مازن كم ألماز
يكفي استعراض أي من كتب تاريخ الفرق، أو الملل والنحل، و تاريخ الفكر في الإسلام الوسيط، لكي نشك فعلا في أننا، عرب ومسلمو هذه الأيام، لا نمت بأية صلة قرابة لأولئك الذين عاشوا هنا قبل قرون. إن جرأة أولئك الذين عاشوا هنا قبلنا، من نحب أن نسميهم أجدادنا، الذين تحدثنا كتب التاريخ والفرق هذه كيف فكروا وما قالوه قبل هذه القرون، ستفاجئك بلا شك.
كل ما لا يمكن اليوم مناقشته أو حتى الاقتراب منه، كل ما أصبح اليوم، في القرن الواحد والعشرين، عصيا على النقاش أو النقد، كل ما أصبح اليوم تابو يحرص الجميع على تحاشيه والابتعاد عنه والتقيد باشتراطاته، كل ما نعجز اليوم وفي هذا العصر عن مناقشته والتفكير فيه، ناقشه هؤلاء بكل حرية، انتقدوه بل وسخروا منه، لم يترددوا في تحوير النص المقدس الذي تحكمنا اليوم نقاطه وحروفه، لم يترددوا مرارا وتكرارا في تعديله وتحويره، عبر تفسيره وإعادة تفسيره بطرق مختلفة كانت تفجره وتقلبه رأسا على عقب وتعيد تشكيله بشكل جديد تماما في كثير من الأحيان.
كل الفرق التي يكفر معظمها اليوم، حتى تلك السائدة و الباقية التي انغلقت على آخر ما جاد بها أئمتها وتوقفت عند هذا الحد ولم تتجاوزه قيد أنملة مع بداية عصور الانحطاط الفكري، كل التيارات الفكرية المتنازعة والمتناقضة التي نعتز بها بمن فيهم من يكفر أي تفكير أو نقد خارج السائد كما يعرفونه، كلها نشأت وتطورت في ذلك الوقت ولم تنتهي إلى مجرد أفكار نهائية لا يمكن تبديلها أو تجاوزها إلا مع انحسار ذلك المد الفكري.
لا توجد شخصية في التاريخ الإسلامي، ممن نسميهم اليوم بالسلف، لم تتعرض للنقد وحتى السخرية والتشهير، سواء بسبب الأفعال أو الأقوال المنسوبة لها، لم يكن أحد فوق النقد، جميعهم، بمن فيهم كل من وردت أسماؤهم في التاريخ المبكر للإسلام والصراعات الداخلية الأولى التي شهدها… يكفي أن تقرأ المعري وأبو بكر الرازي، المعتزلة، أبو حنيفة النعمان، ابن سينا، إخوان الصفا وصولا إلى شيوخ الصوفية وشعراء كالمتنبي وابن برد وابن الرومي، ليدفعك ذلك للتساؤل، كيف ومتى ماتت تلك الروح، ذلك العقل الذي لا يخشى من ارتياد ما لم يطرق بعد، لا يخشى من التفكير في كل شيء دون خوف أو وجل، الذي لا يفزعه شيء ولا يردعه أي تهديد عن التفكير حتى لو انتهى به ذلك إلى تجاوز السائد ونقد وتهديد المسلمات التقليدية.
كيف ومتى ولماذا أصبح هذا العقل وجلا خائفا مترددا، غير راغب و غير قادر، عاجز و مفلس، أمام الواقع و أمام تحدياته، مرتدا على عقيبه دون أن يجرؤ على التحديق بالواقع بل أن لا يرى سوى الخطوط الحمراء التي رسمها لنفسه وقيد نفسه داخلها.
ليس صحيحا أن السبب يعود فقط للاستبداد السياسي، لقد كانت السلطة العربية الإسلامية ومنذ وقت مبكر، منذ ظهور ما سماه العرب قديما بالملك العضوض، في حالة طغيان، لكن الفكر مع ذلك استمر بتحدي السلطة والسائد معا و ساهم بكل فعالية في إنتاج فكر يعبر ويساير عن التناقضات في المجتمع، داخله وخارجه، ويفتح مجالات ومخارج جديدة وأجوبة جديدة دائما أمام الأسئلة والمآزق والمصاعب التي كانت تواجه هذه المجتمعات.
ليس للقضية علاقة بالجينات على ما يبدو، إنها حالة عقلية و اجتماعية، مسدودة الأفق، أو في أفضل الأحوال، مأزومة تعيد إنتاج “ذاتها”، بل تعيد إنتاج ما قيل لها أنه “ذاتها”، دون أن تجرؤ ولا تستطيع سوى أن تردد وتردد ما لقنته دون أن تكترث حتى للفارق الهائل بين ما تردده وبين الواقع الذي يحيط بها وبالمصائب أو بالأزمات التي تدور في حلقاتها المفرغة دون أن تتمكن من التوقف عن الدوران.