سمير التقي
“النهار العربي” 11 آذار 2022
سابقاً، ركزت البحوث الأميركية على سيناريوهات السلوك الروسي في حال إقدام بكين على غزو تايوان. ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليمد تايوان بحبل نجاة من حيث لا تتوقع.
في لحظة ما، أثار البيان المشترك الهام الصادر عن شي جينبينغ وفلاديمير بوتين مخاوف جدية عند البعض حول ما تعنيه الشراكة الروسية الصينية المعمقة “بلا حدود”. ولكن السؤال بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الآن صار حول التكهن بكيفية عثور بكين على سبل لدعم الغزو الروسي لأوكرانيا على المدى القريب، لكن دون أي مخاطر ولا أي ضرر لموقعها من السوق العالمية.
لا يتوقع أن تكون الصين قد فوجئت بالغزو الروسي، لكنها فوجئت، كما الغرب، بمستوى مغامرة بوتين وعناده ونقص كفاءة إدارته لمقدراته، ناهيك عن حدّة الرد الغربي.
ذلك أن التناقض بين السرديات الصينية يبدو واضحاً. حاولت الصين الحفاظ على توازن في خطابها حول ما تسميه “المخاوف الأمنية المشروعة لروسيا”، لكن الصين استمرت تؤكد بالمقابل دعمها لمبادئ لسيادة عدم التدخل. وتوج هذا “التوازن” بالامتناع الأخير عن التصويت في مجلس الأمن الدولي بدل ما فعلته (بالفيتو) عام 2014.
ما زال الغرب يترقب السلوك الصيني، وثمة تسريبات عن جدل محتدم حول الموقف الصيني النهائي، ويرسم هذا الوضع مستوى تعقيد موقف الصين من الحوادث. فالعلاقات الصينية الروسية تتقاسم تاريخاً صراعياً طويلاً تنتابه موسمياً فترات من التعاون القصيرة، سرعان ما يجتاحها العداء. ورغم الخصومة مع واشنطن التي شكلت قاعدة للتعاون بينهما في السنوات الست الماضية، إلا أن الولايات المتحدة لا تماثل بينهما.
في نهاية المطاف، الصين بالنسبة للولايات المتحدة، قوة لا يمكن نفي دورها، ليتركز الصراع حول حصة الصين من تقسيم العمل الدولي والتقنيات العالية، على أساس التوافق على عدم المساس بالنظام الاقتصادي العالمي الذي بفضله حققت الصين معجزتها التاريخية. كما أن الصين لم ترد يوماً نشر الشيوعية الصينية ولا تغيير طبيعة الأنظمة في العالم الليبرالي. وتعلم الصين ذلك تماماً.
على العكس من ذلك، تعتبر الولايات المتحدة أن بوتين يعمل بوضوح لتقويض النظام الليبرالي الديموقراطي، والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، ولقد سعى لنسفها من الداخل والخارج، والترويج لنموذج الدولة الزبائنية بديلاً له، كما حاول في أميركا والمجر وإيطاليا وبريطانيا الخ.. وهو ما يغامر لأجله في أوكرانيا الآن. وتتهمه بأنه يعمل على تفكيك النظام الاقتصادي العالمي الراهن. لذلك فالتناقض معه أيديولوجي واستراتيجي بالضرورة.
تتأمل الصين بعناية التحولات المحتملة للحرب، لتقيس خطواتها، في ظل احتدام الجدل داخل الشرائح العليا للنخبة حول مآلات الصراع. فما تظهره النتائج العسكرية الراهنة من اختبار سلبي لمقدرات التجهيزات والآلة العسكرية الروسية يحوّل رؤيتها تحولاً مختلفاً. وحين تتحدث بعض الصحف الصينية باستغراب عن كيفية إقدام بوتين على وضع رأسه في رهان يكاد يكون صفرياً، نفهم حقيقة هذا الجدل. ومن اللافت أن بعض الصحف في شمال الصين تتحدث عن فلاديفوستوك وبعض مناطق شرق سيبيريا كمناطق صينية، فمع تراجع ميزانيات المركز، تذهب المقاطعات الروسية الطرفية لتعقد الصفقات المنفردة مع الصين وكوريا واليابان.
