رامز باكير
إن أكثر الصور التي ساهمت ببناء فهم وتصورات الغرب وحتى قد تكون ساهمت في بناء خطابه السياسي الموجه ضد روسيا المعاصرة هي صورة شخصية الرئيس بوتين، المليئة بالكليشيهات و الهوس بخلفيته المخابراتية بالكي جي بي، وتصويره على أنه الرقم الأصعب والعنصر المحرك الأساسي في السياسة الروسية. ولكن يبقى السؤال: من هو فلاديمير بوتين القابع خلف ذاك البوتين؟ وما هي البوتينية إذا كانت أصلاً ترقى لأن تكون نهجاً؟
كان النظام الروسي منذ بداية عهد الرئيس بوتين حذرًا ودقيقاً في تعامله مع بعض السيناريوهات التي أدت إلى بناء الاحتياطيات المالية الضخمة لروسيا خلال الطفرة النفطية الكبيرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن في الوقت ذاته كان يخاطر في حالات أخرى، مثل اجتياح الشيشان، و التدخل المباشر في سوريا و ضم شبه جزيرة القرم ، وصولاً إلى غزو أوكرانيا الأخير. ذلك الحدث الذي صعق العالم رغم توقع حدوثه والتحذير منه من قبل الكثيرين.
ورغم سياسات بوتين المناهضة للغرب، ظهرت روسيا بنفس القدر كمساعدة لواشنطن في احتلال أفغانستان عام 2001.
يرى البعض في بوتين الحاكم المطلق، مثل كارين دويشا في فيلم Kleptocracy (2014)، أن هدفه هو تكديس ثروة ومكاسب شخصية لا أكثر. أما بالنسبة لآخرين مثل تيموثي سنايدر في The Road to Unfreedom (2018) ، فيرى فيه قومي متطرف من مدرسة إيفان إيليين و ألكسندر دوغين (البلشفي القومي كما يدعي).
وبحسب فيونا هيل و كليفورد غابيز، والذين كتبوا واحد من أهم كتب السيرة الذاتية عن بوتين (“بوتين “، 2011)، فقد حددوا ست شخصيات للرئيس فلاديمير بوتين، فهو; رجل دولة، رجل تاريخ، مهووس بغريزة البقاء، خارج عن المألوف، نصير لسياسات السوق الحرة، و شخص على قدر كبير من المسؤولية.
ولكن تبقى هذه الصور وتلك رغم تضمنها بعضاً من الحقيقة، صور مبتذلة و مبالغة وفيها من الدقة بدرجة ما نجده بسير المستشرقين الغربيين، مليئة بالتحيزات والرؤى المتأثرة بالسرديات الغربية المهيمنة، رؤية سلبية لروسيا والشرق إلى حد كبير، بل وحتى قد تخدم سرديات روسية داخلية لتكريس أو تسويغ واقع ما.”1″
لطالما ساهم الإعلام الأمريكي بنشر نوع من الجهل، وصورة مسيسة وترويجية بما يتعلق بالشأن الروسي، فوفقاً لاستطلاع تم عام ٢٠١٤ شارك فيه ٢٠٠٠ شخص، فإن ١ من أصل ٦ امريكيين يستطيعون تحديد أين تقع أوكرانيا بالنسبة لروسيا على الخريطة، دون الإشارة إلى الفراغ المعرفي لدى غالبية الأمريكين عن تلك الأقاليم وحيثياتها وتاريخها، مما يساعد على ملء هذا الفراغ ودفع الرأي العام باتجاه تأييد أي تدخل قد يحدث مستقبلاً.”1″
يمكن المجادلة وتفكيك هذه الصور عن بوتين والبحث في آلية تكوينها، وذلك بالعودة إلى فترة التسعينات، فترة بداية صعود بوتين وصولاً إلى يومنا هذا. فعلى رغم الدور التي لعبته خلفية بوتين في إستخبارات الكي جي بي وسيرته الناجحة في خدمته في السلك، إلا أن تأثيره في دوائر صنع القرار بدأ بعد استقالته من الكي جي بي عام ١٩٩٠، وتزكيته من قبل سوبتشيك و يلتسن وتعيينه رئيساً لبلدية سانت بطرسبرغ، حيث كان وسيطاً في كبرى صفقات التجارة الخارجية، لينتقل فيما بعد إلى موسكو بعد ست سنوات ليشغل منصباً تنفيذياً في الكرملين.
