مجموعة البنك الدولي
ملخص تنفيذي
كانت احتجاجات الربيع العربي بداية لعهد جديد في الجمهورية العربية السورية عام 2011. فقد بدأت احتجاجات المواطنين على نطاق صغير تقريباً فور اندلاع المظاهرات الأولى في القاهرة في يناير/كانون الثاني 2011. ثمّ بدأت المظاهرات الضخمة الأولى بعد شهرين في مارس/آذار، وشهدت الأشهر التالية عملية تصعيد مع انتشار المظاهرات وزيادة حجمها ونطاقها داخل البلاد. وبحلول صيف عام 2011، كان الصراع المسلح يتكشف بالفعل. وفي عامه السادس الآن، لا يزال الصراع في سوريا نشطاً ويسبب الكثير من الألم والمآسي يومياً.
تقدم هذه الدراسة تقييماً لأثر الصراع على النتائج الاقتصادية والاجتماعية في سوريا حتى أوائل عام 2017. وتدمّر الصراعات الأصول الملموسة وغير الملموسة وتترك ندوباً عميقة في النسيج الاجتماعي للبلد وثقافته وذاكرته الجماعية. وسرعان ما أصبح الصراع في سوريا مثالاً قاسياً على هذا. ومن المؤسف أنه لا يمكن جمع كل هذه العواقب بطريقة شاملة. فحتى شهر مارس/ آذار 2017، كان الصراع نشطاً، ولم تكن بعض النتائج الطويلة الأجل والآثار السياسية والاجتماعية والأمنية والمؤسسية ذات الصلة قابلة للرصد حتى الآن بما يتجاوز الشواهد غير الموثقة. وبالإضافة إلى ذلك، وبسبب الصراع الدائر، لم يستطع فريق هذه الدراسة الوصول إلى سوريا، وأدى النقص الحاد في البيانات إلى إجبار الفريق على إسقاط تحاليل تشتد الحاجة إليه. وبالنظر إلى هذه القيود، يركز التحليل على تقييم آثار الصراع في أربعة مجالات، هي: (1) الأضرار المادية، و (2) الخسائر البشرية والتشتت الديموغرافي، و (3) النتائج الاقتصادية، و (4) نتائج التنمية البشرية.
تكمن قوة هذه الدراسة في نطاقها ومنهجيتها. إذ أن الجزء الجديد من البيانات المستخدمة في هذه الدراسة تم التوصل إليه عن طريق تقييمات الاستشعار عن بعد (مع التحقق من وسائل الإعلام)، والتي ركزت على عشر مدن وستة قطاعات ، ثم استقراءات تمتد إلى ثماني محافظات ، وذلك باستخدام مقارنات لشدة الصراع وقاعدة الأصول. وتم استكمال هذه التقييمات عن طريق المعلومات الواردة من الوكالات الشريكة في مجال الديموغرافيا والنتائج القطاعية والاقتصادية. وتكمن جدوى التحليل نفسه في إطاره التكاملي. إذ تم استخدام نتائج الأضرار المادية والخسائر في الأرواح لاعتماد نموذج تكامليلمطابقة النتائج الاقتصادية المحددة، بما في ذلك أنماط إجمالي الناتج المحلي والحراك الديموغرافي (فيما بين المحافظات والهجرة من سوريا). وقد أتاح هذا النهج العديد من المزايا. أولاً، تم الفصل بين الأدوار المنفصلة لكل من التدمير المادي، والخسائر البشرية، والفوضى الاقتصادية في كيفية تجسيد الصراع لآثاره. ولهذا الفصل أهميته لأنه قد يساعد في ترتيب أولويات التدابير في أي عملية مستقبلية للإنعاش وإعادة الإعمار، وذلك من خلال تسهيل المقارنة بين السيناريوهات البديلة لتكوين المعونات. ثانياً، ساعدت هذه الدراسة على المقارنة بين نتائج سيناريوهات بديلة لا يمكن ملاحظتها من البيانات الفعلية: فعلى سبيل المثال، ما هو دور الهجرة في التأثير الاقتصادي للصراع؟ إلى أي مدى يمكن أن يسود تأثير الصراع على النتائج الاقتصادية بعد توقف الصراع؟ ويناقش التقرير كل هذا بالتفصيل.
