عندما ترأّس كارل ماركس هيئة تحرير جريدة” نيو راينيخه تزايتونغ” في حزيران 1848 فإنه وضع في نبذة التعريف بالجريدة أنها “صحيفة الديمقراطية “، وذلك في وقت أطلقت ثورة 24 شباط 1848 الفرنسية، التي أطاحت بالملك لوي فيليب وأقامت الجمهورية، موجة ثورية اجتاحت أوروبا حتى ألمانية والنمسا والمجر، وبشكل اهتزّ فيه وانهار النظام الأوروبي الذي أقامه مؤتمر فيينا عام 1815، الذي ثبّت سلطة وتحالف الملوك الأوروبيين عقب الانتصار على وريث الثورة الفرنسية نابليون بونابرت في معركة واترلو.
كان ماركس في شهر شباط السابق في “البيان الشيوعي “قد كتب التالي: “يعمل الشيوعيون على الاتحاد والتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع الأقطار “،وهو ما يعني أن الحزب الشيوعي له الصفة الديمقراطية وأيضاً له مهام ديمقراطية، إضافة إلى أنه يشترك مع ديموقراطيين في تيارات سياسية أخرى في التحالف أو التعاون من أجل تحقيق أهداف المرحلة الديمقراطية وهذا ما دعا ماركس في “البيان الشيوعي “لأن يقول: بأنه في ألمانية المتخلفة في التطور الصناعي ليس هناك سعي من أجل ثورة اشتراكية، بل “يناضل الحزب الشيوعي بالاتفاق مع البرجوازية مادامت تناضل هذه البرجوازية نضالاً ثورياً ضد النظام الملكي المطلق وضد المُلكية الإقطاعية العقارية وضد البرجوازية الصغيرة الرجعية “، وفي فترة 1863-1864 وقف ماركس ضد فرديناند لاسال،زعيم الاشتراكيين الألمان،لمّاأراد الأخير التحالف مع المستشار البروسي بسمارك في مشاريعه لتوحيد ألمانيا تحت راية الملكية البروسية المطلقة المستندة إلى الإقطاعيين (اليونكرز)والجيش وداعيا بدلاً من ذلك إلى نضال موّحد للطبقة العاملة مع الليبراليين البرجوازيين من أجل وحدة ألمانية خالية من الحكم الملكي الاستبدادي المطلق المستند إلى الجيش واليونكرز.
خلال القرن التاسع عشر كان هناك توحّد ماهية بين الماركسية والديمقراطية، وقد استمر هذا في الأممية الثانية التي قامت عام 1889 بعد ستة أعوام من وفاة ماركس، وقد جسّدت رموز ماركسية مثل كارل كاوتسكي وروزا لوكسمبورغ وأوغست بيبل وكارل ليبكنخت هذا التوحد للماهية بين الماركسية والديمقراطية، سواء في مواضيع الحريات الديمقراطية، أو ضد النزعات الإمبريالية للسيطرة على الشعوب الأخرى، عند الفئات الحاكمة في القارة الأوروبية، أو ضد نزعة الحرب التي وجدت عند البلدان الإمبريالية المتخاصمة.
لم يحصل الانطباع بوجود الانفصال بين الماركسية والديمقراطية إلا بعد الثورة البلشفية الروسية عام 1917، وقد كان حكم جوزيف ستالين الاستبدادي تجاه مخالفيه في الحزب الشيوعي أم تجاه المجتمع السوفياتي مؤديا ليس فقط إلى طلاق عملي في الممارسة بل جرى كذلك في الفكر محاولات لتنظير الطلاق بين الشيوعية والديمقراطية برغم محاولات معاكسة ومضادة لذلك من قبل مفكرين ماركسيين ،مثل أنطونيو غرامشي وجورج لوكاتش وكارل كورش وأرثور روزنبرغ، ثم جاءت (الشيوعية الأوروبية) عبر الحزبين الشيوعيين في إيطاليا وإسبانيا بسبعينيات القرن العشرين، من أجل تبيان أن لاطلاق بين الماركسية والديمقراطية، وأن الماركسية ديمقراطية التوجه والوسائل حتى في سعيها من أجل تحقيق المجتمع الشيوعي عبر المرور بالمرحلة الاشتراكية وأن ما جرى في الاتحاد السوفياتي وبلدان أخرى لا يمثل بالضرورة الماركسية بل هناك توجه ماركسي آخر يريد تحقيق الأهداف بطرق أخرى غير التي انتهجت منذ أكتوبر 1917 الروسي.
ربما هنا، كان انهيار الماركسية السوفياتية وفشلها المعلن عبر تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، مساعداً على محاولات ماركسية جديدة من أجل تجسيد توحد الماهية بين الماركسية والديمقراطية ،التي جسدته حياة وأفكار كارل ماركس ،ومن أجل أحداث هزيمة فكرية-سياسية ببقايا شيوعيين ستالينيين ما زالوا يربطون الشيوعية الماركسية بأشخاص مثل جوزيف ستالين ،ثم باسم “المقاومة والممانعة “و”العداء لأميركا” أو “العداء للحركات الاسلامية”من خلال “نظرية أهون الشرين”، يقفون مع مستبدين وأنظمة استبدادية ،في بلادهم أو في الخارج، كما يقفون مع مستبدين يقومون بغزو بلدان أخرى وقتل شعبها وتدمير مدنها في وحشية تنتهك كل المعايير الانسانية.
يجب على الماركسيين أن يستردوا الديموقراطية، وأن يمنعوا اقتران الاستبداد باليسار، وأن يمنعوا عملية استيلاء اليمين، العالمي والمحلي، على الديمقراطية، فواشنطن في فترة الحرب الباردة كانت الراعية للديكتاتوريات في إندونيسيا وتشيلي وايران، ما دامت هذه الديكتاتوريات ضد الشيوعيين، ثم لما زال الخطر الشيوعي بالثمانينيات بدأ الأمريكان بالاستحواذ على الديموقراطية والتخلي عن ديكتاتوريات رعتها الولايات المتحدة.
حان الوقت لكسر هذه الحلقة الرابطة بين البيت الأبيض والديموقراطية وفك الارتباط بين الماركسيين والديكتاتوريات.