حول المسألة الأوكرانية

دفع العرب ثمناً باهظاً لانهيار الاتحاد السوفياتي واختفاء نظام الثنائية القطبية وتحول الولايات المتحدة إلى القطب الواحد للعالم. الآن عبر الغزو الروسي لأوكرانيا تجري محاولة انقلابية على القطبية الواحدية الأميركية للعالم. لا يمكن القول الآن بأنها محاولة انقلابية ناجحة، فهذا يحتاج لزمن من أجل التثبت من نجاحها وربما تكون محاولة انقلاب فاشلة. في كل الأحوال لا يمكن للأمم المظلومة ومنها العرب أن تكون سعيدة ببقاء واشنطن قطباً أوحداً للعالم بل للعرب مصلحة في تعدد الأقطاب في العالم لأن هذا يساعد الأمم المظلومة أو الضعيفة أكثر على تحقيق تطلعاتها.

لن تدفعنا الأوهام والتحليلات الرغبوية إلى الشطط، بل من الضروري الواقعية، فموسكو ليست كما كانت في عهد السوفيات عندما ساعدت العرب في حروب 1956 و 1967 و 1973، وإنما هي الآن أمام واشنطن في وضعية قريبة مما قاله لينين في عام 1914 أثناء بدء الحرب العالمية الأولى عن أنها “حرب بين إمبرياليات”، وهذا بالمناسبة لم يمنع الزعيم البلشفي في أن يرى فرصاً أتاحتها هذه الحرب من أجل تحقيق أهدافه.

أهم نقطة يمكن قولها الآن أن نظام القطبية الواحدة للعالم الأميركي قد اهتز في زمن قصير لم تتجاوز ثلث القرن وهذا ما يدل على كثرة ثغراته، فيما أن سيطرة القطبية الواحدية لروما قد استغرقت ثلاثة قرون كما أن سيطرة دولة أعظم على العلاقات الدولية مثل إنكلترا قد استغرقت من عام 1588 مع انتصارها على إسبانيا في معركة الأرمادا وحتى عام 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية. على الأرجح وإذا مسكنا الاقتصاد الذي هو المقياس الذي يحدد القطبية الواحدية أو ثنائية القطب أو الدولة الأعظم أو الدول العظمى أو الكبرى وليس السلاح فإن روسيا هي دولة كبرى عالمياً وليس كماقال أوباما عنها بأنها “دولة كبرى إقليمية”، ولكن محاولتها للصدام مع القطب الأميركي للعالم تدل على أنها بشكل أو آخر تستند على مساندين أو راضين عن محاولتها تلك، كما أن اقتصادها لا يؤهلها لكي تهز الواحدية القطبية وهي في المرتبة الثانية عشر اقتصادياً بالترتيب العالمي، ولولا الدعم الصيني لما كان بوتين قد تجرأ على ما فعله في أوكرانية، ولو أن الصين تقف حذرة الآن تترقب إلى ماذا ستؤول إليه المحاولة الروسية لكي تحفظ خط الرجعة في حال فشلت موسكو ولكي تتقدم في حال النجاح الروسي وهي الرقم الثاني في الاقتصاد العالمي والصين في هذا الإطار هي دولة عظمى.

الهند الآن تتخذ موقفاً انتظارياً مماثلاً للصين وكذلك إيران، وعلى العرب أن يكونوا كذلك.

هناك قضايا أخرى تثيرها المسألة الأوكرانية.

مثل مسألة استعمال القوة المسلحة لحل النزاعات بين الدول وخاصة بين دول كبرى وجيرانها الأضعف قوة. مسألة ثانية وهي غزو دولة كان معترفاً الغازي بسيادتها وحدودها ووحدة أراضيها عبر معاهدات واتفاقيات سابقة. مسألة ثالثة هي استغلال مشاكل داخلية وآلام وتشكيات أقلية قومية، حتى ولو كانت محقة، كذريعة للغزو العسكري لأراضي دولة وإقامة دول جديدة عبر اقتطاع أراضي منها أو المساعدة على ذلك. مسألة رابعة هي القول بالحق التاريخي في أراضي دول أخرى والقيام عبر القوة العسكرية بالاستيلاء عليها. مسألة خامسة هي القول بأن دولة هي مسؤولة عن أفراد من قوميتها حتى ولو كانوا مواطنين في دولة أخرى.

كل هذه المسائل الخمسة ذات طابع خطر ومزلزل للعلاقات الدولية.

هناك ناحية أخرى تقود إليها الحرب الروسية – الأوكرانية وهي أن العلاقات الأميركية-الروسية في توتر غير مسبوق بشكل لامثيل له منذ انتهاء الحرب الباردة في عام 1989. هذا بالتأكيد سيتجسد في بلدان أخرى مأزومة مثل سورية وهذا يمكن أن يجعل الأزمة السورية ميداناً للتجابه بين واشنطن وموسكو، مما سيؤثر كثيراً على إمكانية حل هذه الأزمة التي دخلت عامها الحادي عشر ويجعلها تطول وتتعقد وخاصة إن لم تقد التطورات العسكرية في أوكرانية إلى تسوية هناك بل قادت إلى حرب باردة جديدة سيكون ميدانها العالم كله ولو حروب أو مجابهات بالوكالة.

في أوكرانيا الآن يتم رسم لوحة العلاقات الدولية المقبلة، سواء أدت الأمور إلى انتصار روسي، أو هزيمة موسكو، أو إلى تسوية، أو إلى احتمال رابع وهو صراع طويل تستخدم فيه أوكرانيا كمستنقع روسي، كما جرى في أفغانستان 1979-1989 التي كانت ميداناً تم فيه استنزاف الاتحاد السوفياتي مما عجل في انهياره وتفككه.

ستكون سوريا من أول المتأثرين بما يجري في أوكرانيا، مهما كانت النتيجة هناك.


من العدد ٦٢ من جريدة المسار