سوريا قبل الصراع
عشية اندلاع الاضطرابات عام 2011، كانت سوريا بلداً سريع النمو من بلدان الشريحة الدنيا من البلدان المتوسطة الدخل. وبصورة إجمالية، كان الاقتصاد السوري آخذ في التحسن خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وإن كان قد بدأ من قاعدة متدنية. وسجل إجمالي الناتج المحلي نمواً بمعدل 4.3% سنوياً بين عامي 2000 و2010 بالقيمة الحقيقية، وكان مدفوعاً بالكامل تقريباً بالنمو في القطاعات غير النفطية، وبلغ معدل التضخم في المتوسط نسبة معقولة عند 4.9%.
بيد أن الأداء القوي على مستوى النمو لم يؤد إلى احتواء اقتصادي وسياسي عريض القاعدة وإلى مزيد من الشفافية والحريات المدنية. كان الاقتصاد السوري يشبه اقتصاد بلدان أخرى في المنطقة في العديد من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية عام 2010. إذ قارب معدل الفقر المتعدد الأبعاد (5.5%) والتفاوت في الدخل (مؤشر جيني: 32.7) المتوسطات الإقليمية. غير أن معدل المشاركة في القوى العاملة في سوريا (43.5%) كان من أدنى المعدلات العالمية، حيث كان منخفضاً حتى وفق المعايير الإقليمية (سجلت مصر وتونس 49% و47% على التوالي). ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى انخفاض دور المرأة، وتراجعه، في الاقتصاد (مشاركة النساء في القوى العاملة أقل 5 نقاط مئوية عن المتوسط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي هو منخفض بالفعل وفق المعايير العالمية، و سجلت بطالة الإناث نسبة 25.2 % ، وهي الأعلى في المنطقة ). وبالمثل، كان أداء البلد غير مواتٍ على مؤشرات تتعلق بالحوكمة والحريات المدنية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكانت تصنيفات سوريا على مقاييس حرية تكوين الجمعيات والتجمع وحرية التعبير والمعتقد منخفضة بالمقارنة مع بلدان أخرى في المنطقة.
من السمات الهامة الأخرى لمشهد الحكم في سوريا قبل عام 2011 ارتفاع مستويات الفساد وانخفاض الثقة في المؤسسات العامة. فوفقاً للمؤشرات العالمية، تراجعت تصنيفات سوريا في مكافحة الفساد والسيطرة على الاحتكارات الاقتصادية بعد عام 2005. وعلى الرغم من أن البلاد كانت تسير بالفعل على حذو أقرانها من البلدان المتوسطة الدخل في المنطقة كمصر والأردن وتونس على كلا الجبهتين عام 2005، فقد اتسعت الفجوة إلى حد كبير بحلول عام 2010. كما أدت هذه الاتجاهات إلى تقويض ثقة المواطنين في المؤسسات العامة. وتبين الدراسات الاستقصائية التي أجرتها مؤسسة غالوب في الفترة 2009-2010 أن نسبة السوريين الذين يعبرون عن الثقة في المؤسسات العامة الرئيسية، مثل الشرطة المحلية والنظام القضائي، كانت أقل من بلدان المقارنة. فعلى سبيل المثال، في عام 2010، ذكر 48٪ فقط من السوريين أنهم يثقون في الشرطة المحلية؛ وفي المقابل، أجاب نحو 87% من الأردنيين بشكل إيجابي.
