(متابعة لافتتاحية العدد 69)
في عام 1927 جرت بحار من الدماء بين القوميين الصينيين في حزب «الكيومنتانغ» والشيوعيين. في تموز1937 غزت اليابان الصين. وضع زعيم الحزب الشيوعي ماو تسي تونغ تلك الدماء على الرف، ودعا إلى تشكيل جبهة وطنية متحدة مع «الكيومنتانغ» ضد اليابانيين. من أجل تقديم التسويغ السياسي لهذا التحول الدراماتيكي، كتب ماو نصاً في شهر آب 1937 تحت عنوان «في التناقض»، يمكن أن يُعد، مع كتاب مكيافيللي «الأمير» وكتاب ماركس «الثامن عشر من بروميرلويس بونابرت»، من أفضل النصوص لتعليم السياسة. يقول ماو في ذلك النص ما يلي: «عندما تشن الإمبريالية حرباً عدوانية على بلد… فإن الطبقات المختلفة في هذا البلد، باستثناء حفنة من الخونة، يمكن أن تتحد مؤقتاً كي تخوض غمار حرب وطنية ضد الإمبريالية، وحينئذ يصبح التناقض بين الإمبريالية وذلك البلد التناقض الرئيسي، فيما تصبح مؤقتاً جميع التناقضات بين مختلف الطبقات داخل ذلك البلد في مركز ثانوي وتابع».
تشارك الشيوعيون والقوميون لثمان سنوات في مقاومة اليابانيين، وبعد هزيمة طوكيو عام 1945 ساهمت أجواء الحرب الباردة، بما فيها الدعم الأميركي لزعيم «الكيومنتانغ» شيانغ كاي شيك في عودة المواجهات المسلحة بين الشيوعيين والقوميين منذ كانون الأول من عام 1947 حتى استطاع الشيوعيون الانتصار بالربع الأخير من عام 1949 ودحر «الكيومنتانغ» الذي لجأ زعيمه ومعه ملايين من أتباعه إلى جزيرة تايوان.
في ذلك النص، يحدد ماو التناقض الرئيسي بحسب كل مرحلة: ضد الخارج الإمبريالي ثورة وطنية، ضد المرحلة ما قبل رأسمالية ثورة ديموقراطية، وضد السيطرة الرأسمالية ثورة اشتراكية.
في عامي 1863 ـ 1864 اعترض ماركس على سياسات زعيم الاشتراكيين الألمان فرديناند لاسال الذي اتجه إلى التحالف مع المستشار البروسي بسمارك والجيش والإقطاعيين (اليونكرز)، متوقعاً أن هذا سيقود إلى استحالة قيام ثورة ديموقراطية ألمانية تضم العمال والفلاحين والبورجوازيين الليبراليين من أجل ضرب العلاقات والبنى الماقبل رأسمالية في ألمانيا وإنهاء سيطرة الإقطاعيين والنبلاء على جهاز الدولة، ورأى أن وقوف الاشتراكيين وراء «الإقليم ـ القاعدة»، أي بروسيا، من أجل تحقيق الوحدة الألمانية سيقود إلى انسداد أفق الثورة الديموقراطية الألمانية على طراز ثورتي 1688 – 1689 و 1789الإنكليزية والفرنسية، وبالتالي انسداد أفق الثورة الاشتراكية الألمانية التي يعتبرها أنها لا يمكن أن تتم إلا بعد استنفاذ المرحلة الرأسمالية، وهذا واضح عنده منذ عام 1848 في «البيان الشيوعي».
صحيح أن ماركس رحب بالوحدة الألمانية عام 1871 واعتبر بسمارك «يقوم بجزء من عملنا»، إلا أن اعتراضاته على لاسال كانت تحوي تنبؤات عن مستقبل أسود ألماني كان تجسيدها الأكبر أدولف هتلر، أو كما عبر جورج لوكاتش في «تحطيم العقل»: «العلة المركزية هي، بعد عام 1848 كما قبله، ذهنية الخضوع التي هي ذهنية الألماني المتوسط، كما هي ذهنية أكبر مثقفي هذا البلد… بما أن الوحدة القومية لم تفتح بثورة، بل فرضت من فوق، فقد بقي هذا الوجه في سيكولوجيا وأخلاق الألمان، إن صح القول، بلا تغيير». في هذا الكتاب يحاول لوكاتش تفسير نشوء ديكتاتور وحشي عند الألمان، مثل هتلر، في بلد أفرز مفكرين إنسانيين كبار مثل غوته وفنانين عظام كبتهوفن، ويرى أن السيكولوجيا والثقافة كانا عاملين مساعدين على ملاقاته لأرضية اجتماعية قوية لحزبه النازي. على الأرجح لو كان إدراك لاسال مثل ماركس في إدراكه أن التناقض الرئيس ليس «الوحدة القومية» بل «الثورة الديموقراطية»، لكان من الممكن تحقيق الأولى بعد الثانية ولكان بالإمكان تفادي شلال دماء البشرية في الحربين العالميتين.
