من زوايا الذاكرة (١٦)

الدكتور جون نسطه

عملي اليومي في قسم العمليات الجراحية، وهو عبارة عن كوردور طويل يحتوي على عشرة غرف عمليات موزعة على الطرفين يميناً ويساراً، بالإضافة إلى غرفة استراحة واسعة، وعملي يستمر من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة الثانية ظهراً.

برهان بيك العابد كان يوزع أطباء التخدير على غرف العمليات، وكانت نسبة النساء لا بأس بها، أذكر منهن الطبيبة السيدة نظيرة عز الدين، وسيدة من آل طيفور، والسيدة فريال المالح.

برهان بيك قال لي في أول يوم عمل: فعلتها مو هيك؟ دخلتَ إلى المشفى رغم قولي لك بأن الأمر مستحيل بالنسبة لك، لكنني سعيد بانتصارك هذا.

من خلال نقاشاتي في غرفة الاستراحة، تبين لجميع الزملاء بأنني شيوعي العقيدة، وصار اسمي الطبيب الأحمر، ويدعوني بذلك الاسم.

كان رئيس قسم الجراحة العامة في تلك الأيام طبيب يدعى مظهر بيك المهايني. رجل يتسيّد المكان كالديك المنفوش الريش، عالي الصوت، يأمر وينهى، مهاب، لا أحد مستعد لمخالفته.

دخلت مرة لغرفة عمليات لتخدير مريض مصاب بكسر في عظم الفخذ، ومظهر بيك كان الجراح. أجرى العملية وفي ختامها مباشرة كنت قد جعلت المريض صاحياً، وطلبت منه أن يقول شكراً للدكتور المهايني، وفعلاً قالها، فتعجب من هذا ولم يصدق أذنيه، وقال لي: كيف تفعل ذلك؟ المريض عندنا يبقى ساعات وأحيانا يوماً كاملاً قبل أن يصحو ويستطيع الكلام؟ قلت له التخدير الحديث يمكنه ذلك باستعمال أدوية جديدة، موجودة، ولكن لا يتقن أطباؤكم استعمالها.

خرج مظهر بيك من الغرفة وصاح بأعلى صوته منادياً زميله الجراح لطفي اللبابيدي: لطفي بيك لطفي بيك، هذا الطبيب الأحمر يصنع العجائب، في المستقبل سوف أعين أطباء من ألمانيا الشرقية.

وفي حادثة أخرى مع مظهر بيك، جرت أيضاً في غرفة العمليات، وكان يساعده طبيب لطيف جداً، التفت إليّ وقال جان بيك، المريض ينزف في إشارة منه أن أتدبر الأمر، وأطلب من الممرضة إحضار أكياس دم لأنقلها للمريض، وهذا طبعاً من مهمات طبيب التخدير. التفتُّ لهذا الطبيب، ومظهر بيك يسمع، قائلاً ماذا قلت؟ جان بيك؟ ما هذه الإهانة؟ نادني باسمي، أو بدكتور. هل تعرف ماذا تعني كلمة بيك. إنها رتبة عسكرية في الجيش الإنكشاري التركي، وتعني قائد المائة، صمت برهان المهايني، ولم يعلق بكلمة واحدة، مع تعجب الجميع الموجودون في الغرفة من أطباء وممرضين وممرضات.

من وقتها صار اسم مظهر بيك، قائد المية. جاء قائد المية، وذهب قائد المية. وهكذا جعلت من كلمة بيك مسخرة واستهزاء بين كل من يعمل في غرف العمليات.

من خلال عملي تعرفت هناك على عدد كبير من الأطباء منهم محمد الشامي، جراح بطن بارع، مسيطر على ساحة عمله كامل السيطرة، والدكتور فيصل الصباغ، جراح الأمراض العصبية، صاحب النكتة اللاذعة، والملاحظة السريعة، واللسان الطويل، الذي لا يفلت من جلده أحد، رغم ضعف إمكانياته الطبية العملية.والدكتور عبد الحي عباس، جراح الأنف والأذن والحنجرة صاحب اليد الذهبية، شديدة المهارة. لم أتعرف بكامل حياتي المهنية، على جراح أفضل منه، أو يشبهه.

كان الزميل عبد الحي عباس، من أبناء حمص أيضا، إسلامي التوجه، متنور، مطلع على الفلسفة الأوروبية والألمانية خاصة، ولهذا كنا نتناقش سوية، وأثناء إجراء العمليات أحيانا، بأمور العالم ومصائر البشرية ومستقبلها القريب والبعيد. ونشأت بيننا علاقة صداقة متينة. وهو يعيش الآن في الولايات المتحدة الأميركية، وكتب منذ فترة قصيرة مقالا هاماً، فيه زهد بالعالم المادي وثرواته الزائلة، يحاول فيه أيضا أن يثبت وجود الله، ومن خلال عرض وجهات نظر اهم الفلاسفة والمفكرين العالميين.

