ثلاثية احتجاجات مهسا أميني في إيران

تواجه السلطة الدينية في إيران بزعامة المرشد الأعلى علي خامنئي الذي تجاوز عمره (٨٣) عاما أكبر تحدي بتاريخ السلطة الإيرانية منذ قيامها في عام ١٩٧٩، وجاء هذا التحدي على خلفية الاحتجاجات التي انطلقت في ١٦ أيلول ٢٠٢٢ بسبب اعتقال الشابة مهسا أميني (٢٢) عاما في ١٣ أيلول ووفاتها بسبب التعذيب على أيدي شرطة أخلاق إيران على خلفية عدم تقيدها بقواعد اللباس المفروضة على النساء فتحولت جنازتها من منزل ذويها إلى تظاهرة احتجاجية سرعان ما تطورت إلى حركة احتجاج واسعة في أغلب المدن الإيرانية. 

اعتادت السلطات في ايران على إخماد معظم الاحتجاجات التي انطلقت خلال العقود الماضية  في أيام معدودة ولم تشكل حينها أي تحدي أو قلق عند السلطة الحاكمة في طهران، إلا أن احتجاجات ١٦ أيلول من هذا العام اعتبرت حالة نوعية مختلفة عن سابقاتها من الاحتجاجات كونها لاتزال مستمرة وهي في توسع، فقد  شملت شريحة واسعة ومتنوعة من الشعب وكان الدافع الأساسي لها مزيجاً من المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادي لذلك نجد النظام قد جابهها بوحشة غير مسبوقة، كما أن عدم استعداد السلطة الدينية لإجراء أي إصلاحات للأخطاء المتراكمة خلال العقود الماضية اعتبر أيضاً سبباً أخر في استمراريتها وشمولها لشرائح اجتماعية جديدة وتحديدا المرأة وطلاب المدارس وخريجي الجامعات ومشاهير فنية وثقافية  وفقراء المجتمع  و الطبقة الوسطى التي ازداد افتقارها من جراء الاستبداد وفساد العديد من مؤسسات الدولة وهيمنة السلطة الحاكمة وقيادات الحرس الثوري على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية.

لقد أطلق أغلب المراقبين والسياسيين على احتجاجات ١٦ أيلول بثورة مهسا أميني، لأن مقتلها شكل الشرارة التي أشعل غضب الشارع الإيراني  فأصبحت رمزاً وأيقونة لكل معارض لسلطة الاستبداد الديني وكان دافعا للمرأة الإيرانية للمشاركة الواسعة في الاحتجاجات ومنحها الشجاعة لتتصدر واجهة الاحتجاجات بشعارها الذي حملته (المرأة، الحياة، الحرية) ومطالبة بحقوقها  وحريتها بالحياة الاجتماعية والثقافية وفي الملبس متحديا القمع الوحشي الذي مورس عليها من قبل شرطة الأخلاق التابعة للسلطة الدينية ومواجهتها لإطلاق الرصاص الحي واستعدادها للموت من أجل نيل تلك الحقوق المحرومة منها منذ عام ١٩٧٩ بعد سيطرة القوى الدينية بزعامة آية الله الخميني على الثورة والسلطة في ايران فأحرقت الحجاب المفروض عليها  فأعطى ذلك بعداً حقوقياً واجتماعياً وإنسانيا وثقافياً إضافة للبعد السياسي المميز الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في نيل الاحتجاجات الدعم الداخلي والخارجي عن سابقاتها.

لقد تميزت  تلك الاحتجاجات عند المراقبين لها  ولأول مرة بتلاقي ثلاثية أهدافها السياسية والاقتصادية  والاجتماعية فسميت عندهم أيضاً  بانفجار الأزمة الثلاثية في إيران، فسياسياً هتف جميع المحتجين رجالاً ونساءً بسقوط النظام وسلطة المرشد الأعلى وتغيير النظام السياسي وبموت الديكتاتور وإحراق صور المرشد الأعلى، والقصد هنا المرشد الأعلى أية الله خامنئي، كما لوحظ ولأول مرة في تاريخ الاحتجاجات المشاركة الواسعة للعمال وللفئات الفقيرة وللطلاب والشباب وخريجي الجامعات و للطبقة الوسطى في عديد المدن والبلدات، فتم إضراب الجامعات كما أغلق أغلب التجار محلاتهم التجارية بما فيه البازار الكبير الشهير في طهران وكذلك في مدن كرمان وشيراز ويزد ومدن أخرى. 