هنا، لم يكن عند الشيوعيين العرب ذلك الإدراك الذي كان عند ماو تسي تونغ لـ«التناقض الرئيسي»: في نيسان 1948 كان المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا مصطفى السباعي ضمن قوات جيش الإنقاذ التي كانت تقاتل في معركة القسطل قرب القدس مع عبد القادر الحسيني ضد الصهاينة، بينما كان الشيوعيون العرب يصدرون بياناً بتأييد قرار تقسيم فلسطين، وهو ما رماه ظهير عبد الصمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري عام 1971 بوجه خالد بكداش أثناء مداخلته في المجلس الوطني للحزب: «ليس صحيحاً ما قيل في التقرير السياسي الذي ألقي أمام المؤتمر الثالث للحزب عام 1969 من قبل الأمين العام أننا لم نؤيد التقسيم… هناك بيان موقع من أربع أحزاب شيوعية تؤيد التقسيم» («قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري»، دار ابن خلدون، بيروت 1972، ص272)، وذهب الشيوعيون العراقيون في يوم 11 حزيران 1948 في نص بعنوان «ضوء على القضية الفلسطينية» إلى القول «بأن لهذا الشعب الإسرائيلي الجديد الحق في تقرير مصيره» وإلى وصف منظمتي «الأرغون»، بزعامة مناحيم بيغن، و«شترن»، بزعامة إسحق شامير، بأنهما «منظمتان تقدميتان» (حنا بطاطو: «العراق: الكتاب الثاني…الحزب الشيوعي»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت1992، ص 258-259).
لم يكن ستالين معجباً بماو تسي تونغ، وضغط عليه كثيراً، ولكن ماو كان وطنياً ثم شيوعياً، واستخدم الماركسية لتحرير بلده من الأجنبي ثم لتحريرها من التخلف وإنهاضها وتحديثها، لذلك لم يكن خاضعاً لتوجيهات ستالين، بينما كان الشيوعيون العرب حتى عام 1947 ضد الصهيونية وضد قرار تقسيم فلسطين، وعندما استدار السوفيات وغيروا موقفهم يوم قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 قاموا بالاستدارة على الإيقاع السوفياتي. لم يدركوا ما أدركه الياس مرقص وقاله عام 1970 في كتابه «نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن» عندما قام بتحديد إسرائيل ككيان وظيفي للإمبريالية العالمية للهيمنة على العرب، وهو عندما يقول بالوحدة العربية فإنه لا يربطها لا باللغة ولا بالثقافة المشتركة، كما يفعل القوميون العرب، أو يشرطها بالاقتصاد المشترك، كما فعل بكداش متأثراً بنظرية ستالين حول «الأمة»، بل يحددها، كوحدة عربية، مكتسبة لمضمون واحد تؤدي إن تحققت كهدف إلى إنجازه وهو «سقوط وضع التجزئة الإمبريالي…» من أجل كسر (مصالح الإمبريالية الثلاث: كيانات التجزئة، الهيمنة على البترول، إسرائيل)، (مرقص: «المرجع المذكور»، دار الحقيقة، بيروت 1970، ص301).
هنا يقوم الياس مرقص بتحديد التناقض الرئيسي: «الإمبريالية ومظاهرها الثلاث”.يمكن من خلال «التناقض الرئيسي» تحديد من هو «تقدمي» ومن هو «رجعي» بعيداً عن اصطفافات «اليمين» و«اليسار» وبعيداً عن معايير «الحداثة» و«التخلف»: وفق هذا المعيار عند الماركسيَّين، ماو تسي تونغ والياس مرقص، فإن مصطفى السباعي هو أكثر تقدمية في عام 1948 من خالد بكداش.
أيضاً ووفق هذا، فإن الشيوعيين العراقيين في فترة تموز 1958 ــ آذار 1959 لما أفشلوا انضمام العراق للوحدة السورية ــ المصرية، أو جعل بغداد في حالة اتحادية مع القاهرة وبغداد، كانوا رجعيين، وبالتأكيد كان أيزنهاور في واشنطن وماكميلان في لندن وشاه إيران وعدنان مندريس في أنقرة وبن غوريون في تل أبيب يصفقون لهم في قلوبهم، ولا يكفي هنا وقوف خروتشوف معهم لنفي ذلك ولا المنجل والمطرقة. لو حصلت عملية التقاء دجلة والفرات والنيل لما كانت حصلت عملية انفصال 1961 ولا هزيمة 1967 ولا حرب العراق وإيران في الثمانينيات ولا اجتياح الكويت ولا احتلال العراق، ولما كان هناك تنامياً لقوى الجوار العربي في طهران وأنقرة وأديس أبابا، وعلى الأرجح كانت إسرائيل ستنتهي أو على الأقل كان ظهرها سيكون للحائط، وكان الأكراد العراقيون سيستوعبون في الإطار الجامع.