إضافة إلى هذه الأوضاع المؤاتية، أسهمت عوامل خارجية في نشوب الصراع. وأدت أحداث الربيع العربي والتحول المفاجئ في السياق الإقليمي، حيث أصبح التمرد المسلح أكثر سهولة فضلا عن الإجراءات التي اختارتها مختلف الأطراف، إلى تصعيد سريع للاحتجاجات الأولية، متحولة من اضطرابات أهلية إلى صراع مسلح طويل ومكثف. إن الصراع، الذي يغذيه منطق “الخاسر يفقد كل شيء” -وهو ما حال دون التوصل إلى حل وسط معقول- استمر وازداد حدة بمرور الوقت، مخلفا الدمار للجميع.
نقمة الصراع
ألحق الصراع أضراراً جسيمةً في البنية التحتية المادية في سوريا. وتحولت مدن مثل حمص وحلب ودمشق، والعديد من البلدات الصغيرة، إلى ساحة معارك بين قوات النظام والمتمردين، ليواجه سكانها عواقب مأساوية. مع مرور الوقت، تسبب الصراع في انهيار جزئي أو كامل للنظم والشبكات في العديد من المدن عبر تدمير المنازل والبنية التحتية ذات الصلة بالخدمات العامة مثل الطرق والمدارس والمستشفيات، كما أدى إلى انهيار اقتصادي في العديد من المناطق. وحيث أن الجسور والموارد المائية وصوامع الحبوب وغيرها من الأصول ذات الأهمية الاقتصادية أصبحت أهدافاً استراتيجية، زادت نسبة الضرر المادي. وفي المدن العشر التي تركز عليها هذه الدراسة، تأثر 27% من المساكن، إذ دُمر 7% منها، وتضررت 20% أخرى جزئيا. وتتباين النسبة المئوية فيما بين المدن، حيث وقع أكبر دمار كامل في دير الزور (10%) وأكبر ضرر جزئي في تدمر (32.8%). ومع وجود 8% من الوحدات السكنية المُدمرة و23% من المتضررة جزئيا، فإن حلب هي أيضا من بين أكثر المدن تضرراً. وفي المحافظات الثماني، دُمر حوالي 8% من المساكن وأصيب 23% بأضرار جزئية. وكانت الأضرار مرتفعة بوجه خاص في قطاع الصحة، حيث اُستهدفت المنشآت الطبية على وجه التحديد. وتشير التقديرات إلى أن حوالي نصف جميع المنشآت الطبية في المحافظات الثماني التي شملتها الدراسة تضررت جزئيا، وأن حوالي 16% منها تعرض للتدمير. والنتائج متشابهة في منشآت قطاع التعليم (53% تضرر جزئيا، و10% تعرض للتدمير).
أدى تعطيل الشبكات الاقتصادية ورأس المال البشري والقدرة على التواصل إلى تفاقم آثار الأضرار المادية على الخدمات العامة. لا تعكس الأضرار المادية سوى مجموعة فرعية من الآثار التي فرضها الصراع على الخدمات العامة في سوريا. وتشير الأدلة المتاحة إلى أن الأضرار المادية التي لحقت بالبنية التحتية للكهرباء كانت شديدة ولكنها لم تكن مدمرة: فجميع سدود الطاقة المائية في البلاد وست محطات من 18 محطة لتوليد الكهرباء لا تزال تعمل، في حين أصيبت أربع محطات كهرباء أخرى بأضرار جزئية ودُمرت محطة واحدة. غير أن نقص الوقود والقيود الناجمة عن الصراع على عمليات التشغيل والصيانة أدت إلى انخفاض حاد في إمدادات الكهرباء الحكومية. وانخفض توليد الكهرباء إلى 16208 جيجاوات ساعة عام 2015 مقابل 43164 جيجاوات ساعة عام 2010، أي بانخفاض قدره 62.5%. ويبدو أن معظم هذا الانخفاض يعزى إلى نقص الوقود، نظرا لتراجع قدرة التوليد المتاحة بنحو 30% في الفترة ذاتها. وقد تسبب انخفاض إمدادات الكهرباء في حدوث تعطيل شديد. ولا تتلقى معظم المدن الكهرباء إلا لساعات قليلة يومياً. وطبقت الحكومة سياسة التقنين عن طريق تقسيم تخفيف الأحمال بين مختلف أنحاء البلاد، وهو ما يؤثر على خدمات أخرى، مثل المياه والتعليم وخدمات الرعاية الصحية.
