الدكتور جون نسطه
كانت غرفتنا في المساء تغص بالضيوف من كل حدب وصوب على صغرها وقلة مقاعدها وعلى رأسهم صديقي الدكتور سعد النابلسي رحمه الله وبعض معارفه وضيوفه من مدينة جبلة واللاذقية اللذين لم أكن اعرفهم، ومنهم رئيس بلدية جبلة عبد الحفيظ نجيب وغسان إسماعيل، أمين سر محافظة اللاذقية. اللذان أصبحا من اعز وامتن صديقين لي.
الأستاذ عبد الحفيظ نجيب شخصية متميزة تجمع بين البساطة وسمو الأخلاق والقيم الإنسانية، مع حب النكتة والمواظبة على الضحك وميل دائم لصنع المقالب، بالحاضرين، رجل مسيس بأفكار البعث الثورية المعادية للرجعية وبقايا الإقطاع ولممثلين اليمين في الجيش والطاقم الحزبي. وشغل لفترة غير قصيرة منصب قيادة فرع حزب البعث العربي الاشتراكي في مدينة جبلة وتوابعها من الأرياف في الساحل والجبل.
وعلى علاقة صداقة بالضابط حافظ الأسد الذي تمنى عليه أن يلقي كلمة رثاء على قبر والده المتوفي. وبعد انقلاب السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970وتولي حافظ الأسد رئاسة البلاد طلب من عبد الحفيظ أن يقف إلى جانبه في السلطة الجديدة أو تقديم استقالته من رئاسة بلدية جبلة. ففضل الاستقالة وبالتالي البطالة عن العمل واضطر لان يفتح محلا لبيع اللوازم الزراعية من متورات ضخ المياه والسماد وغيرها وتوابعها. لأنه كان منحازا ووفيا لقيادة صلاح جديد.
عبد الحفيظ بقي طوال حياته أعزبا يسكن مع شقيقتيه الغير متزوجتين سكينة وبدرية في بيت من شقتين، واحدة منهما يسكنه هو والآخرى مخصصة للشقيقتين المتصلتين مع بعضهما بواسطة بابين، وهو من يقوم بمصاريفهن. وكنت أقوم مع زوجتي التي كان يجلها بتلبية دعوات زيارته المتكررة.
أما غسان إسماعيل الذي كان بالإضافة لعمله يدرس الفلسفة في دمشق جامعه دمشق ومن طلاب صديقي المفضل الدكتور نايف بلوز، فكان يتردد كثيرا على دمشق ويزورنا زوجتي وأنافي غرفتنا في مشفى المواساة.
غسان إسماعيل رجل مثقف، يساري، رقيق، خجول فائق التهذيب كريم إلى أبعد حدود الكرم.
استمرت صداقتي مع الاثنين إلى عقود طويلة حتى وفاتهما المبكرة وكنت في زياراتي إلى الوطن بعد سفري إلى المانيا مرة أخرى أزورهما على الدوام.
لما وصلت إلى دمشق للعمل في مشفى المواساة وكان ذلك في شهر حزيران من عام 1970جرت دعوتي من قبل الحزب للانتظام في المكتب الاقتصادي المركزي وانا الطببب، والسبب في ذلك يعود
إلى أنني أثناء دراستي في لابزيغ قمت بإعداد دراسة عن الجمعيات التعاونية الزراعية، والقيتها في محاضرة، بقصد التثقيف الحزبي، وجرى طبعها على الآلة الكاتبة، وارسالها إلى الحزب في دمشق. وكان هذا المكتب يضم رفاق مختصين بالاقتصاد والصناعة أذكر منهم الدكتور داوود حيدو، والدكتور طه بالي، والدكتور مفيدٌ حلمي، والمهندس خير الدين جبريني وغيرهم.بعد فترة قصيرة، بعد أن أعلنت عن عدم صلاحيتي لهذه المهمات الإقتصادية، من دراسات ومتابعات للأحوال الاقتصادية، جرى القرار بنقلي إلى العاملين بالقطاع الصحي. الرفيق الذي اتصل بي، يدعى ميشيل ديب أبو ابراهيم.يعمل وكيل لشركات أدوية، اجنبية ووطنية ويقوم بزيارة الأطباء في عيادتهم بغرض الترويج لأدوية هذه الشركات وعلى رأسها شركة لألمانيا الديموقراطية من نوعية جيدة بأسعار زهيدة.
أبو إبراهيم، نقابي بارز، عضو لجنة الحزب المنطقية في دمشق ترجع أصوله إلى مدينة قطنا رفيق جماهيري محبوب في حيه القصاع، خدوم، دائم الحركة والنشاط طيب القلب كريم اليد، شهم. متزوج من رفيقة من اللاذقية.
طلبت منه مرة أن يساعدني في حل لمشكلة غسيل حوائجنا المتسخة لان غرفتنا في المشفى لم تكن تحتوي على غسالة ثياب كهربائيه، فما كان منه إلا أن قال بيتي مع غسالتي تحت تصرفكم يوم كل جمعة، لاني والعائلة نكون في قطنا لزيارة الأهل والأقارب هناك. وبالفعل كنت وزوجتي نذهب كل يوم جمعة مع غسيلنا، إلى بيته ونستعمل غسالته ونأكل من طعام لذيذ معد لنا.
خلال فترة عملي في مشفى المواساة استدعيت لخدمة العلم الإجبارية، والتحقت بمدرسة المشاة العسكرية في المسلمية في حلب.
