مسارات دولية واقليمية متوقعة ستؤثر على الوضع السوري

هناك نتائج أفرزتها الحرب في أوكرانيا  منها التقارب الصيني- الروسي الذي هناك مؤشرات على أنه يقترب من مستوى التحالف، ولو أنه لم يصل إلى مستوى المعسكر الواحد الذي كان بين موسكو وبكين بفترة 1949-1960 ما بين وصول الشيوعيين الصينيين للسلطة وبداية الخلاف السوفياتي الصيني، وقد خاض ذلك المعسكر الموحد الحرب الكورية 1950-1953 في مواجهة الولايات المتحدة التي أرسلت قواتها لوقف زحف الكوريين الشماليين نحو الجنوب. 

في إدارة بايدن الحالية هناك اتجاه أميركي لمعاداة بكين وموسكو معاً، وعدم اتباع للسياسة الأميركية التقليدية التي اتبعها كيسنجر منذ عام 1971 في التفريق بينهما، وتشعر الصين بأن هزيمة روسيا في الحرب الأوكرانية ستقود إلى إنشاء جدار شمالي معادي للصين على الحدود الروسية- الصينية وفي منطقة أوراسيا بعد أن استطاعت الولايات المتحدة إنشاء دول جوار معادية للصين بالشرق والجنوب والغرب ولم يبقى منها الآن على ود مع بكين سوى ميانمار وكوريا الشمالية وكان آخر ما فقدته الصين من جار حليف هو باكستان مع سقوط حكومة عمران خان في نيسان 2022، وهناك حسابات صينية بل وتصريحات ومقالات في وسائل إعلام رسمية بأن الهدف الرئيسي الأميركي من هزيمة روسيا هو الصين، باعتبار أن هناك اتفاقاً في واشنطن بين الجمهوريين والديمقراطيين منذ التسعينيات بأن التحدي الرئيسي للقوة الأميركية في عالم القطب الواحد للعالم بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي وتفككه عام 1991 ليس روسيا بل الصين.

هذا التقارب الصيني-الروسي يدفع واشنطن للتشدد في الحرب الأوكرانية من خلال إطالتها والدفع نحو تزويد الأوكرانيين بأسلحة نوعية للدفع بالروس إما نحو انتكاسات عسكرية كبيرة، كما حصل في منطقة خاركيف منذ أيلول الماضي وهناك معطيات على أن الوضع في منطقة خيرسون سيقود إلى وضع صعب للروس يمكن أن يغير اللوحة العسكرية بمجملها، أو من من أجل وضع بوتين في مسارات لن تكون خارج إغراقه في مستنقع أوكراني سيقود إن طال إلى هزيمة روسية مثلما حصل لموسكو في المستنقع الأفغاني بين عامي 1979 1989 وهو ما كان عاملاً رئيسياً في هزيمة الكرملين في الحرب الباردة أمام البيت الأبيض ومن ثم تفكك الاتحاد السوفياتي.

في الوقت نفسه هذا التقارب الصيني- الروسي يشكل أكبر تحدي واجهه القطب الواحد الأميركي للعالم، وهو يهزهز وضعيته العالمية القائمة منذ ثلاثة عقود، ولكنه لم يسقطها بعد، ولم يقد حتى الآن إلى عالم متعدد القطبية، بل يمكن القول بأن ما يجري هو محاولة انقلابية ضد نظام القطبية الأحادية الأميركي بدأها بوتين في يوم 24 شباط 2022 مع غزو أوكرانيا وقد رأت الصين في هذه المحاولة الروسية مجالاً وفرصة للإطاحة بالقطبية الأحادية الأميركية وهذا ما يدفعها للتقارب أكثر مع روسيا، وفي الوقت نفسه وفي الضفة الأخرى هذا مايدفع واشنطن للتصويب على بكين وموسكو معاً. وعلى كل حال فإن الحرب في أوكرانيا هي التي ستقول من خلال نتائجها إن كان القطب الواحد سيبقى ويتعزز مع هزيمة الروس أو إجبارهم على تسوية ليست لصالحهم، أم أن القطب الواحد الأميركي للعالم سيحل محله عالم متعدد الأقطاب مع خروج موسكو رابحة من تلك الحرب بالمعنيين العسكري والسياسي (والصين معها).

