محمد صالح الفتيح
(عن صفحته على الفيسبوك)
بالمناسبة، مشكلة (أو كارثة) سورية لا يمكن تعليقها فقط على الحكومة (أو النظام لمن يحب هذه التسمية). مشكلة سورية هي مشكلة اجتماعية بمعنى أنها تخص المجتمع برمته. لا توجد ثقافة عمل حقيقية، لا توجد ثقافة إنتاج. قلة قليلة لديها استعداد للعمل بالزراعة أو الصناعة أو المهن اليدوية. وأي شخص لديه أدنى إطلاع اقتصادي سيدرك سريعاً أن بلداً متخلفاً من الناحية التكنولوجية مثل سورية، ولا يمتلك ثروات طبيعية هائلة، لا يمتلك سوى أن يركز على القطاعات الإنتاجية. ولكن في سورية، بشكل تدريجي منذ مطلع السبعينات، وبشكل فاقع منذ مطلع التسعينات، التركيز الرسمي والشعبي هو على القطاعات الخدمية أو اقتصاد الخدمات: بدايةً بالفنادق والمقاهي والمطاعم ومنشآت الترفيه المختلفة، مروراً بالأسواق التجارية (التي تبيع المستوردات بشكل رئيس)، وصولاً منذ مطلع الألفية إلى محاولة دخول عالم تقديم الخدمات المالية، وهناك أيضاً تقديم الخدمات الطبية والإعلامية. المسألة لا تقتصر على المستثمرين فحسب، يمكنكم النظر مثلاً للدورات التدريبية التي تقدمها بعض المعاهد في دمشق، خصوصاً نكتة دورات التنمية البشرية وما شابه، كلها تسوق لهذه الدورات على أنها تساعد في دخول قطاع الخدمات. بالمقابل ما حجم الدورات التدريبية على لغات البرمجة أو على الرسم الهندسي أو البرامج الخاصة بإدارة المشاريع الصناعية؟
هناك هوس سوري مزمن وواضح باستنساخ التجربة اللبنانية. ولكن قطاع الخدمات يحتاج أولاً وأخيراً لزبائن، سواء داخليين أو خارجيين. الحالة اللبنانية كانت حالة استثنائية. لبنان قدم الترفيه والتعليم وفرص التسوق للمجتمعات العربية المغلقة، ووفر الخدمات المالية للدول العربية التي لم تكن تمتلك هذه الخدمات (مثل دول الخليج) أو التي ضيقت على المؤسسات المصرفية المحلية بذريعة التأميم والاشتراكية في الستينيات (مصر وسورية والعراق مثلاً). استثنائية لبنان انتهت منذ مطلع التسعينات مع الطفرة التي حققتها دول الخليج وانتشار الجامعات والمصارف في الدول العربية. فعلى من يعول السوريون في رهانهم على قطاع الخدمات؟ لمن يبنون هذه الفنادق والمصايف والمطاعم ودور الترفيه ولمن يبنون هذه “المولات”؟ السوريون في الداخل تحت خط الفقر، والسوريون في الخارج يشكلون كتلة حديثة النشوء لا تمتلك التراكمات المالية لتمويل اقتصاد خدمات كامل يعتاش منه عشرين أو ثلاثين مليون نسمة في الداخل.
كل مركز محلي أو إقليمي أو دولي لتقديم الخدمات يحتاج لزبائن يعملون في الإنتاج الصناعي والزراعي: في أوروبا هناك عدد قليل من مزودي الخدمات: بريطانيا هي مركز الخدمات المالية والتعليمية، وسويسرا مركز خدمات مصرفية، ومونتي كارلو مثلاً هي مركز ترفيهي، وحول هذه المراكز هناك ألمانيا كمركز صناعي عملاق، وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا تمتلك مزيجاً من الاقتصادات الصناعية والزراعية. وهونغ كونغ هي مركز الخدمات المالية للصين، وماكاو هي مركز خدمات الترفيه للصين. وفي الولايات المتحدة، لاس فيغاس هي أحد أبرز مراكز الترفيه، ونيويورك مركز خدمات مالية. فعلى من، في الداخل أو الخارج، يراهن السوريون؟
هناك ثقافة استسهال مهيمنة ومترسخة في سورية. ويمكن ملاحظتها في أبسط تفاصيل الحياة، حتى خارج نطاق العمل. أتذكر هنا مثلاً بعض من كان يأتيني لطلب النصيحة حول تعلم الإنكليزية فيقول: هل يكفي الاستماع للأغاني “الأجنبية” لإتقان الإنكليزية؟ أو من يسأل عن نصائح في التمرين وبناء الأجسام، فيقول: هل تناول “البروتاين” بدون تمرين يعطي عضلات؟ وهل يكفي شرب الخل للتخلص من الدهون؟ حيث ما ننظر سنجد ألاف الأمثلة على ثقافة الاستسهال من أبسط تفاصيل الحياة الشخصية واليومية للعلاقة بالآخرين وصولاً للإنتاج والعمل. وهذه الثقافة هي ما يراهن عليه أرباب الفساد.
اعتذر عن الإطالة ولكن “يُمَل”.