هل حقّاً ماتت الأحزاب والأيديولوجيا؟

نادر عازر

يُعبّر العديد من الناشطين في المجال السياسي من المستقلّين، سواء في سوريا أو الدول العربية الأخرى، التي لا حياة سياسية فيها ولا انتخابات حرة ونزيهة، عن مواقف مُتحفّظة ومُتململة من الأحزاب باعتبارها أصبحَت موضة قديمة، ويترفّعون عن الأيديولوجيات وكأنها اختفَت فجأة من الدنيا وباتت من غياهب التاريخ، ويرون أنّ مجرد الحديث عنها أمر مخزي وبعيداً عن الحداثة.

كما يُبدي العديد من المستقلين، وممن يسمّون أنفسهم ب “الشيوعيين السابقين”، امتعاضهم عند كل خلاف بين الأحزاب ضمن أي تحالف يتواجدون فيه، ويرون أن الحزبيين أنانيّون ويمثّلون مصالح ضيقة وقصيرو نظر، فيما هم كمستقلين يعبّرون عن مصالح أكثر وطنية ويمتازون بنظرة استراتيجية واسعة، وأفكارهم حاضنة للجميع ويبذلون أنفسهم في سبيل الآخرين، رغم أن معظمهم يتخلّون عن تحالفاتهم عندما لا يحصلون على المناصب التي يريدونها!

لكن هل حقاً للأحزاب السياسية مصالح ضيقة فقط؟ وهل الخلافات والتناحرات السياسية تعبّر عن التخلّف؟ وهل فعلاً ماتت الأيديولوجيا وأصبح التمسّك بها من علامات الجهل؟ وكيف تدار الدول المتقدمة والديمقراطية؟

بحسب معجم أوكسفورد فإنّ الإيديولوجيا هي: “نظام من الأفكار والمثل العليا، خاصة تلك التي تشكّل أساس السياسات النظرية الاقتصادية أو السياسية”. وفي تعريف ثانٍ هي: “مجموعة المعتقدات المميزة لمجموعة اجتماعية أو فرد”.

أما لدى الموسوعة البريطانية “بريتانيكا” فإنّ الإيديولوجيا معرّفة بثلاثة أشكال: 

١- طريقة أو محتوى تفكير مميز لفرد أو جماعة أو ثقافة.

٢- تأكيدات ونظريات وأهداف متكاملة تشكّل برنامجاً اجتماعياً سياسياً.

٣- مجموعة منهجية من المفاهيم خاصة حول الثقافة أو حياة الإنسان.

وتعرّف الأيديولوجيا أيضاً بأنها مجموعة من المعتقدات أو الفلسفات المنسوبة إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص.

وبحسب المفهوم الماركسي للأيديولوجيا فإنها كلمة تصف مجموعة من الأفكار والمعتقدات السائدة في المجتمع، وتعمل كبنية فوقية للحضارة، وتشمل الأعراف والثقافة، وتستخدم لتبرير سلطة وامتيازات الطبقة الحاكمة.

ويذكر كارل ماركس وفريدريك إنجلز في مؤلف الأيديولوجيا الألمانية: إنّ الأيديولوجيا تمثل إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي، وكل ما يقوله ويتخيله ويتصوره الإنسان، وتشمل أشياء مثل السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزيقيا.

ويركز ماركس وإنجلز على أن الأفكار الحاكمة لعصر معين هي تلك الخاصة بالطبقة الحاكمة، وهي ليست أكثر من تعبير مثالي عن العلاقات المادية السائدة التي يتم استيعابها كأفكار.

من ناحية أخرى، تُعتبر الأيديولوجيا والتناحرات السياسية وصراع المصالح والتحالفات من البديهيات بالنسبة للدول التي لديها ديمقراطية وحياة سياسية وانتخابات، وهي متجذّرة في تلك المجتمعات لأنها تمثّل نظرة وموقف المواطنين، كأفراد وتجمّعات، من عالمهم المحيط.

كما تُعتبر الأحزاب السياسية ركناً أساسياً من أركان الديمقراطية، وتعبيراً مكثّفاً عن مصالح المواطنين في المجتمع وفق اصطفافهم السياسي والطبقي والفكري وأحياناً القومي والطائفي. ولكل حزب أيديولوجيا معينة يعتنقها أو يدمج بين عدة أيديولوجيات.

ومن المعروف أن ما يرسّخ الديمقراطية ويمنع تسلّط أكثرية ما على الآخرين هو الدستور، وحياد الدولة ومؤسساتها تجاه المواطنين، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان.

وبنظرة سريعة على أكبر الأحزاب في بعض الدول الديمقراطية نجد توجهاً أيديولوجياً واضحاً (أو توجّهات) في فكرها وخطّها وبرنامجها السياسي.

في الولايات المتحدة الأمريكية، يحتضن الحزب الديمقراطي مجموعة فصائل أيديولوجية أكبرها تعتمد الليبرالية الجديدة، وتشمل أيضاً مُحافظين ووسطيين ومن يسار الوسط واشتراكيين ديمقراطيين ويساريين شعبويين.

أما الحزب الجمهوري يحتضن مجموعة فصائل أيديولوجية أخرى أكبرها تعتمد الفكر المحافِظ، وتشمل أيضاً وسطيين، ومحافظين جدد، وتحرّريين، ويمين مسيحي، ويمين شعبوي.

