هناك تواريخ فاصلة، مثل إعلان “مبدأ ترومان” في آذار 1947 الذي أطلق من خلاله الرئيس الأميركي هاري ترومان الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، أو سقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1989 والذي يرمز منه أو معه إلى نهاية الحرب الباردة بانتصار الأمريكان على السوفيات.
في 24 شباط 2022 مع الغزو الروسي لأوكرانيا طويت صفحة الوضع المستقر للقطب الأميركي الأوحد للعالم مع محاولة تمرد روسية على القطبية الأميركية الأحادية للعالم مدعومة من الصين وعلى الأرجح من إيران وربما من دول أخرى تشعر بأن الأحادية القطبية الأميركية للعالم ليس استمرارها لصالحها. وفي الحقيقة إن الحرب في أوكرانيا هي زلزال عالمي وربما يمكن المغامرة بالقول بأنها حرب عالمية رابعة، بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة تدور في نطاق جغرافي صغير هو الأرض الأوكرانية بين الجيشين الروسي والأوكراني بشكل مباشر من الناحية العسكرية، ولكنها حرب بالوكالة على الأقل يخوضها الأوكران نيابة عن الرباعي الولايات المتحدة – بريطانيا – الاتحاد الأوروبي – اليابان ضد موسكو التي يظهر الدعم الصيني بشكل متزايد تدريجياً لها وخاصة مع تفاقم التوتر الأميركي- الصيني تجاه قضية تايوان وأيضاً الدعم الإيراني حيث ترقص طهران رقص الحبال بين واشنطن وموسكو في مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي.
بعد حوالي ستة أشهر من الحرب في أوكرانيا، بدأت ملامح المواجهة الأميركية-الروسية، التي تشمل العالم الآن ولا تقتصر على أوكرانيا بالانعكاس على الأزمة السورية. وقد ظهر هذا أولاً عبر حدثين في شهر تموز الماضي من عرقلة الروس للتجديد السنوي لتفويض مجلس الأمن بأن يكون معبر باب الهوى معبراً لمساعدات الأمم المتحدة للسوريين القاطنون في مناطق ليست خاضعة للسلطة السورية ورفضهم أن يكون التجديد لسنة كاملة بل فقط لستة أشهر ومن عرقلة الروس لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف بحجة أن سويسرا لم تكن محايدة في الحرب الدائرة في أوكرانيا وطلبهم نقل تلك الاجتماعات لمكان آخر.
هناك مؤشرات عديدة، وتسريبات كثيرة من مصادر روسية وتركية الآن، إلى أن روسيا تنوي طرح مشروع نحو “جنيف سوري “لتمرير تسوية للأزمة السورية من غير مظلة الأمم المتحدة ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية ،وذلك في إطار ممارسة ضغط صراعي ضد الأمريكان في الأرض السورية تمارسه موسكو لحسابات يتم فيها استخدام سوريا في إطار الصراع المفتوح الأميركي- الروسي المعلن مع الحرب في أوكرانيا والذي تستخدم فيه مجالات جغرافية هي أبعد من الأرض الأوكرانية مثل استخدام سلاح الطاقة النفطي والغازي من قبل الكرملين للتأثير على الداخلين الأوروبي والأميركي لخلق أوضاع اقتصادية قلقة يمكن أن تؤثر على انتخابات الكونغرس القادمة لغير صالح الحزب الديمقراطي الذي تنتمي له الإدارة الأميركية الحالية في البيت الأبيض أواستخدام هذا السلاح لتأزيم الأوضاع المعيشية الأوروبية لدفع الداخل الأوروبي للضغط على الأوساط الحاكمة نحو تسوية للحرب في أوكرانيا وفق ما يريده بوتين.
هذه التسوية، التي بدأت التسريبات حولها بدأ إعدادها في قمة طهران بالشهر الماضي بين الرؤساء الروسي والإيراني والتركي ثم استكملت هذا الشهر في قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان، يتم فيها استغلال للتباعد التركي-الأميركي بعد خيبة أردوغان من واشنطن إثر رفض الأمريكان للاجتياح العسكري التركي للأراضي السورية في تل رفعت ومنبج وذلك من خلال وعد روسي بمساندة إيرانية لتحقيق ما يطلبه الأتراك من إبعاد مسلحي (قوات سوريا الديمقراطية- قسد) لمسافة تصل إلى 32 كيلومتر على طول الحدود السورية-التركية ولكن بواسطة القوات الروسية ومؤازرة قوات السلطة السورية مع تطبيق اتفاقية أضنة الموقعة بين الدولتين التركية والسورية عام 1998، على أن يكون مقابل ذلك تقدم تركي نحو مصالحة بين أنقرة والسلطة في دمشق يتم بعدها أوخلالها تنفيذ القرار 2254 للتسوية في سورية بين السلطة والمعارضة برعاية روسية – إيرانية – تركية ومن دون مظلة الأمم المتحدة ومن دون مشاركة واشنطن عبر “جنيف سوري “لتنفيذ القرار 2254، أي بعكس ما كان سابقاً عندما كان التعاون الأميركي- الروسي هو الذي أنتج بيان جنيف 1 عام 2012 والقرارين الدوليين 2118 لعام 2013 و 2254 لعام 2015 المتعلقان بتسوية سورية تقود إلى إنهاء الأزمة السورية عبر انتقال ديمقراطي متفق عليه بين السلطة والمعارضة نحو وضع ديمقراطي جديد من خلال حكومة انتقالية ائتلافية تقود مرحلة الانتقال بكل ما يتضمنه من دستور جديد يصاغ بالتوافق وانتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية وفقاً للدستور الجديد.
السؤال الآن: هل يمكن أن يمر ذلك في ظل التوتر الأميركي – الروسي وخاصة مع الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات بجانب حليفتهم (قوات سوريا الديمقراطية-قسد)؟ ثم سؤال ثاني: هل يمكن مرور تسوية للأزمة السورية من دون توافق أميركي-روسي؟
الأشهر القادمة ستجيب على كل ذلك.