مازن كم ألماز
يجد الإنسان من الصعوبة بمكان الاقتناع أن الطائفة بما تعنيه من مواقف مسبقة من شخصيات تاريخية ، أو مجرد أسماء ، تشكل ذلك الأساس الصلب الذي يشار إليه اليوم كوحدة أساسية لمجتمعاتنا … ماذا تعني أسماء كعائشة أو زينب ، عمر أو أبو بكر ، معاوية أو علي أو الحسين ، بالنسبة لمن يعيشون اليوم في مطلع الألفية الثالثة ؟ هل يستحق البشر أن يقتلوا ، يذبحوا ، يهددوا بالإبادة الجماعية ، يهمشوا و يقمعوا ، فقط لأنهم لا يعتقدون بأولوية أحد هذه الشخصيات التي عاشت قبل قرون ، بالنسبة للإله مقابل شخصيات أخرى تعتبر أقل أهمية و مرتبة إن ليس نقيضها الشرير ، شيء أشبه بمضاد المسيح … يبدو الموضوع أقرب إلى الهراء ، لكن ليس بالنسبة لأولئك المستعدين للقتل و للموت ، للذبح حتى الإبادة الجماعية ، على الهوية الطائفية…
الحقيقة أن الهوية الطائفية هي أعقد من ذلك ، لكنها ليست أكثر واقعية و جدية مما تبدو عليه في التساؤل السابق الذي يطيح بها من جذورها ، يبدو أنها منتج معقد اجتماعي عقيدي سياسي يهدف في الأساس لتنظيم الصراع على السلطة ، لإنتاج و إعادة إنتاج هذه السلطة … إنها حالة مجتمع محتبس تاريخيًا في لحظة ما و لا يستطيع تجاوزها ، يدور و يدور حول نفسه دون أن يبلغها لأنه لا يريد بلوغها من الأساس ، إنه يبحث عن منطق ما لصراعاته ، و هو هنا يصارع نفسه و أشباحه دون أن ينتصر … تبدو الهوية الطائفية على تهافتها ، السلاح الأمضى في الصراعات السياسية اليوم و بالتالي في فهم و تموضع السلطة السياسية في مجتمعات تحكمها العصبية بقصد مواجهة السلطة القائمة و تغييرها ، استبدالها بنقيضها ، نقيضها الشبيه ، نقيضها و نظيرها الطائفي في نفس الوقت.
لنعود إلى القصة منذ بدايتها… على الرغم من أن الحكم الأموي قدم نفسه كحكم عربي إسلامي أو مسلم في مواجهة الخصوم التقليديين للدولة العربية الإسلامية الصاعدة خاصة البيزنطيين الذين حملوا لواء المسيحية الشرقية ، لكن علاقته بالمؤسسة الدينية الإسلامية نفسها بقيت متوترة … كان موقف أغلب رجال الدين الأوائل ، حتى أولئك الذين ابتعدوا أو تحاشوا الخلافات السياسية التي بدأت بالفتنة الأولى ، فضلوا الابتعاد عن السلطة الأموية بينما تعرض سلوك الخلفاء الأمويين الدنيوي لانتقادات واسعة و لو ضمنية من المؤسسة الدينية الناشئة ، صحيح أن هذه المؤسسة انشغلت بتنظيم الأسس اللاهوتية للدين الجديد عن التدخل المباشر في الصراعات السياسية تاركة عبء مواجهة السلطة الأموية لفرق المعارضة التي كانت في غالبيتها فرق معارضة مسلحة و لو أنها كانت في نفس الوقت فرقًا تنتج أفكار لاهوتية خاصة مستنبطة من القرآن لكن في مواجهة السلطة الأموية و نزعتها الاستبدادية و ممارساتها القمعية و الدنيوية … بينما انشغلت المؤسسة الدينية بالفقه أولا ثم بعلوم التفسير فالحديث ، تولت فرق المعارضة تأسيس نظرية سياسية للسلطة انقسمت بين فكرة التوريث الأرستقراطية الشيعية و فكرة الانتخاب و إلزام الإمام بالعدل عند الخوارج و أوائل القدرية و المعتزلة … حتى المرجئة الذين اتهموا بأنهم موالون للسلطة خرج من بينهم معارضون شكلوا تهديدا جديًا للسلطة الأموية …