من بين جميع عواقب الصراع، كانت الآثار على الأرواح البشرية والتشرد الديموغرافي هي الأكثر تأثيراً. قُدر عدد سكان سوريا قبل نشوب الصراع بنحو 20.7 مليون نسمة عام 2010 (مؤشرات التنمية في العالم). ومنذ عام 2011، خلق الصراع مجموعة معقدة من الضغوط على سكان البلاد. وتحدد أحدث الحسابات التي أجرتها المنظمة الدولية للهجرة عدد السكان داخل سوريا عند 18.8 مليون نسمة حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. ومع القيود التي تشهدها البيانات فإن التوصل إلى تحليل دقيق وشامل للتغيرات الديموغرافية بات مستحيلا: فالصراع يؤثر على معدلات الخصوبة والعمر المتوقع على حد سواء. وبالإضافة إلى ذلك، يحدث جزء هام من التحركات الديموغرافية بصورة غير رسمية: فبعض اللاجئين لا يزالون غير مسجلين، وفي بعض الحالات، لا يدخل المهاجرون في مجموع السكان أو مجموع اللاجئين. وتقدر الخسائر البشرية التي ترتبط مباشرة بالصراع بين 400 ألف (الأمم المتحدة، حتى أبريل/نيسان 2016) و470 ألفا (المركز السوري لبحوث السياسات، حتى فبراير/شباط 2016).
أصبحت سوريا تشكل أكبر أزمة نزوح قسري في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. تم تشريد أكثر من نصف السكان الذين كانوا يعيشون في سوريا قبل الصراع. ووفقا لمفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فإن العدد الإجمالي للسوريين المسجلين حاليا كلاجئين خارج البلاد في لبنان وتركيا والأردن والعراق ومصر وشمال أفريقيا يبلغ 4.9 مليون. وبالإضافة إلى ذلك، يقدر أن أكثر من 800 ألف مواطن سوري طلبوا اللجوء في أوروبا في عامي 2015 و2016. وقد تنقل العديد من هؤلاء الأفراد أكثر من مرة ولم تتم إزالتهم من قوائم التسجيل في أول بلد لجوء لهم. ولا تشمل هذه الأرقام أيضاً حوالي 0.4 مليون إلى 1.1 مليون لاجئ سوري غير مسجل في لبنان والأردن وتركيا والعراق. وبلغ عدد النازحين داخلياً 5.7 مليون شخص في يناير/ كانون الثاني 2017، وظل 56% منهم داخل محافظاتهم. وعلى الرغم من أن الذين ينتقلون داخل محافظاتهم قد يكونون أكثر احتمالاً للعودة إلى مجتمعاتهم الأصلية، فإن حركة الهجرة المعاكسة حتى الآن كانت ضئيلة (0.56 مليون) مقارنة مع إجمالي أعداد النازحين.
بلغت الخسائر في إجمالي الناتج المحلي بين عامي 2011 و 2016 نحو أربعة أضعاف حجم إجمالي الناتج المحلي السوري عام 2010. وكان لتدمير رأس المال المادي والخسائر البشرية والنزوح القسري وتفكك الشبكات الاقتصادية عواقب مدمرة على النشاط الاقتصادي السوري. وتشير التقديرات إلى أن إجمالي الناتج المحلي في سوريا انكمش بنسبة 61% بين عامي 2011 و2015 بالقيمة الحقيقية، وبنسبة 2% إضافية عام 2016، أي بانخفاض بنسبة 63% مقارنة مع مستواه عام 2010. وتظهر تقديرات مؤشرات الحسابات القومية، بما في ذلك أرقام إجمالي الناتج المحلي بالواقع المغاير المقدرة باستخدام أساليب التقدير الإحصائي، أن إجمالي الناتج المحلي الفعلي انخفض بمقدار 51 مليار دولار (بأسعار عام 2010) عن إجمالي الناتج المحلي بالواقع المغاير عام 2016. وبتجميع هذه الفروق بين أرقام إجمالي الناتج المحلي الفعلي وفي الواقع المغاير بين عامي 2011 و2016، يتبين أن الخسارة التراكمية في إجمالي الناتج المحلي تصل إلى 226 مليار دولار بأسعار عام 2010، أي حوالي أربعة أضعاف إجمالي الناتج المحلي لعام 2010.
