ما زال كتاب لينين: “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية “، المكتوب عام 1916 والمنشور عام 1917، طازجاً وراهناً. في ذلك الكتاب يبين لينين أن “الإمبريالية هي: في بداية القرن العشرين الصورة الإجمالية للاقتصاد الرأسمالي العالمي في علاقاته العالمية “، أي في النطاق الجغرافي الخارجي للرأسمالية لبلدها المحلي حيث تكون الرأسمالية تميل داخلياً للتمركز والاحتكار، فيما خارجياً، عندما تشعر بأن السوق المحلية غير كافية أو أن نموها وتراكم رأسمالها يتطلب سيطرة على جغرافية خارجية، تتجه نحو الغزو الجغرافي، وبالتالي الحروب، كما أنها في حالات أخرى يمكن أن تتجه لوسائل أخرى غير الحروب عندما تشعر بأنه يمكن تحقيق امتداداتها الاقتصادية إلى ما وراء الحدود سلمياً.
في كتاب لينين نجد تحديداً لواقع أن هناك امبرياليات عديدة متنافسة، وأن هناك امبرياليات قوية وامبرياليات ضعيفة، وأن التنافس يولد الحروب، ويمكن لإمبريالية ضعيفة، أو تشعر أنها ناشئة و”مغبونة” أو لا يعترف لها بالمكانة التي تريدها بين الامبرياليات، أن تتجه إما إلى التحالف ضمن حلف متعدد الأطراف مع امبرياليات أخرى من أجل تحقيق طموحاتها الجغرافية، كما في حالة روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى، ويمكن في حالة أخرى أن تكون هناك إمبريالية ناشئة وسريعة النمو ووصلت لوضع الاقتصاد القوي كما ألمانيا بعد وحدة 1871، أن تكشر عن أنيابها وتطالب بحصتها في التقاسم العالمي للجغرافية ومناطق النفوذ والسيطرة وهو ما ترفضه الإمبرياليات القديمة، الأمر الذي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى بين التحالف البريطاني- الفرنسي- الروسي ضد الحلف الألماني- النمساوي في عام 1914 وهي حرب يسميها لينين بأنها “كانت من جانب الطرفين حرباً إمبريالية”.
روسيا التي نشأت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، تتصرف منذ تولي فلاديمير بوتين للسلطة في الكرملين عام 2000 وفق هدف فرض مكانتها القوية بين أقوياء العالم وهي تشعر بالجرح واستصغار الآخرين لها، في سنوات التسعينيات وخاصة من خلال توسع حلف الأطلسي- الناتو بالنصف الثاني من التسعينيات ليشمل دول حلف وارسو السابق، ومن خلال محاولة الأمريكان الامتداد بالنفوذ الاقتصادي إلى الجمهوريات السوفياتية السابقة، وقد زاد هذا الشعور بالعقد الأول من القرن الواحد والعشرين عندما جرى ضم جمهوريات سوفياتية سابقة، هي أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، لعضوية حلف الأطلسي – الناتو وتم وضع خطط معلنة في قمة الناتو بالعاصمة الرومانية بوخارست عام 2008 من أجل ضم أوكرانيا للحلف.
وقد أراد بوتين من حربه في جورجيا عام 2008 أن يعلن عن استيقاظ روسيا بعد ضعفها الذي وصل في الجغرافية والمكانة السياسية إلى حدود غير مسبوقة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي بالقياس إلى ما كانت عليه في العهدين القيصري والسوفياتي، وهو ما ترافق مع محاولة فرض هيمنة روسية ونفوذ سياسي على جمهوريات سوفياتية سابقة، كما في أوكرانيا وبيلاروسيا وطاجكستان، بالتعاون مع نخب محلية هناك وعندما جرى إسقاط الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكيفيتش، الموالي لموسكو، عبر مظاهرات شعبية في كييف بشباط 2014، تحرك الكرملين عسكرياً وفرض سيطرته على شبه جزيرة القرم وقام بمساعدة الأقلية الروسية في اقليم دونباس بشرق أوكرانيا على التمرد على السلطة الجديدة في كييف وإعلان الانفصال عبر أمر واقع عسكري جديد تم تطويره عام 2022 نحو تشكيل جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك باقليم دونباس.
بين شباط 2014 وشباط 2022 كان واضحاً أن هناك اصطداماً سيقع بين القطارين الروسي والأميركي في أوكرانيا،وفعلاً حصل هذا الاصطدام في صباح يوم 24 شباط 2022، وهو ماشكل حرباً عالمية جديدة ميدانها هو الجغرافية الأوكرانية والأوكران يخوضون فيها حرباً بالوكالة ضد روسيا نيابة عن واشنطن زعيمة حلف الناتو.
الحرب الأوكرانية هي حرب بين امبرياليات، ما دامت الإمبريالية الروسية ،حيث تحكم في الكرملين فئة سياسية تمثل الرأسمالية الروسية الجديدة ، تسعى للهيمنة العسكرية- الأمنية- السياسية- الاقتصادية على الجمهوريات السوفياتية السابقة، أو تسعى للسيطرة على بعض تلك الجمهوريات السوفياتية السابقة، مثل أوكرانيا، لمنع حلف الأطلسي من أن تكون حدوده مع روسيا هي الحدود الأوكرانية- الروسية إضافة لجمهوريات البلطيق السوفياتية السابقة الثلاث: أستونيا-لاتفيا-ليتوانيا والأولى منها مجاورة لمدينة سانت بطرسبورغ (لينينغراد)، ومادامت الإمبريالية الأميركية التي هي زعيمة الرباعي الإمبريالي الأميركي- البريطاني-الأوروبي-الياباني، تسعى إلى إضعاف روسيا وإخضاعها، إما من أجل تفكيكها كما جرى مع الاتحاد السوفياتي الذي تفكك عام 1991 بفعل انهيار سيطرة موسكو على دول حلف وارسو في أوروبا الشرقية والوسطى بخريف عام 1989، أو من أجل الحاق روسيا وجعلها تابعاً لواشنطن في المجابهة الأميركية مع الصين التي يعتبرها الأمريكان هي الخطر الرئيسي على الهيمنة العالمية الإمبريالية لواشنطن.
ليست الحرب الراهنة في أوكرانيا حرباً بين الأمريكان ومن معهم وبين “محور المقاومة والممانعة”، هذا “المحور “الذي يمده بعضهم من بكين إلى موسكو وإلى طهران ومن ثم إلى كاراكاس بل حرباً بين امبرياليات.
الشيوعي الماركسي وليس الشيوعي الستاليني، يأخذ موقف لينين من هذه الحرب الأوكرانية كما أخذ لينين الموقف عام 1914 ضد الحرب، بخلاف أغلبية أحزاب الأممية الثانية التي وقفت كل منها مع السلطات الحاكمة في بلدانها، وهو ما جعل لينين يعلن “إفلاس الأممية الثانية”.