزعزع أو يضعف، هذا الأمر الذي وجدنا نقيضه يسود في مرحلة التراجع والانهيار الوضع الذي أدى بأحد حكام الخليج أن يعلن في حرب الخليج الثانية بعد غزو الكويت: لقد تأكد لنا أن وجود امه عربية هو أسطورة! نعم كان الحصاد المر لتراجع وإخفاق الشعوب العربية في كفاحها طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي هو المحنة الوطنية والقومية التي تعيشها بلداننا الآن نتيجة تفاقم أوضاع التخلف والتجزئة والتبعية. فاذا كان المجال لا يسمح لنا هنا أن نبحث في أسبابها، واذا كان الحكم الموضوعي لا يبرر لنا رد هذه الأسباب كلها او معظمها إلى المشروع الصهيوني والعوامل الدولية الخارجية،  فلا بد من الاعتراف هنا بالمسؤولية التي تتحملها القوى الوطنية والتقدمية في تلك الفترة سواء ما كان منها في السلطة في مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن أو ما كان منها في المعارضة تلك القوى التي فرطت بفرص عديدة تاريخية كان يمكن فيها تحقيق إنجازات نوعية على مستوى التكامل والعمل العربي المشترك بما في ذلك تحقيق خطوات وحدوية صحيحة تتوفر لها كل شروط الاستمرار والنجاح، أو على صعيد القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية لجميع شعوب الأمة.

كان ذلك هو المنحى والمسار الذي حكم حقبة تراجع مجتمعاتنا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم حيث أصبحت أحوال بلداننا العربية تمثل وضعا استثنائيا متخلفا في عالم اليوم. أن نظرة إلى هذا الوضع واسترجاع ما كانت عليه طموحاتنا وأحلامنا نحن الجيل الذي عايش مرحلة النهوض والمد الوطني التحرري إنما تذكرنا بصحة ما كان قد طرحه هيغل، ولو قد يرى فيه البعض نوعا من المبالغة التي لا تتعدى في رأينا نطاق الموضوعية، (إن كل أمة لا تستفيد من الفرص التاريخية المتاحة لها، في تجسيد وحدتها وتحقيق نهضتها فإنها غالبا ما ترتد إلى عهود بربرتيها).


من العدد ٧١ من جريدة المسار