كان تعطيل الأنشطة الاقتصادية مدمراً بشكل خاص في قطاع المحروقات. انخفض إجمالي الناتج المحلي النفطي بنسبة 93% خلال الفترة نفسها، في حين انكمش الاقتصاد غير النفطي بنسبة 52% بسبب الدمار الشديد في البنية التحتية، وانخفاض فرص الحصول على الوقود والكهرباء، وانخفاض ثقة مؤسسات الأعمال، وتعطيل التجارة. وانخفض إنتاج الهيدروكربونات من 383 ألف برميل يومياً عام 2010 إلى 10 آلاف برميل يومياً عامي 2015 و2016، وذلك بسبب سيطرة الدولة الإسلامية على معظم المناطق المنتجة للنفط. كما سجل الإنتاج الزراعي خسائر كبيرة نتيجة الأضرار التي لحقت بشبكات الري ونقص العمالة والمستلزمات كالبذور والأسمدة والوقود. وحدث الانكماش الأكثر حدة للاقتصاد عامي 2012 و2013، حين تقلص النشاط الاقتصادي بنسبة 29% و32%، على التوالي، مع ازدياد حدة القتال وانتشاره في جميع أنحاء البلاد.
يعاني الاقتصاد السوري من عجز مزدوج حاد، واستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي، وارتفاع الدين العام على نحوٍ غير مستدام. وأدت التعطيلات الناتجة عن الصراع والعقوبات الدولية إلى خفض الصادرات السورية بنسبة 92% بين عامي 2011 و2015. وتشير التقديرات إلى أن العجز في الحساب الجاري بلغ 28% من إجمالي الناتج المحلي عام 2016، بعد أن سجل 0.7% عام 2010. وكان تمويل هذا العجز يجري على نحوٍ متزايد بالسحب من احتياطيات النقد الأجنبي التي انخفضت بشدة من حوالي 21 مليار دولار عام 2010 إلى أقل من مليار دولار عام 2015. وانخفضت إيرادات الموازنة من 23% من إجمالي الناتج المحلي عام 2010 إلى أقل من 3% عام 2015. ويرجع ذلك أساساً إلى تراجع عائدات النفط والضرائب، وانهيار التجارة مع بلدان العالم بسبب العقوبات، ونمو الاقتصاد غير الرسمي، وضعف قدرة الإدارة على الجباية. وتصديا لهذا النقص، تم تخفيض الإنفاق الحكومي (وخاصة النفقات الرأسمالية)، لكن هذه التدابير لم تكن كافية لتعويض انخفاض الإيرادات. ونتيجة لذلك، ارتفع الدين العام الإجمالي من 30% من إجمالي الناتج المحلي عام 2010 إلى 150% عام 2015.