إذا استثنينا الشافعي ، كان مالك بن أنس و أبو حنيفة من معارضي السلطة و تعرضوا للتعذيب عقابًا على معارضتهم … لم يكن الفقه قد بلغ مرحلة من التراكم بحيث أنه لم يكن قد أنتج مرجعياته التي ستصبح المذاهب الفقهية في وقت متأخر ، كانت السيولة و الجرأة الفكرية هي سمة المرحلة … كانت الفرق تظهر و تموت بسرعة ، تحت وطأة هزائمها أمام السلطة لكن كانت سرعان ما تستبدل بأخرى أكثر تطورًا ، على صعيد النظرية السياسية و نقد السلطة القائمة … ليس فقط اللاهوت الخاص بالفرقة ، كانت عضويتها أيضًا سائلة ، فردية ، و لا تورث كما سنرى مع الانتماء الطائفي لاحقًا … لنأخذ المعتزلة كمثال ، رغم اتفاق المعتزلة على الأصول الخمسة المعروفة لكنهم طوروا هذه الأصول باستمرار و أضافوا إليها أبعادًا جديدة باستمرار ، و ناقضوا بعضهم البعض و اختلفوا في الكثير من القضايا الرئيسية ، الأمر الذي سيختفي تمامًا عندما ستتحول الفرق إلى طوائف ، لا يمكن أبدًا مقارنة المعتزلة و لا الخوارج و لا حتى الشيعة التي كانت يومها عنوانًا عريضًا يجمع تحته متناقضات يفرقها أكثر مما يجمعها ، بالطوائف كما اكتملت في وقت متأخر و كما نراها اليوم … و زاد الطين بلة مع انتصار العباسيين الذين تعود أصولهم إلى الشيعة الكيسانية إضافة إلى الدور الرئيسي الذي لعبه الموالي أو الفرس ، في انتصار حركتهم مما أنتج حركة إحياء للمعتقدات الفارسية القديمة ، ما سمي وقتها بالحركة الشعوبية ، و التي قابلها رد فعل سلطوي على يد المهدي و أولاده …
وصلت السيولة الفكرية إلى ذروتها و كانت الحركة الارتدادية على الأبواب ، كان قمع السيولة و معها الفكر و سجنه ضمن حدود صارمة و تجريده من قدرته على النقد و جرأته على تجاوز السائد على الأبواب … يجب أن نعترف للمأمون بأنه أول من حاول ربط السلطة بمذهب معين ، لقد أدرك الرجل بعد احتدام الصراع بين العباسيين و أولاد عمومتهم العلويين ، الحاجة إلى مذهب رسمي للدولة ، تفرضه الدولة بالقوة ، تقمع خصومه ، و دفع تنور الرجل لأن يختار الاعتزال كمذهب ، كدين رسمي للدولة ، و بدأ المأمون بالفعل فرض الاعتزال على المؤسسة الدينية و عرض خصوم الاعتزال لمحنة خلق القرآن ، لكننا كنا قد وصلنا إلى مرحلة تاريخية ، حضارية ربما ، عقيدية ، فكرية ، و اجتماعية بالتأكيد ، أخذت فيها السيولة و الجرأة الفكرية تتراجع و تنحسر و الفكر يجد نفسه مدفوعًا أكثر فأكثر إلى دوغمائيات تستنفذه و تسد الطرق عليه.
جاء انقلاب المتوكل ليؤسس أخيرًا للمذهب السني السائد اليوم ، كمذهب للسلطة ، كدين رسمي للدولة … كان المذهب الأشعري أول مذهب لاهوتي عقيدي متكامل ، نهائي ، منجز ، غير قابل للتعديل أو التطوير ، خلافًا للاعتزال الذي حاول نقضه ، و جاء ابن حنبل بمذهب أكثر انغلاقًا : نهاية تنفي كل ما بعدها ، لأنها تزعم العودة إلى البدايات ، و من البداية تصنع نهاية ، طريقًا مسدودًا ، لكن هذا الانسداد الحنبلي يبدو أقرب للنتيجة منه أن يكون سببًا ، لقد وصل التفكير إلى أقصاه و حبس نفسه ضمن دوغمائياته الأخيرة الحاسمة.
لقد بدأ عصر الانحطاط ، عصر التكرار و الشرح و الاجترار … كان تأثير الغزوات الخارجية ، الصليبية فالمغولية ، مدمرًا ، ليس على العمران فقط ، تزلزلت الأرض فجأة و بدلًا من ذكريات الإمبراطورية الغابرة حلت المصائب تباعًا ، استبيحت بغداد فالقدس و حلب و دمشق و حواضر الشرق مرارًا، بدا المرتزقة الأيوبيون فالمماليك في وضعية المخلصين ، سيتحمل المجتمع فساد المماليك لقرون تالية و سيغفو على هدهدة التراتيل الصوفية و يستسلم لرقاده ضمن حدوده التي تضاءلت و تضاءلت قبل أن يقتحمها نابليون بونابرت.