الصينيون هم سادة في قياس المخاطر، ورغم الطابع الشخصي للعلاقات بين قيادات القمة في البلدين، ثمة العديد من العوامل التي تجعلنا نعتقد أن الصين تحجم عن ملاقاة بوتين في مغامرته. فلطالما حاول بوتين إقناع الصينيين بوهن الغرب وانحداره. لكن سلوكه المغامر، ومسار الحوادث ينذران بعكس ذلك.
فبعد عقود طويلة من الـ Oste politisch لدمج روسيا في أوروبا، تقلب أوروبا، وخاصة ألمانيا، مسارها الاستراتيجي 180 درجة، مثلها مثل فرنسا وإيطاليا وهولندا. وهذا التغيير له أهمية جيوسياسية كبرى بالنسبة للصين. فعمق الانعطاف في عشرة أيام فقط، أعاد تسليح أوروبا واستعادة الناتو تماسكه. لينتقل النقاش الحالي في أوروبا حول “حرمان الحكومات الاستبدادية” ودرء ارتهان أوروبا “الجيني لأنظمة المعلومات – الاتصالات بالـ G5” للدول المستبدة، مهما كانت التكاليف.
وبعد، كانت العلاقات للصين مع أوكرانيا تقليدياً قوية واستراتيجية. فبالإضافة للعلاقات التجارية المثمرة جداً، زودت أوكرانيا الصين بالأسلحة، وأهمها حاملة الطائرات الوحيدة التي اشترتها من أوكرانيا، وقامت بتدريب الخبراء الصينيين على منظومات الملاحة والإبحار والتتبع. كما طوّرت العديد من منظومات الرادار الصينية وتكفلت بصيانة محركات الطائرات، بفضل مساعدة عدد لا يحصى من الخبراء الأوكرانيين. لذلك لن يفاجئنا أن لا تدير الصين الظهر لأوكرانيا. إضافة لذلك، تتوجس الأوساط الاقتصادية في الصين من مخاطر تذخير روسيا للطاقة وللإمدادات الغذائية، الأمر الذي ستمتد آثاره نحو الصين مباشرة.
يتساءل هؤلاء الباحثين الصينيين: لماذا نتوقع من الصين أن تساعد الاقتصاد الروسي الذي سيهوي للقاع؟ وما هو مردود ذلك على الاقتصاد الصيني، مقابل الأسواق التي ستغلق في وجهها وهي تمر في عز أزمة اقتصاد كوفيد البعيدة من نهايتها بالنسبة للصين، ما لم تنتج اللقاح للصيغ الجديدة للمرض. لم تغامر الصين بذلك سابقاً، لا مع إيران ولا مع فنزويلا. بل هي خفضت تعاملاتها معهما.
بعيداً من العنجهية العقائدية، يرجح بعض المراقبين أن يزن الصينيون الفائدة والتكلفة المحتملة. وفي الاحتفال بالذكرى الخمسين لتطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين كان الحديث ودياً واستراتيجياً. وتم تأكيد الرغبة في التعاون مع الولايات المتحدة وآسيا. وبغض النظر عن هذا الجدل، فحقيقة الأمر أن روسيا بعد أوكرانيا لن تكون حليفاً ثانوياً للصين، بل ستكون حليفاً ثالثياً أو أدنى.
ورغم ذلك، من المتوقع جداً أن تحاول الصين الحد من آثار العقوبات على روسيا، وتعينها في تخفيف بعض ضوابط التصدير، الأمر الذي سيبقى في المدى التكتيكي ولفترات قصيرة.
ولكن على المدى الأبعد، الأنظمة الشمولية لا تجيد التحالف، وحين تفعل فلمدة قصيرة جداً لتنتهي فجأة. كان الأمر كذلك بين هتلر وستالين، وبين خروتشيف وماو تسي تونغ الخ.. خاصة أن الأهمية المركزية لروسيا بالنسبة للصين هي في احتمال كونها جسراً استراتيجياً نحو أوروبا، ولقد كسر بوتين هذا الجسر كسراً أرعن.
لذلك يبدو أن من الآمن أن نقول، إن غزو تايوان بات الآن أقل احتمالاً في المستقبل القريب، إذ لا ينقص الصين الشعور بالعظمة، بل إن تاريخ ازدهارها يكمن ببعدها عن المغامرة بمصالحها تحت أوهام الغطرسة.