أدى الانخفاض السريع في فرص العمل وتقليص برامج الضمان الاجتماعي إلى زيادة تفاقم الأزمة الإنسانية المتنامية. منذ بداية الصراع، تعرضت فرص العمل للتدمير بمعدل يُقدر بحوالي 538 ألف فرصة عمل سنوياً في المتوسط بين عامي 2010 و2015، مما يضيف 482 ألف شخص إلى مجموع العاطلين عن العمل كل عام. فأكثر من ثلاثة من كل أربعة سوريين في سن العمل (7.7%، أو تسعة ملايين فرد) لا يشاركون في أي نشاط يولد قيمة اقتصادية: 2.9 مليون منهم عاطلون عن العمل، و6.1 مليون غير نشطين. وبلغت نسبة البطالة بين الشباب 78% عام 2015. وفي مواجهة المشكلة المتفاقمة على صعيد الموازنة، خفضت الحكومة السورية الدعم خفضاً ملموساً. فارتفعت أسعار زيت الوقود 10 أضعاف من عام 2011 إلى عام 2015. أما بالنسبة للأرز والسكر، فقد ارتفعت الأسعار بمقدار 2.3 ضعف في الفترة نفسها. وتشير التقديرات الواردة في هذا التقرير إلى أن حوالي ستة من كل 10 سوريين يعيشون في فقر مدقع حالياً. وحتى شهر ديسمبر/كانون الأول 2016، تلقى 5.8 مليون شخص مساعدات غذائية عينية. ويقوم برنامج الأغذية العالمي وحده بتوزيع أكثر من أربعة ملايين سلة غذائية (مكملات غذائية لحوالي 1700 سعرة حرارية في اليوم) كل شهر.
تحليل الآثار الاقتصادية للصراع
ما هي القناة التي كانت الأكثر أهمية في تحقيق أثر الصراع على الاقتصاد السوري؟ ركزت المناقشات حتى الآن على العديد من العوامل التي يحركها الصراع والتي أثرت على رفاه المواطنين السوريين. وهي تشمل الخسائر البشرية، والنزوح القسري، والتدمير المادي، والقيود المفروضة على تنقل السلع والأشخاص، وعدد هائل من الفرص الضائعة. بيد أن هذه الآثار المتعددة الأبعاد تشمل مكونات متداخلة. فبعض المعلومات المفيدة للغاية، مثل الأهمية النسبية للتدمير المادي والهجرة وما إلى ذلك، في توليد الأثر الاقتصادي للصراع، لا يمكن ملاحظتها مباشرة. ومن أجل معالجة بعض هذه المخاوف، اعتمدت هذه الدراسة إطاراً تكاملياً يساعد على الفصل بين قنوات انتقال آثار الصراع. وأدخل التحليل أيضا عدة سيناريوهات ذات صلة بالسياسات يمكن أن تفيد جهود التعافي وإعادة الإعمار في المستقبل.
لا يمثل تدمير رأس المال، في حد ذاته، سوى نسبة ضئيلة من الأثر الاقتصادي للصراع. فإذا كان الصراع قد دمر رأس المال فقط (بنفس المعدل الذي فعله حتى الآن)، دون آثار أخرى (سيناريو تدمير رأس المال فقط)، فإن آثاره على الدخل والرفاه ستكون محدودة نسبياً. وبحلول السنة السادسة من الصراع، فإن الخسائر المتراكمة في إجمالي الناتج المحلي لن تشكل سوى 5% من الخسارة الفعلية إذا دمر الصراع رأس المال فقط دون أن يؤدي إلى وقوع خسائر بشرية وفوضى اقتصادية. ويرجع ذلك أساساً إلى أنه بدون مزيد من الفوضى الاقتصادية والخسائر البشرية والهجرة، تظل آثار التدمير المادي على الربحية محدودة نسبياً. وبالتالي، تظل الاستثمارات مرنة نسبياً، ويعاد بناء رأس المال المُدمر بسرعة نسبياً. وتبين عمليات المحاكاة أن الاستثمارات تنخفض بنسبة 80% في سيناريو خط الأساس، حيث تُفرض جميع الصدمات المرتبطة بالصراع، ولا تنخفض إلا بنسبة 22% في سيناريو تدمير رأس المال فقط. وتسلط هذه الآلية الضوء على اختلاف ملحوظ بين الكوارث الطبيعية والصراعات. فحين تدمر كارثة طبيعية ما رأس المال في اقتصاد سوقي يعمل بشكل جيد مع مؤسسات قوية، فإن تعافي رصيد رأس المال يصبح سريعاً، ولا تستمر الآثار. أما حال الحروب الأهلية فمختلفة: فالخسائر البشرية، والتنقل الديموغرافي، وانخفاض عوائد الاستثمار، كل ذلك يؤدي إلى تفاقم الضرر الذي يلحق برأس المال المادي. ونتيجة لذلك، فإن الخسائر الفعلية الناجمة عن أضرار رأس المال المادي هي أكثر وضوحاً، ويمكنها أن تستمر في المستقبل بمعدل أعلى بكثير مما هو الحال في الكوارث الطبيعية.
