صعود اليمين في أوروبا: ثقافة أم مخاوف حقيقية؟

نادر عازر

شهدت أحزاب اليمين القومي والمتطرف، في العديد من الدول الأوروبية، صعوداً كبيراً في شعبيتها كالسويد وإيطاليا وهنغاريا (المجر) وفرنسا، متزامناً مع تراجع واضح للأحزاب التقليدية المتمثلة بثنائية الحزبين المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين، وسط صدمة في أوساط اليسار وازدياد تساؤلاتهم وحيرتهم، وخاصة بعد أن سبقت بريطانيا هذه الدول في ميلها للخروج من الاتحاد الأوروبي وتسببها في هزيمة ساحقة لحزب العمال مقابل المحافظين عام ٢٠١٩.

في المملكة الاسكندنافية، حقق حزب ديمقراطيو السويد (وهو حزب اليمين المتطرف) صعوداً كبيراً، حاصلاً على نتيجة ٢٠,٥٪ من الأصوات في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ١١ أيلول/سبتمبر عام ٢٠٢٢، ليصبح ثاني أكبر حزب في البلاد، بعد أن كان ثالثاً في الانتخابات الماضية، وسادساً عام ٢٠١٠.

وتعود جذور حزب ديمقراطيو السويد لحركات يمينية متطرفة ونازية، وكشفت الصحافة عن سلسلة فضائح عنصرية كثيرة على مر السنين وحتى الانتخابات الحالية، مما أحرج الحزب واضطره لإقصاء الكثير من أعضائه وسياسييه جراء ذلك، وعمل على تنقيح سياسته لجعلها أقل تطرفاً، وأكثر تناسباً مع المجتمع، محاولاً إبعاد تهم العنصرية عنه وتثبيت أيديولوجيا القومية المحافظة عليه.

وأعطت صعوبات اندماج العديد من القادمين الجدد في المجتمع، وارتفاع معدلات الجريمة في السويد دفعاً كبيراً لليمين القومي، وخاصة مع تزايد عمليات إطلاق النار والانتقام والاغتيالات المتبادلة بين أفراد العصابات وقادتها وتصفيتها لبعضها البعض، رغم أن معظم حالات الجريمة المنظمة تعود لعصابات كبيرة ومتعددة الجنسيات ومتواجدة منذ زمن طويل في أوروبا، ولا رابط مباشر بينها وبين اللاجئين الجدد.

ومن جهته، يعمل حزب المحافظين السويدي، الذي حلّ في المرتبة الثالثة بنسبة ١٩٪، على تشكيل الحكومة إلى جانب الحزب المسيحي الديمقراطي، على أن يتلقى الدعم من ديمقراطيي السويد والحزب الليبرالي، لتتشكل كتلة يمينية محافظة مع دعم ليبرالي. وذلك مقابل أن يحصل حزب ديمقراطيو السويد على مناصب عديدة في اللجان البرلمانية وتنفيذ العديد من سياساتهم كوقف تام لاستقبال اللاجئين والمهاجرين وتشديد العقوبات على المجرمين وترحيلهم.

وفي الضفة المقابلة، تلقى تحالف تحالف يسار الوسط السويدي هزيمة موجعة، وذلك بعد أن حكم المملكة لولايتين متتاليتين، بقيادة حزبي الاشتراكي الديمقراطي والبيئة بدعم من حزبي الوسط واليسار. وجاءت الهزيمة رغم تزايد أصوات الحزب الاشتراكي الديمقراطي والذي يعد الأكثر حكماً للسويد، بحصوله على أكثر من ٣٠٪، لكن تراجع حلفائه في أحزاب البيئة واليسار والوسط التي حصلت مجتمعة على ١٨,٥٪ فقط، جعل من المستحيل على هذا التحالف الحصول على الأكثرية وتشكيل الحكومة.

وفي إيطاليا، برز حزب إخوة إيطاليا ذو الجذور الفاشية، بقيادة جورجيا ميلوني، وهي المرأة الأولى التي سترأس وزراء إيطاليا، لكن في حكومة هي الأكثر يمينية منذ الحرب العالمية الثانية.

وحصل حزبها على أكثر من ٢٦٪ من الأصوات، في انتخابات أيلول ٢٠٢٢، كما حصل ائتلافها على ما يقارب ٤٤٪، ويتكون من حزب فورزا إيطاليا بقيادة رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني، وحزب الرابطة بقيادة ماتيو سالفيني.

ورفعت جورجيا ميلوني الشعار القديم “الرب، الوطن، العائلة”، وهي منتقدة شديدة لما تسميه لوبيات مجتمع الميم وتزايد نفوذ المثليين وتأثيرهم على قيم العائلة والإنجاب. كما دعت إلى فرض حصار بحري على سواحل ليبيا لوقف قوارب المهاجرين، وقالت إنها ستعمل على محاربة “أسلمة” أوروبا. 