وفي بريطانيا يتبنى حزب العمال الأيديولوجيا الاشتراكية الديمقراطية (أو الاجتماعية) والديمقراطية الاشتراكية، ويعتبر من يسار الوسط. أما حزب المحافظين يتبنى أيديولوجيا محافظة، وليبرالية اقتصادية ويعتبر من يمين الوسط.

وفي ألمانيا يتبني الحزب الديمقراطي الاشتراكي (أو الاجتماعي) الأيديولوجيا الديمقراطية الاشتراكية. أما حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي يتبنى ما يعرف بالديمقراطية المسيحية والليبرالية المحافظة، فيما يتبنى حزب اليسار “دي لينكه” الديمقراطية الاشتراكية واليسارية الشعبوية.

وفي فرنسا يتبنى حزب الجمهورية إلى الأمام الأيديولوجيا الليبرالية، أما حزب الجمهوريون يتبنى الليبرالية المحافظة والمسيحية الديمقراطية وما يسمونه بالديغولية، ويعتبر من يمين الوسط، فيما يتبنى الحزب الاشتراكي الأيديولوجيا الاشتراكية الديمقراطية.

وفي الهند يتبنى حزب بهارتيا جاناتا الأيديولوجيا القومية الهندوسية والمحافِظة والليبرالية الجديدة والشعبوية اليمينية، فيما يتبنى حزب المؤتمر الوطني الهندي الليبرالية الاجتماعية وما يعرف بالخيمة الكبيرة الجامعة.

وفي اليابان يتبنى الحزب الديمقراطي الليبرالي الأيديولوجيا المحافِظة والليبرالية الجديدة والقومية اليابانية، أما الحزب الدستوري الديمقراطي يتبنى الليبرالية والليبرالية الاجتماعية، فيما يتبنى حزب كوميتو المحافظة الاجتماعية وما يعرف بالبوذية الديمقراطية، أما حزب استعادة اليابان يتبنى الأيديولوجيا المحافظة والليبرالية الجديدة واليمين الشعبوي.

وفي دولة الاحتلال الإسرائيلي يتبنى حزب الليكود الأيديولوجيا المحافِظة، والليبرالية الوطنية والاقتصادية، والصهيونية، واليمينية الشعبوية، أما حزب يش آتيد (هناك مستقبل) يتبنى الليبرالية والعلمانية وما يسمى بالليبرالية الصهيونية وفكرة حل الدولتين. فيما يتبنى حزب شاس الصهيونية والشعبوية والمحافظة الاجتماعية والدينية. أما حزب أزرق أبيض يتبنى الصهيونية والليبرالية الاجتماعية.

والأمر مشابه في دول عديدة أخرى بدءاً بالسويد والنرويج والدنمارك وإسبانيا، ومروراً بكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وانتهاء بالبرازيل والأرجنتين.

المثير للاستغراب، من بعض المستقلين، أو “الشيوعيين السابقين”، أنهم يرون الأيديولوجيا والأحزاب وكأنها شر مطلق وبؤرة مشاكلنا، وكأن الأحزاب التسلّطية التي كانوا بها، والدول الاستبدادية التي يعيشون (أو عاشوا بها) بها، هي التجسيد الوحيد والأوضح لمعنى الأيديولوجيا والأحزاب.

وبالتالي تكوّنت في ذهنيّتهم ردّة فعل، ترغب بالتعاكس مع ماضيهم المتأثّر بسنوات الاستبداد سواء داخل الحزب أو خارجه على مستوى البلد، وجعلتهم يبشّرون بأن ترك الأحزاب والأيديولوجيا (مثلما فعلوا هم) سيدخلنا في عالم الحضارة والتنوير، ويبتكرون عالماً طوباوياً غير موجود، ويدعون إلى اللحاق بركب الحداثة، التي تعني لهم التقاط الأفكار من هنا وهناك، وكأنها “بوفيه مفتوح” يمكن انتقاء ما هو مناسب منها بحسب الرغبة.

ما يثير الغرابة أكثر، أن العديد من الناشطين المستقلين و “الشيوعيين السابقين” يعيشون فعلاً في دول ديمقراطية، ويفترض أن تكون مفاهيم الأيديولوجيا والأحزاب بديهية لديهم. لكن ربما فاتتهم الحياة السياسية والانتخابات التي تجري من حولهم، أو انتقلوا من فقاعة ستالينية إلى أخرى.

صحيح أن العالم تغيّر، وكذلك المجتمعات والتكنولوجيا والسياسة، وبات للأيديولوجيات فروع عديدة، لكن هذا لا يعني أنها اندثرت وماتت، ولا أن التوجه نحو التحرّر والليبرالية يلغي وجود الأيديولوجيا، لأن ما غاب عن ذهن المستقلين أن الليبرالية نفسها هي أيديولوجيا.

إن كانت مشكلة المستقلين مع الاستبداد والتعصّب والتطرف والطائفية وإقصاء الآخر، فهذا موضوع آخر تماماً، لا يبرّر خلع أفكار الناس ومعتقداتهم والتخلي عن كل شيء، ولا يضع الذنب في رقبة الأحزاب أو الأيديولوجيا، لأن الدساتير وهياكل الدول وأنظمتها هي التي تضع القواعد الناظمة للحياة فيها، من أجل تداول السلطة وعدم التسلّط على أحد واحترام حقوق الإنسان.

وختاماً يمكن التذكير بأنه لا توجد دولة ديمقراطية بلا أحزاب، ولا توجد أحزاب حقيقية بلا أيديولوجيا.

من العدد ٦٣ من جريدة المسار