الخسائر البشرية تفرض ضغوطاً لا تطاق وآثاراً نفسية على الأسر. وعلى الرغم من أن أثرها الاقتصادي المباشر يماثل تأثير سيناريو تدمير رأس المال فقط، فإن هذا الأثر أكثر استمراراً. فعندما يؤدي الصراع إلى وقوع خسائر بشرية دون وقوع آثار أخرى (سيناريو الخسائر البشرية فقط)، فإن التغير في إجمالي الناتج المحلي يماثل التغير في سيناريو تدمير رأس المال فقط: ففي كلا السيناريوهين، يظل انخفاض إجمالي الناتج المحلي خلال سنوات الصراع النشط أقل من 5% عنه قبل الصراع. إلا أنه رغم هذا التشابه، هنالك فرق كبير بين الاثنين. فالخسائر البشرية هي السبب الرئيسي للهجرة إلى الخارج: أدت الخسائر البشرية الناجمة عن الصراع إلى نزوح أعداد كبيرة من السوريين، في حين أن تدمير رأس المال لم يؤد إلى ذلك. وتبين عمليات المحاكاة أن أكثر من ثلثي جميع حالات الهجرة يمكن أن تُعزى إلى العوامل المتصلة بالخسائر البشرية وحدها. فالعوامل ذات الصلة بالأمن تهيمن على الأسباب الاقتصادية في تفسير أنماط الهجرة: الناس ينتقلون بحثاً عن نوعية حياة أفضل، ولكن نوعية الحياة الأفضل تدور إلى حد كبير حول انخفاض احتمال التعرض للقتل في هذه الحالة، وليس لتحقيق دخل أعلى. وثمة نتيجة أخرى لهذا التحليل هي أن الأثر الاقتصادي للخسائر البشرية هو أطول أمدا من أثر العوامل الأخرى. فحتى إذا انتهى الصراع في سنته السادسة، فإن إجمالي الناتج المحلي سيبقى أقل بكثيرمن مستواه قبل الصراع: سُدس خسائر إجمالي الناتج المحلي المتراكمة فقط خلال السنوات العشرين الأولى بعد بدء الصراع يقع خلال السنوات الست من الصراع. والباقي يقع بعد انتهاء الصراع.
تعطيل التنظيم الاقتصادي هو أهم قناة يمكن من خلالها أن يتجلى الأثر الاقتصادي للصراع. أين ينبع الجزء الأكبر من الأثر الاقتصادي إن لم ينجم عن تدمير رأس المال والخسائر البشرية؟ إنه ينبع من تعطيل أساليب تنظيم النشاط الاقتصادي. فالصراع لا يدمر عوامل الإنتاج فحسب، بل يحول دون اتصال الناس بعضهم ببعض ويخفض من حافزهم على مواصلة الأنشطة الإنتاجية ويحطم الشبكات الاقتصادية وسلاسل التوريد. وتبين عمليات المحاكاة التي أجريناها أنه بنهاية السنة السادسة من الصراع في سيناريو الفوضى الاقتصادية فقط تتجاوز خسائر إجمالي الناتج المحلي التراكمي الخسائر الناشئة في السيناريوهين القائمين على تدمير رأس المال فقط والخسائر البشرية فقط بنحو 20 ضعفا. وتشير هذه النتائج إلى أن إعادة رأس المال المفقود، بحد ذاته، لن يكفي لإعادة الاقتصاد إلى مستوى ما قبل الصراع، إذا لم يتم التصدي للتحديات المؤسسية والتنظيمية بشكل متزامن. وبغض النظر عن مصدر التمويل، فإن تعزيز الاستثمارات العامة دون اتباع نهج شامل من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من البحث عن الريع والمحسوبية، وهما من العوامل المهمة التي أهلت المشهد لنشوب الصراع، وذلك على النحو المبين في القسم الأول. وبالتالي، فإن التعافي وإعادة الإعمار ليسا بأي حال من الأحوال مسألة هندسية؛ إذ تظهر نتائجنا أن القضية هي في المقام الأول اقتصادية واجتماعية، حيث تقع حوافز المواطنين السوريين في الصميم.