سيستكمل الصفويون و العثمانيون ما بدأه المأمون و المتوكل و ابن حنبل ، سيصبح للتنافس العثماني الصفوي عنوانًا واحدًا : صراع سني شيعي ، سيحول إسماعيل الصفوي العراق إلى المذهب الاثني عشري بالقوة المفرطة ، نفس القمع الذي سيلاحق فيه خصمه سليم الأول الشيعة في كل مكان … لقد تشكلت الطوائف أخيرًا ، اختفت الفرق السائلة دائمة التحول و المعارضة في معظمها ، لصالح طوائف منغلقة ، نهائية ناجزة ، ذات بعد سياسي مباشر مرتبط بسلطة ما ، و لاهوت مغلق يقوم على إنكار الآخر و تكفيره ، لقد أغلقت أبواب “العلم” ، نهائيًا ، و أصبح أي نقد يطاول لاهوت الطائفة يستوجب حكمًا واحدًا لا ثاني له ، هو الحرمان ( الكنسي ) و القتل ؛ الإلغاء التام.
كان بناء الدولة الحديثة في الشرق عملية معقدة ، كانت من جهةٍ استجابة لضغوط الخارج الأقوى ، عسكريًا و تكنولوجيًا و اقتصاديًا ، كانت أيضًا خيار الجزء “المتنور” من النخبة الحاكمة و الاجتماعية أمام الضغوط الهائلة لذلك الخارج ، و عنت هذه العملية تحطيم البنى التقليدية ، الاجتماعية و العقيدية ، و التراتبية الهرمية و الامتيازات السابقة لصالح أخرى ، أكثر “حداثة” مرتبطة بالحكومة المركزية و بواقعها السياسي الاجتماعي الجديد … طبقة الأعيان التي كانت تضم رجال الدين التقليديين و رجال الإقطاع و شيوخ الكار تلقت ضربات متلاحقة ، حل التعليم “الحديث” مكان التعليم الديني التقليدي كأساس لتدريب و صعود البيروقراطية الجديدة ، و اضطرت الدولة تحت ضغط التيارات الليبرالية الداخلية و الخارجية إلى إعلان المساواة بين “رعاياها” الأمر الذي أثار حفيظة الغالبية السنية و دفعها للانتقام من تدهور أوضاعها من الأقليات ، خاصة الأقلية المسيحية الصاعدة … تمثلت الدولة الحديثة في نظر “مواطنيها” بالتجنيد الإلزامي الذي قاومه الناس بشدة لدرجة إلحاق الأذى الجسدي بأنفسهم للتهرب منه ، و بالضرائب و أعمال السخرة التي فرضتها الحكومات المركزية و “بالمساواة” أمام القانون مع الأقليات المقموعة و المهمشة سابقًا الأمر الذي استجلب مقاومة شديدة في كثير من الأحيان ضد إجراءات الحكومة المركزية و تدخلها السافر و المتنامي في حياة الأفراد و سعيها الدائم لفرض تغييرات تتناقض مع معتقداتهم و ممارساتهم التقليدية … كانت أهم ثورات بلاد الشام في القرن التاسع عشر هي الثورات التي قامت في وجه إبراهيم باشا و إصلاحاته أما عامية جبل لبنان فسرعان ما تلتها مجازر ١٨٦٠.