لا يمكن حتى الآن القول أن هذه المحاولة الانقلابية قد نجحت أو فشلت، بل هذا أوذاك يحتاج لزمن يطول أو يقصر التبيان. ولكن هذا أتاح سيولة في العلاقات الدولية سمحت لدول بأخذ حرية حركة أكثر ضد واشنطن ومنها ايران التي لاحظنا تصلبها المتزايد بفترة ما بعد الحرب الأوكرانية في مفاوضات الملف النووي الايراني مع واشنطن بل وهناك مؤشرات على أن طهران لا تريد الاتفاق من جديد مع الأميركان كما جرى عام 2015 بل تغريها الوضعية الكورية الشمالية، أي امتلاك القنبلة النووية من دون موافقة دولية والتهديد بها، أو وضعية الوصول لما أسماه كمال خرازي، مستشار خامنئي بتموز الماضي في مقابلة مع قناة الجزيرة، بـ “العتبة النووية” وهي وضعية عاشتها باكستان منذ الثمانينيات وعندما أجرت الهند في أيار 1998 تجربة نووية ردت عليها باكستان بتجربة نووية بعد أسبوع في إعلان عن تحولها لدولة نووية.

هذه الوضعية الايرانية توازيها وضعية تركية تستغل من خلالها أنقرة الاهتزاز الأميركي أمام التحدي التقاربي الصيني-الروسي لكي تقترب أكثر من موسكو، وخاصة بعد خيبة تركية نتجت عن فشل مراهنات أردوغان على أن موافقته في الصيف الماضي على انضمام فنلندا والسويد لحلف الأطلسي وعدم ممارسته الفيتو على ذلك ستتيح له غض نظر أميركي عن مكاسب في سوريا من خلال التمدد العسكري التركي في منطقتي تل رفعت ومنبج، وهو ما دفعه بالنتيجة لتقاربات مع الروس في سوريا ولتخفيف تصلبه في الموقف من السلطة في دمشق، ودفعت الروس لزيادة تعاونهم وتقارباتهم مع الأتراك في مجالات أبعد من سوريا، إلى درجة قول بوتين مؤخراً بأن “تركيا ستصبح خط الغاز الروسي الوحيد إلى أوروبا”.

هناك قوى دولية واقليمية  فاعلة في الأزمة السورية، هي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران. الآن وعبر مشهد عالم ما بعد 24 شباط 2022 ثلاثة من هذه القوى هي في حالة تصادم مع القوة الرابعة وهي الولايات المتحدة، والقوى الثلاث المذكورة تتقارب بشكل متزايد من بعضها البعض، وليس صدفة الطائرات الايرانية المسيًرة التي بدأت روسيا باستعمالها في الحرب الأوكرانية مؤخراً، وهذا التقارب مجالاته أبعد من سوريا، ولكن الساحة السورية ستكون ساحة رئيسية من ساحات ترجمة مفاعيله، وأيضاً ستكون الساحة الرئيسية،مثل أوكرانيا، للمجابهة الروسية مع أميركا، وستكون وضعية روسيا قوية في سوريا ما دامت هناك مصالح مشتركة لأنقرة وطهران تجمعهما مع موسكو  وتدفعهم ثلاثتهم نحو تحويل الجغرافية السورية إلى ساحة تصفية حسابات مع الأميركان، وهو ما سيلهب الوضع السوري على الأرجح في المستقبل القريب أو المتوسط، وسيجعل حل الأزمة السورية ليس قريباً، ما دامت القوى الخارجية هي المتحكمة بمسار الأزمة السورية، وليس السوريون الذين فقدوا مقود الأزمة السورية منذ عام 2011 نتيجة عدم قدرتهم على التسوية للأزمة ولعدم قدرة أحد طرفي النزاع السوري على حسمه لصالحه.


افتتاحية العدد ٧٠ من جريدة المسار