مع استمرار الصراع، ستزداد النتائج الاقتصادية تدهوراً وسيواصل السوريون الهجرة. لتقييم مسارات التعافي المحتملة، استخدم التحليل سيناريوهات مختلفة لنهاية الصراع. وهي تشمل خط الأساس، حيث ينتهي الصراع في السنة السادسة، وسيناريوهان بديلان، ينتهي فيهما الصراع على التوالي في سنته العاشرة أو لا ينتهي في المستقبل القريب. وفي الحالات الثلاث، يستخدم التحليل صدمات تدمير رأس المال، والخسائر البشرية، والفوضى الاقتصادية. وبناء على ذلك، في سيناريو خط الأساس، يتعافى إجمالي الناتج المحلي بنحو 20 نقطة مئوية (كنسبة من إجمالي الناتج المحلي قبل الصراع) في غضون أربع سنوات بعد انتهاء الصراع. وبالمقارنة، سيواصل إجمالي الناتج المحلي التدهور إذا لم ينته الصراع في المستقبل القريب. وفي السيناريوهين البديلين، سيظل الصراع مدمراً للبلاد. وعندما ينتهي في سنته السادسة، تصل الخسارة التراكمية في إجمالي الناتج المحلي إلى 7.6 أضعاف إجمالي الناتج المحلي السنوي قبل الصراع بحلول السنة العشرين. أما مع استمرار الصراع، فإن هذه الخسارة تصل إلى 13.2. وتبين المحاكاة أيضاً أن الهجرة إلى الخارج تتضاعف بين السنة السادسة من الصراع والسنة العشرين. وبالتالي، فإن تدفق المهاجرين والنازحين قسراً لن يتوقف ما دام هناك صراع. ويتراجع معدل التدهور لأن الصراع محدود جغرافيا، وتستنزف الهجرة القوى العاملة في المناطق المتضررة من الصراع، ويصل رصيد رأس المال إلى مستوى مستقر بنسب جديدة من الأضرار والاستثمارات. ونتيجة لذلك، يتقارب الاقتصاد إلى مستوى توازن جديد.
كلما طال أمد الصراع، كان التعافي أبطأ بعده. وهناك نتيجة هامة أخرى من سيناريوهات نهاية الصراع هي أن مدة الصراع تؤثر أيضاً على وتيرة التعافي. فعلى الرغم من أن معدل التدهور يأخذ في التراجع على مدى سنوات الصراع، إلا أن الآثار تصبح أكثر استمرارا. وعندما ينتهي الصراع في سنته السادسة (خط الأساس)، يستعيض إجمالي الناتج المحلي نحو 41% من الفجوة المتبقية مع مستواه قبل نشوب الصراع، وذلك في غضون السنوات الأربع التالية. وبالمقابل، فإنه لا يستعيض سوى 28% من الفجوة خلال أربع سنوات إذا انتهى الصراع في سنته العاشرة (سيناريو بديل). هذه النتائج لا تأخذ بعين الاعتبار الكثير من المضاعفات مثل تحديات الاقتصاد السياسي كالمظالم التي يحركها الصراع. إن إضافة هذه العوامل لن يؤدي إلا إلى تدعيم النتيجة الرئيسية: كلما طال أمد الصراع، زادت المظالم والانقسامات عمقا في المجتمع السوري، مما يجعل من الصعب للغاية إعادة بناء مؤسسات وآليات اقتصادية كفؤة.