استطاع بوتين خلال هذا العقد من خلق شبكات من العلاقات الشخصية المعقدة بين شخصيات، وصفتها عالمة السياسة ألينا ليدينيفا “بالسيستيما”. شبكة من أقرب رفاقه كيوري كوفالتشوك، وفلاديمير ياكونين، ونيكولاي شامالوف، وهي روابط قد جمعته مع غالبيتهم من خلال تعاونية أوزيرو “Ozero cooperative” في التسعينيات في سان بطرسبرج، وهم غالبيتهم العظمى من أثرى الأثرياء في روسيا. و بحسب الينا ليدينيفا، فإن بوتين لا يحكم وحده، بل من خلال أدواته و بالتعاون مع هذه المنظومة.
وبحسب توميثي فراي، البروفيسور والباحث في جامعة كولومبيا الأمريكية، والذي سعى للإجابة على السؤال الأهم: ماذا لو لم يكن بوتين فريداً ومميزاً بالشكل الذي قد يتصوره البعض؟ في كتابه <الرجل القوي الضعيف> والذي يكشف أن بوتين قد يكون لديه الكثير من القواسم المشتركة مع أقرانه المستبدين أكثر مما يصور لنا. فالعديد من أفعاله ليست نتيجة رؤيته الثاقبة للعالم وعبقريته، بل إنما هي مجرد نتيجة للمقايضات المعقدة التي يجب على السياسيين ذوي النفوذ في كل مكان القيام بها، خاصةً في الأنظمة الاستبدادية، والتي تنطوي غالباً على دفع أموال للنخب مع الحرص على عدم تعكير صفو الاقتصاد والمخاطرة بالاستياء الشعبي. طبعاً مع افساد العملية الانتخابية لضمان السلطة الدائمة، والسماح بالقليل من المعارضة بحيث أن لا يشكلوا أي تحدي حقيقي للسلطة. و بحسب فراي، فإن بوتين يتمتع بالقوة، ولكن حكمه ليس مطلقاً كما هو الحال في كثير من البلدان الاستبدادية ، وذلك من منطلق أن الحكم بقشرة رقيقة من الشرعية أسهل من عدم وجود أي شرعية على الإطلاق.”2″
إذن، فالبوتينولوجيا قد تتطلب مؤهلات كبيرة، ولكن ليست بالفائقة. ويبقى لروسيا دورها التقليدي كقوة عظمى قارية، مدعومًا بحكم شبه مطلق و مركزي ذو نزعة أرثودكسية, ولكن بآلية إدارية بعيدة كل البعد عن التقليدية. وكما هو الحال تاريخياً في روسيا, لا يخلو الأمر من دورات التوسع والقمع كتلك التي كانت ايام فترة الحكم السوفييتي والقيصري.
يدّعي فراي بأن موروثات الماضي تشكل الحاضر، وأن وجود أسس عميقة في التاريخ الروسي هو أمر ضروري ولا مفر منه لفهم روسيا اليوم.
لا يمكن إخفاء الاساليب الدعائية التي ساهمت ببناء الاسطورة حول بوتين, والتي لم تقتصر فقط على الجانب الامريكي والاوربي. فالكاردينال الرمادي كما وصفته الفورين بوليسي، فلاديسلاف ساركوف، الذي شغل مناصب هامة في الكريملين “3” وتم عزله مؤخراً، حول السياسة الروسية إلى مسرحية محيرة بطلها الرئيس بوتين، وذلك طبقاً لاختصاصه الأساسي، الفنون المسرحية، ذاك الإختصاص الذي جعله يبرع بمغازلة المباديء الديمقراطية وإخفاء الاستبداد في آنٍ معاً. حيث قدمه آدام كيرتس في وثائقي البي بي سي (hyper normalisation)، ٢٠٠٦، على أنه أحد رواد صانعي سياسة ما بعد الحقيقة، ومهندس الإعلام الروسي الجديد, الذي جعل الحقيقة أقل صلةً بالحدث، وذلك من خلال تحييد الصحافة وجعل الإعلام أكثر أداتيةً.
فالكرملين أصبح للبعض مسرح دراما بامتياز، يكتب فيها ساركوف وغيره النصوص ويلقنون الممثلين، ويحللون أدوارهم ورواياتهم ويدير العرض الترويجي ببطولة الرئيس فلاديمير بوتين، واضعين الذخيرة قيد التنفيذ، لتحقيق ردود الفعل المرادة من الجمهور المستهدف.
- JOY NEUMAYER, Russia by numbers, New left review, Issue 133/134, 2022.
2.Timothy Frye, Weak Strongman: The Limits of Power in Putin’s Russia
Princeton University Press: Princeton 2021
288 pp, 978 0 6912 1246 3
- Caroline de Gruyter, Foreign policy The wizard of the kremlin, July 30th 2022