ويؤكد المراقبون أن الاحتجاجات عمت أكثر من مئة مدينة وبلدة تضامناً مع المتظاهرين واحتجاجاً على القمع وانتهاكات حقوق الإنسان واستخدام الرصاص الحي وازدياد عدد القتلى والمعتقلون والمعتقلات والمحكومون بالإعدام  وعلى قطع وسائل الاتصال الحديثة وتعبيراً عن الحالة الاقتصادية المتردية وسوء الأحوال المعيشية لشرائح واسعة في إيران وعلى عدم تطبيق العدالة في توزيع الثروة وعلى هيمنة السلطة الدينية ورموزها من الشرطة والأمن وقادة الحرس الثوري على ثروات الدولة وبسبب السياسات الفاشلة الداخلية والخارجة  التي جلبت العقوبات على إيران منذ أكثر من أربعون عاماً ومن جراء تبنيها لمبدأ تصدير الثورة وتدخلها في الشؤون الداخلية  لدول الجوار كما هو في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كما تميزت ثورة مهسا أميني  بعدم المراهنة على ما سمي بالتيار الإصلاحي داخل السلطة الدينية وأنهت فكرة أن الصراع الدائر في ايران هو بين إصلاحين ومحافظين وهذا خلافاً لما حدث في احتجاجات ٢٠٠٩ التي تميزت بطابعها السياسي فقط عندما نزل الشعب الإيراني إلى الشوارع على أثر الانتخابات الرئاسية تأييداً للتيار الإصلاحي  وحظيت بدعمه، كما أنها تختلف عن احتجاجات ٢٠١٩ التي اندلعت لأسباب اقتصادية فقط  بعد رفع أسعار المحروقات والعديد من المواد الرئيسية وطالبت بتحسين الوضع المعيشي. 

أما في هذه الثورة فلم يكن للتيار الإصلاحي أي دور فيها وبقي مراقبا أو ناصحاً للسلطة من تداعياتها في المجتمع الإيراني كما هو عند خاتمي الوجه  البارز في التيار الإصلاحي الذي تعامل بنجاح مع الاحتجاجات السابقة،  فقد حذر السلطات الإيرانية من الانهيار الاجتماعي الذي يمكن أن تفضي إليه موجة الاحتجاجات والعنف المتصاعد بسبب القمع منذ وفاة الشابة مهسا أميني ويقترح لمنع تدهور الوضع بإعادة الثقة بين النظام والمحتجين عبر تصحيح ذاتي للنظام السياسي سواءً لجهة تركيبته أو لجهة تصرفه واحترام الحريات الأساسية وفي ذلك إشارة إلى وجوب احترام الحريات المدنية وحقوق الإنسان وإلى التعامل بحكمة مع مسألة الأمن القومي أو فيما يتعلق بالتحديات  القومية – الأمنية والمذهبية بين منطقة وأخرى  وكما يجري حالياً التمييز بين قلب أيران الفارسية وبين الأطراف السنية العربية منها والكردية وأيضاً مع البلوشية والسيستانية ومع عشائر التركمان إضافة إلى وقف حملات الافتراء والتحريض ضد الأكراد تحت عنوان التطرف القومي حيناً والإرهاب التكفيري حيناً آخر، كما يرى حول الاتهامات العقيمة للاحتجاجات (بالتآمر الخارجي) فهو يرى (أنه يجب البحث في جذور الأزمة الإيرانية عنها في داخل البلاد وهي ناتجة عن ألية حكم تشوبها أخطاء والطريقة الخاطئة في الحكم وأنه يجب الاعتراف بالحقيقة وعدم التهرب من تحمل المسؤولية بذريعة وجود تدخلات وخارجية تدفع نحو حرب أهلية).