لكن ميلوني أكدت أنها مؤيدة لحلف شمال الأطلسي وليس لبوتين، على عكس ما هو سائد بين الكثير من اليمينيين والقوميين في أوروبا وأمريكا.

كما أمام ميلوني تحديات كبيرة منها الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة نتيجة الحرب الأوكرانية، وأزمة الديون التي تصل إلى ١٥٠٪ من إجمالي ناتج إيطاليا المحلي، لتكون الأعلى في منطقة اليورو بعد اليونان، إضافة إلى مشكلة التضخم، وموجة جديدة متوقعة لكورونا في الشتاء.

وفي هنغاريا، حصد حزب فيكتور أورلان القومي الشعبوي فيدس (الاتحاد المدني المجري) أكثر من نصف الأصوات في انتخابات نيسان ٢٠٢٢ البرلمانية.

إن بدايات موجة صعود الأحزاب اليمينية والقومية المتطرفة تعود إلى موجة الهجرة الكبيرة إلى أوروبا بعد عام ٢٠١٤ التي تسببت بأزمة لاجئين، وخلقت انقساماً بين مؤيد ومعارض، ومرحّب ورافض، حيث واجه عديدون مشاكل في الاندماج بالمجتمع الجديد، رغم أن كثيرون حققوا نجاحات كبيرة على أصعد مختلفة وقدموا الكثير للمجتمع.

واستغلت الأحزاب اليمينية الأوروبية الصعوبات التي تعرّض لها المهاجرون وعملوا على لصق كل مشاكل المجتمع بهم، محاولين تضخيم معدلات البطالة لدى المهاجرين واعتمادهم الكبير على المعونات الاجتماعية وكثرة الإنجاب مقارنة بغيرهم، وما يرونه من عمليات “أسلمة” لبلدانهم، حتى بات كثيرون من سكان القارة العجوز يرون على أن ما يحصل تهديد وجودي ويستهدف إلى تدمير مجتمعاتهم وقيمهم وعاداتهم.

وما سهّل من تغلغل أفكار الأحزاب اليمينية الأوروبية ومكّنها من تأجيج مشاعر الخوف لدى المواطنين، كان تراجع مستوى المعيشة بشكل عام خلال العقود الأخيرة، وتداعي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخاصة أثناء جائحة كورونا وما رافقها من ركود اقتصادي، وثم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي ولّدت أزمة طاقة حادة في أوروبا وأنذرت بأزمة غذاء في العالم وزادت معدلات التضخم.

أدى تجمع كل تلك العوامل بكثير من الأوروبيين إلى تعليقهم آمالاً على الأحزاب اليمينية، بحلتها الجديدة، ورغبتهم بتجربتها بالحكم لربما تجعل بلدانهم “عظيمة مجدداً” وفق المبدأ الذي رفعه الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب.

وعند النظر إلى التغيرات الأيديولوجية، يلاحظ حالة تراجع في شعبية الليبرالية كنموذج اقتصادي واجتماعي مفتوح، وكأيديولوجيا ومجموعة قيم وما يرافقها من أفكار سادت لفترة طويلة في القارة الأوروبية، وخاصة منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث ازدادت قوة مفاهيم الانفتاح الاجتماعي وتعدد الثقافات في القارة.

أما العديد من اليساريين والاشتراكيين في أوروبا فهم ما يزالون يتخبطون منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وكأنهم يعيشون في عالم آخر، ويقرأون السياسة وفق رغباتهم وليس وفق الواقع الذي يعيشه المواطن، أو المخاوف التي يراها أمامه والهموم الحقيقية والآنية، كما يرون جميع أنواع الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبدون استثناء على أنها طبقية دائماً وأبداً. مثل الخطأ الكبير الذي ارتكبه جيريمي كوربين في بريطانيا عندما ركز على السياسات الطبقية، وتجاهل كل استطلاعات الرأي، فيما معظم البريطانيين كان همهم الأساسي ومطلبهم الأول هو الخروج من الاتحاد الأوروبي.

واستند العديد من اليساريين في تحليلاتهم إلى التفسيرات الثقافية والإعلامية، وكأن وعي الإنسان لم يعد يتحدد وفق وجوده الاجتماعي.

ومن جانب آخر، بما أن دونالد ترامب حكم لولاية واحدة فقط قبل أن يغير أغلبية الأمريكيين رأيهم. وبما أن حزب الرابطة الإيطالي الذي حكم في فترة قريبة سابقة، تراجعت شعبيته مع سوء إدارته للبلاد وعدم تمكنه من التعامل بنجاح أزمة كورونا التي أوجعت البلاد، فإنه تبقى أسئلة مهمة حول النتائج السياسية والاقتصادية التي ستترتب عليها فترة حكم هذه الأحزاب اليمينية القومية. والفترة التي ستستطيع التواجد فيها بمراكز القرار في الدول الأوروبية.


من العدد ٦٩ من جريدة المسار