في حرب انفصال الجنوب اليمني عام 1994 كان على عبد الله صالح أكثر تقدمية من زعيم الانفصال الماركسي علي سالم البيض. هنا أيضاً لا يمكن قياس «حزب الله» في لبنان من خلال «عدم وجود كأس البيرة» أو «التنورة القصيرة» في الضاحية الجنوبية لبيروت بل من خلال بوصلة واحدة هي التناقض الرئيسي الذي اسمه إسرائيل.
أيضاً لا يمكن فقط قياس السيد حسن نصر الله من خلال علاقته بإيران أو من خلال مذهبه الشيعي بل أساساً من خلال كونه أكثر عربي كان مؤلماً لإسرائيل منذ يوم الجمعة 14 أيار 1948 لما أعلن ديفيد بن غوريون قيام تلك الدولة. وعملياً فإن شخصية مثل سمير جعجع هي متفاعلة أكثر مع الثقافة الحديثة من كثير من المقاومين المتدينين في جنوب لبنان في فترة 1982 ـ 2006، إلا أن إدراك التناقض الرئيسي هو الذي يحدد أن أولئك المتدينين هم أكثر تقدمية من شخص عصري وحداثي كان في تنظيم «القوات اللبنانية» الذي كانت تربطه خيوط تحركه من تل أبيب منذ عام 1976، كما أن علمانيته ليست ناتجة عن إيمان من قبله بها بل عن وظيفية يمكن أن يستخدمها فيها لحماية طائفته أو لإضعاف الطوائف الأخرى، وهو ما يشاركه في تلك الوظيفية الكثير من طارحي العلمانية العرب الراهنين.
نعود هنا لتحديد أين التناقض الرئيسي في بلد مثل سوريا الراهنة حيث يوجد هنا بلد مشتعل بفعل أزمة قارب عمرها على دزينة من الأعوام وحيث توجد خمسة جيوش خارجية في البلد، وميليشيات من جنسيات عديدة وتنظيمات متطرفة عابرة للحدود مثل تنظيم داعش وتنظيم القاعدة،وحيث توجد ثلاث مناطق منشطرة جغرافياً، وحيث هنا دمار للصناعة والتجارة،ونازحون داخليون يصلون إلى ستة مليون ومهاجرون للخارج بستة مليون، أي نصف السكان خارج بيوتهم التي كانوا بها في آذار2011- فلذلك، ووفق ما هو مذكور آنفاً، لا يمكن أن نتكلم عن أن التناقض الرئيسي في الوضع السوري الراهن هو تناقض طبقي أو حداثي، بل هو تناقض وطني يتمثل بإطفاء الحريق السوري عبر تسوية للأزمة وفق القرار الدولي 2254 تقود البلد إلى نظام جديد ديمقراطي من خلال مرحلة انتقالية حددها القرار الدولي، ومن هنا نقول نحن بتمازج (الوطني) و (الديمقراطي) في المرحلة الراهنة، أما الحديث عن تناقض طبقي أوحداثي في المرحلة الراهنة، ورغم أن هناك تسعون بالمئة من السوريين تحت خط الفقر ورغم أن الأزمة السورية قد قادت إلى تشكل رأسمالية جديدة عبر تراكم رأسمالي وحشي، فهو حديث لا ينتمي إلى السياسة التي تبنى على تحديد (أين التناقض الرئيسي وتوازنات القوى وأولويات المرحلة)، وهذا “ليس تسويفاً للمطالب الطبقية”، بل هذا ما تقوله الماركسية.
يظن بعض الماركسيين وعن جهل بأن الماركسي عندما يمارس السياسة فلا يجوز له أن يقوم سوى بطرح القضايا الطبقية وإذا طرح قضايا أخرى مثل الوطنية أو الديمقراطية أو الحداثية فيجب أن ترافقها دائماً المسألة الطبقية. أمام هؤلاء نقول بأن هناك تناقض رئيسي تحدد فيه المراحل وعلى أساسه يبنى البرنامج السياسي. مثلاً، الحزبان الشيوعيان في فرنسا، مع الاحتلال الألماني لفرنسا بين عامي 1940 و 1944، وفي فييتنام، مع الاحتلال الأميركي للجنوب الفيتنامي بين عامي 1964 و1975، لم يطرحا برنامجاً طبقياً، بل اعتبرا أن التناقض الرئيسي هو تحرير البلد من الأجنبي وتوحيدها.