لقد أكد العديد من الصحفيين ولمراقبين بأن احتجاجات مهسا أميني شملت العديد من المطالب السياسية والاقتصادية والحقوقية، حيث قالوا أنه لأول مرة في تاريخ الاحتجاجات  هتف المتظاهرون بالموت للديكتاتور والمقصود هنا آية الله خامنئي كما هتفوا بإسقاط سلطة المرشد الأعلى وتغير النظام السياسي وإنهاء حكم رجال الدين القائم منذ عام ١٩٧٩ كما أحرقوا صور خامنئي ورموز النظام مثل قاسم سليماني ، وأحرقت النساء الحجاب احتجاجاً على القيود الاجتماعية المفروضة عليهم في اللباس أو على سلوكهن في الأماكن العامة أو على حرياتهن الخاصة.

لقد أظهرت احتجاجات بهسا أميني الواسعة والشاملة عمق الأزمة الإيرانية، ونجد تعبيرات  ذلك من خلال  استقطابها لشرائح عديدة من المجتمع الإيراني التي عبرت عن مدى الاستياء المتنامي لديها وعن عجز السلطة عن تلبية حاجياتها الأساسية فنزلت الطبقة الفقيرة للمرة الأولى في مدن عديدة من إيران متحدية كافة أساليب القمع الوحشي والاعتقال والموت، تلك الطبقة التي شكل  عدد كبيراً منهم سابقاً وقبل الاحتجاجات قاعدة النظام الاجتماعي أو موالون له وهذا يعبر عن تدهور حالتهم الاجتماعية والاقتصادية وكان ذلك دافعاً قوياً لهم ليأخذ احتجاجهم طابعاً سياسياً  استهدف جميع مكونات السلطة الدينية بجناحيها الإصلاحي والمتشدد، إضافة للتنديد بالحرس الثوري ورموزه الذي احتكر مع رموز السلطة الدينية السلطتين السياسية والاقتصادية، كما لوحظ أيضاً في تلك الاحتجاجات تضامنا كبيراً بين مختلف الإثنيات الإيرانية  والعديد من المشاهير من الفنانين والكتاب والمثقفين  مما أعطاها طابعاً وطنياً وهذا ما يفسر وحشية النظام الإيراني ضدها والسعي للقضاء عليها وإخمادها في أسرع زمن ممكن.

لا يمكن اعتبار الانفجارات الإيرانية المتتالية مستقلة أو منعزلة عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي والدول الإفريقية ، فجميعها بما فيها انفجار بركان مهسا أميني الإيراني كان المحرك الأساسي فيها هو استمرار الاستبداد والفساد في  أنظمة الحكم وتعميم القمع الوحشي لشعوب المنطقة وصعوبة الحصول على رغيف الخبز ولقمة العيش والحرمان من الحقوق والحريات العامة والخاصة. 

لذلك ليس غريبا أن يشبه المراقبين والمحللين السياسيين احتجاجات ١٦ أيلول في ايران بثورة محمد البوعزيزي في تونس عندما اقدم هذا الشاب على إحراق نفسه احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية وعدم تمكنه من تأمين قوت عائلته وبسبب إهانته من الشرطة التونسية أثناء عمله، وفي هذا السياق ، فإيران حينها كانت تعتبر من أوائل الدول الإقليمية التي رحبت بما سمي بالربيع العربي وحينها أشادت بالاحتجاجات التونسية والمصرية  والجزائرية والتطورات اللاحقة من إسقاط أنظمة وإقامة أنظمة جديدة واعتبرت تلك التطورات امتداد للثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، والمستوحاة منها كما عبر حينها المرشد الأعلى علي خامنئي في خطبة يوم جمعة في ٢٠١١ واعتبر ما حادث في تونس ومصر دليل على قوة تأثير الثورة الإيرانية الإسلامية، أما قاسم سليماني قائد فيلق القدس والحرس الثوري الإيرانية فقد اعتبر ما حدث في مصر إيرانيات جديدة وكبرى  في المنطقة. 