على الرغم من محاولات تحديثها ، لم تحضر الدولة المركزية فقط كعامل تدمير للبنى العقيدية و الاجتماعية ، و في نظر الكثيرين من رجال الدين : الأخلاقية أيضًا ، بل أيضًا كحالة لتوزيع المنافع و الامتيازات في الدولة الناشئة و اقتصادها المزدهر … بلغ الصراع على توزيع هذه الامتيازات أشده بعد الاستقلال ، كانت النخب المتنافسة ، المدينية و التقليدية ، تزج في هذا الصراع بكل أسلحتها ، و كذلك مشاريع النخب الصاعدة من الطبقات الوسطى في الريف و المدينة التي رأت في الحراك السياسي فرصة لها للصعود الاجتماعي و زيادة حصتها من الامتيازات المتأتية عن مركزة السلطة والاقتصاد … احتفظت الدولة العربية الحديثة بسمات عدة من الدولة المملوكية : نخبة تتحكم بالاقتصاد و تفرض “أتاوات” على المجتمع بينما تعتمد على تأكيد “شرعيتها” على قاعدتين ، لاهوتية و حماية البلاد من الأخطار الخارجية …
هذا طبعًا إلى جانب سماتها الحديثة، الخدمات التي تقدمها و التي تتفاوت سويتها صعودًا و هبوطًا و المؤسسات الحديثة التي تستعين بها في ممارسة حكمها و تسلطها… زاد هذا الشبه بين الدولة العربية الحديثة و بين الدولة المملوكية مع استيلاء العسكر على السلطة في كثير من الدول العربية ، بينما تحدث العسكر كثيرًا عن تحديث المجتمعات و الدول و أنهم الأحق بهذا باعتبارهم الجزء الأكثر ارتباطًا بالحداثة من النخبة السياسية والاجتماعية ، فإنهم في الواقع كرسوا الشكل المملوكي من الحكم والسلطة الذي يزاوج بين الطبيعة العسكرية للحكام وبين لاهوت سلطوي و اقتصاد ريعي مستباح وعلاقة قمع مباشرة وعارية للمجتمع بدون رتوش معاصرة أو مؤسساتية …
وكما حدث في الصراعات السابقة التي واجهت صعود الحكومات المركزية ، فإن من تكفل بمواجهة الأنماط الأحدث منها هم أيضًا دعاة الحفاظ على البنى العقيدية و الاجتماعية التقليدية التي تريد إما إيقاف الزمن و العودة إلى الوراء أو القفز على الدولة المركزية و التحكم بها و بالمجتمع من خلالها كمؤسسة لتوزيع الامتيازات و الغنائم … تتشابه الأنظمة العربية ، المملوكية ، بشدة ، التوريث ظهر فجأة في كل مكان كنتيجة “لتطور” هذه الأنظمة ، التغول الأمني ، تزواج الخصخصة النيوليبرالية مع القمع العاري … في الحقيقة إن نظامي “البعث” في سوريا و العراق أكثر هذه الأمثلة نموذجية ، لدينا نظامان شبه متطابقين ، صورتان بالنيجاتيف عن بعضهما البعض : القرداحة مقابل العوجة و تكريت ، برزان التكريتي مقابل رفعت الأسد ، قصي و عدي صدام حسين مقابل باسل و بشار الأسد ، سيطرة خاصة للضباط العلويين على مفاصل الجيش و الأمن مقابل سيطرة خاصة للضباط السنة على نظرائها في العراق ، قمع استثنائي في حدته ضد الإسلاميين من الطائفة الأكبر و قوى طائفية معارضة تستخدم مظلومية الطائفة الأكبر لتبني سلطتها الخاصة ، كما شاهدنا في العراق حتى الآن على الأقل ، مع دور مركزي للخطاب الطائفي في المعارضة السورية …
بالنسبة للباحثين عن بديل خارج الأنظمة القائمة و خارج إعادة توزيع الغنائم و الامتيازات بنسب معكوسة مع الحفاظ على بين النظام المملوكي كما هو ، فإن درس ليبيا و تونس و العراق ما بعد القذافي و بن علي و صدام تستحق الدراسة و التوقف على الأقل ، طبعًا هذا يتعارض مع رغبة القوى التي حلت محل الطاغية و مع حاجتها لإخفاء عجزها و فشلها في السلطة … لقد شاهدنا كيف عجزت “المعارضة” العراقية في الحكم عن حل أبسط مشاكل العراق الخدمية و كيف فاق فسادها فساد النظام الذي قاومته و كيف ردت على الحراك الشبابي المعارض لها ، الشيعي بدرجة كبيرة ، بنفس أساليب نظام صدام …
في ليبيا أدى إسقاط نظام القذافي إلى استبدال الديكتاتور بسلطة أمراء الحرب ، أما في تونس فقد استطاع شخص لا يملك خبرة و لا دعمًا سياسيًا وازنًا من الإطاحة بالمؤسسات التي تعتبر نفسها ديمقراطية و من التحكم بمفاصل الدولة دون أية مقاومة جدية أو وسط لامبالاة كاملة من المجتمع … هنا يأتي دور تعرية الخطاب الطائفي كوعي زائف ، إذا أمكن لنا هنا استعارة المصطلح الماركسي ، وعي يلوي عنق الواقع الاجتماعي بهدف إنجاز تحول باتجاه الوراء ، تحول لكن دون تحول حقيقي ، تغيير في الوجوه المتسلطة و المتحكمة دون أي تغيير حتى في نمط هذا التسلط و الاستبداد ، كيلا يتوقف الأمر عند أمير مملوكي يسقط الأمير السابق فقط ليبني قصره على أنقاض قصور من سبقوه.