لم يمضي أسبوع حتى أفاجأ بوصول أمر عسكري بتوقيع وزير الدفاع بتسريحي وضرورة التحاقي بعملي في مشفى المواساة بطلب من وزير التعليم العالي. وكان من يقف وراء العملية كلها الدكتور سامي القباني الذي كان وسلمت ثيابي المدنية واستلمت الألبسة العسكرية وتوجهت إلى مهجع الأطباء لان الدورة تضم مهندسين وأطباء وكان سريري مجاور لسرير الدكتور إياد الشطي الذي كنا نعرف من خلال عملنا في مشفى المواساة ويشغل فيه رئيس قسم التشريح المرضي وتحليل الأنسجة.
يثق بي ثقة عمياء. وتكررت العملية مرة ثانية…استدعاء والتحاق بمدرسة المشاة ثم تسريح بأمر من وزير الدفاع بطلب من وزير التعليم العالي في العام الذي تلاه.
بعد مرور عامين على تواجدي في مستشفى المواساة، تقدمت بطلب إلى الأستاذ برهان العابد بغرض استعدادي لتقديم فحص الامتحان للحصول على شهادة الاختصاص السورية، في أقرب وقت ممكن.
تم تحديد موعد سريع للامتحان، أمام لجنة مؤلفة منه، ممثلاً لوزارة التعليم العالي، ومن رئيس قسم التخدير والإنعاش، في مشفى المجتهد، ممثلاً لوزارة الصحة. اجتزت الامتحان بنجاح طبعا، الذي كان شكلياً، بما أن الفاحصان يعرفان مقدرتي النظرية والعملية.
خلال عملنا في مشفى المواساة زوجتي وأنا، تبين أننا سنصبح والدين لمولود قادم، وفي 10.12.1971 أنجبت زوجتي في حمص فتاة جميلة حيوية أسميتُها رندة، وعدتُ بعدها فوراً إلى دمشق للالتحاق بعملي، على أمل العودة في نهاية الأسبوع التالي. وعندما عدت إلى بيتنا في حمص سألت: أين رندة؟ قالت زوجتي: ما في رندة، فظننت للحظة أنها توفيت، وبدأت بالبكاء، فهدأت من روعي وقالت: إنها فضّلت اسم منى على رندة، ولما سألتها لماذا اخترت هذا الاسم؟ قالت: لأنني معجبة بالممثلة القديرة منى واصف، وافقت فوراً.
بعد فترة إجازة الولادة لمدة ثلاثة أشهر عادت زوجتي للعمل، ومعها الرضيعة منى، التي ملأت حياتنا فرحاً.
ولكن بقي السؤال كيف تستطيع زوجتي الموائمة بين متطلبات العمل وواجباته، وبين رعاية الطفلة الرضيعة وحاجاتها؟! فاستعنت بالرفيق “أبو إبراهيم”، فأتانا بشابة مستعدة للبقاء إلى جانب منى من الصباح حتى الثانية ظهرا، لقاء أجر بسيط.
نمَتْ منى بسرعة وبادرت بالمشي في الشهر العاشر من عمرها، وكثيرا ما كانت تخرج من غرفتنا إلى أجنحة المشفى، ونركض للبحث عنها.
قررت العودة إلى حمص للعمل هناك كطبيب تخدير، والمدينة كانت في تلك الفترة خالية من أطباء التخدير، وتشّجعت على هذه الخطوة، بعد أن أخبرني ابن عمتي المرحوم مدحت أبو خاطر، إنه كان في زيارة لمحافظ حمص، وأنه أصدر قراراً يمنع أصحاب المشافي الخاصة، ومدراء المشافي العامة، دفع أجور التخدير، إلا بوجود وإشراف طبيب تخدير مختص.
قمت بزيارة كل مشافي المدينة ودخلت إلى غرف العمليات فيها، فوجدت أجهزة تخدير قديمة في حالة يرثى لها، ومعدات أكثر بؤساً.
في هذه الأثناء جرى تواصل بيني وبين المستشفى الإيطالي بحلب، بواسطة السيد “حكمت أبو خاطر” وهو ابن عمتي أيضاً، رجلٌ محبٌ غيورٌ أطال الله عمرَه. هذا المشفى كان يبحث عن طبيب تخدير وإنعاش. زرته ووجدت به غايتي. وبدأت بالعمل هناك في شهر آذار من العام 1973، وكنت أسكن في البداية بفندق في شارع بارون وسط المدينة، وأبحث عن بيت استأجره لسكن فيه عائلتي الصغيرة. عثرنا على بيت مفروش أنيق بجانب مشفى الكلمة في حي السبيل، وانتقلت العائلة إليه.
ثم تعرفت علي طبيب التوليد المشهور الدكتور إسكندر قسيس، ويملك مشفى صغيراً باسمه، وأصبح لا يقوم بأي عمل جراحي، ولو كان بسيطاً، إلاّ ويستدعيني.
تحسنت أوضاعي المادية كثيراً، بعد سنوات عسرٍ طِوال.
صلتي الحزبية في حلب كانت عن طريق رفيقٍ من خيرة من تعرفت عليهم في حياتي الحزبية الطويلة، ثقافة، ورقة، وتواضعا ومحبة، وتهذيباً، أستاذ الجامعة الدكتور محمد أبو بكر عضو اللجنة المنطقية لتنظيم المكتب السياسي، بعد حصول انشقاق خالد بكداش ويوسف فيصل عن الحزب. كانت صلتي فردية فقط معه.
في حلب، في مشفى الدكتور إسكندر قسيس، وُلد ابني الوحيد فايز. واكتملت سعادتنا.
لكن هذا الوضع المريحً لم يدم طويلا حيث جاءت حرب تشرين عام 1973، وانقطعت الكهرباء، وشحت المياه.
ثم استدعيتُ لخدمة العلم وبدأت مرحلةٌ جديدة من حياتي.