لم تدرك السلطة الدينية في إيران إلا مؤخراً من أنه لا يمكن أن يستمر احتكار السلطة والاقتصاد وممارسة القمع على الشعب وحرمانه من الحريات عشرات السنين، فشعرت بخطورة امتدادات الاحتجاجات في جميع الأراضي الإيرانية وتأثير الشعارات التي تبنتها وفي مقدمتها سقوط النظام والسلطة وموت الديكتاتور ومحاربة الفساد والرشوة والمطالبة بمنح  الحريات العامة والخاصة وتحقيق العدالة والقضاء على الفقر والبطالة. 

كما أن رفض أغلبية الشعب الإيراني للسياسة الخارجية وتدخلها في شؤون دول الجوار وتقديم الدعم غير المحدود للنظام السوري لقمع الشعب السوري الثائر ضد الاستبداد والفساد  قد رفع الغطاء عن الحجة التي يسوقها النظام من أنه داعماً للمستضعفين ويحارب الاستكبار وأن سياساتها مع الثورات انتهازية، كما أن ازدياد التأييد الداخلي والدولي للاحتجاجات أصبح يشكل هاجسا عند السلطة من أنه سيمنحها قوة وإمكانية تغير النظام، لذلك قررت السلطة الدينية عدم تقديم أي تنازل للمتظاهرين واتهمتهم بالعملاء والخونة واعتبرت الاحتجاجات بفعل من الخارج وخاصة أمريكا وبريطانيا والسعودية واتجهت إلى تبني سياسة متشددة في التعامل مع الاحتجاجات أو أية دعوة للتظاهر واستعملت القمع المفرط في مواجهة المتظاهرين وأنزلت أشد العقوبات بحق رواد التظاهر، وقد وصلت أحكام الإعدام إلى أكثر من ٣٠ حكماً، كما فرضت  قيود شديدة على وسائل الاتصال الحديثة وفرضت الإقامة الجبرية على زعيمي الحركة الإصلاحية مير حسين موسوي ومهدي ركوبي.

مع دخول الاحتجاجات الشهر الثالث دون أن تنجح في احتوائها أو إخمادها فان طهران فوجئت بنجاحها وتجاوز كل الأسباب التي أدت إلى إنهاء الاحتجاجات  السابقة  وفي زمن قصير لا يتجاوز العشرة أيام وهي تخشى من استمرارها خلال المرحلة القادمة ولاسيما مع المشاركة الواسعة لجيل الشباب الذي أصبح يشكل القسم الأكبر من المتظاهرين، جيل يحمل تطلعات تتباين مع توجهات النظام الإيراني وخاصة ما يتعلق بالموقف من القيود الاجتماعية والثقافية المفروضة وما يعاني من هواجس يعيشها حول مستقبله الغامض، فمع التطور التكنولوجي الهائل والمتسارع خلال العقود الماضية من عمر الثورة الإيرانية، إضافة لما وقع من متغيرات دولية وإقليمية وثورات أمم وشعوب تطالب بالديموقراطية وبالحقوق والحريات وتحقيق العدالة وإنهاء  الاستبداد والفساد والفقر، فقد أصبح  يرى الشبا ب الإيراني أنه آن الأوان لإحداث تغيير جوهري في المجتمع والسلطة  وتجاوز ثوابت السلطة الدينية في السياسة وفي الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية.

رغم مخاوف السلطة الإيرانية من استمرار الاحتجاجات وتداعياتها في المجتمع الإيراني، إلا أنه ولغايته لم تبدي السلطة الإيرانية أي استعداد لتلبية مطالب الشعب الإيراني الذي أصبح يعرف إلى حد بعيد ماذا يريد وهو مصمم في الاستمرار لتحقيق مطالبه في تغير الوضع القائم وإنه يمكن القول إن الشعب الإيراني اجتاز مراحل صعبة ومهمة في مسيرته الاحتجاجية، ويبقى السؤال الأهم، هل الاحتجاجات لوحدها تنهي نظام مستبد لا يزال يملك الكثير من عوامل القوة الداخلية والخارجية؟


من العدد ٧١ من جريدة المسار