وهناك تعرفت أيضا عن قرب بالدكتور سامي القباني، جراح القلب والأوعية الدموية، الذي كان أيضا صاحب تأملات فلسفية وثقافة واسعة، ونشأت أيضا بيننا علاقة فكرية مميزة. ومن بعدها علاقة طبية متينة، حين عرف بأنني طبيب تخدير وعناية مشددة خريج برلين. صار يعتمد على كلياً حين يريد أن يقوم بعملية قلبية، طبعا ليست عملية قلب مفتوح، لان تجهيزات المشفى لا تسمح بذلك. من المؤسف أن أذكر وجود أجهزة متعددة حديثة للتخدير وللتنفس الاصطناعي، جاءت كهدايا من السويد، ولم يكن أحدأ من أطباء المشفى يعرف أن يشغلها أو يستعملها. ولم يكن هناك استعمال لغرفة العناية المشددة الواسعة قبل مجيئي.

أخبرت الدكتور سامي بوجود هذه الأجهزة وبوجود غرفة العناية المشددة. فصار يسألني إن كنت موجود في العمل في اليوم الفلاني، لأنه يرغب بإجراء عملية قلبية، وإلا سيؤجلها. كان يعلم بان مريضه سيموت إذا لم يتوفر طبيب يرعاه في العناية المشددة. لم يكن أحد من أطباء التخدير مستعد للبقاء بعد الساعة الثانية ظهرا في المشفى، ورعاية مريض بعد العملية، ولأنهم أيضا لم يكونوا يعرفون استعمال المنفسة، وأساليب العمل الطبي في العناية المشددة.

المشكلة الأساسية كانت ولا تزال تتلخص بعدم وجود قانون تفرغ للأطباء يمنعهم من العمل في عيادات خاصة، والعمل في المشافي الخاصة، بعد الدوام الرسمي في المشافي التابعة لوزارة الصحة أو وزارة التعليم العالي.

لذلك كنت ترى وصول أغلب المختصين من الأطباء يصلون إلى المشفى الرسمي حوالي الساعة العاشرة وينصرفون مسرعين حوالي الواحدة ظهراً، إلى معالجة مرضاهم في عياداتهم الخاصة أو إلى المشافي الخاصة. المصالح الخاصة هي التي تفرض نفسها على سلوك البشر، متجاوزة دروس الأخلاق والوعظ الديني.

كانت زوجتي تعمل في قسم الأمراض الباطنية، وتعالج مرضاها من الصباح الباكر حتى المساء، ماعدا فرصة غداء قصيرة، وكانت تكتب القصص المرضية وخطط التشخيص والعلاج إلخ. باللغة العربية الفصحى، مستدعية تعجب الممرضين والممرضات، وإعجابهم بانكبابها على العمل.

بعد فترة جاءني أكثر من زميل لها، يطلبون مني الحديث معها بأن العمل في سوريا غير العمل في ألمانيا، وأنها بانكبابها على العمل لساعات طويلة يسبب حرجا بالنسبةِ لهم.

في مشفى المواساة هذا تعرفت أيضا على عدد من الأطباء المتدربين، وكنت من مندهشاً من مستواهم العلمي والعملي المتقدم جداً، والذي يتفوق على مستوى الأطباء الألمان علمياً وعملياً، ونشأت بيني وبين بعضهم علاقة صداقة مستمرة إلى يومنا هذا، أذكر هنا على سبيل المثال وليس الحصر، الدكتور فيصل العلوني، الذي أصبح مديراً لإدارة الصحة في محافظة الرقة، وأيضا سفيراً في دولة تونس لسنوات طويلة.

كان فيصل إنسانا رقيقاً، هادئاً، لطيفاً، متأنياً، عطوفاً، يحترم الآخرين من الجياد خلقاً وعملاً، كان يبدو عليه صفة التأمل، وتبين لي بانه مهتم بقضايا الفلسفة والفكر إسلامي التوجه معجب بأفكار مالك بن نبي، ومن هنا كانت تجري بيننا مناقشات وحوارات مستمرة، امتدت صداقتنا الرجولية إلى زوجتي أيضاً، التي كانت تحترمه وتقدره. لابل إن صداقتنا استطالت وتوارثت إلى أولادنا، فابنتي منى وابنه عمر أصبحا صديقين حميمين، وخصوصاً لان منى ساعدته بالقدوم إلى ألمانيا والاهتمام به وبصديقه ورد الجعبري، على كل الأصعدة.

ولا أنسى أيضاً علاقة الصداقة آلتي نشأت بيني وبين طبيب لامع آخر يدعى موسى الكردي، الذي كان يعمل، بقصد الاختصاص، في قسم التوليد وأمراض النساء في جامعة دمشق. كان شاباَ حيويا، نشطا، ذكيا بارعا، جراحا لم أر في حياتي المهنية كلها، مثله. في عمليات القيصرية أن يفتح بطن المريضة، ويخرج الطفل الوليد بأقل من ثمان دقائق. وينهي العملية خلال 20 دقيقة. أصبح أيضا أستاذاً في جامعة كمبردج البريطانية فيما بعد، ويعالج مريضاته في عيادة خاصة في لندن أيضا. ويعمل الآن في دبي، بعد أن مارس الطب في دمشق قبل انتفاضة الشعب السوري البطولية. وذاع صيته في أنحاء سوريا كلها.

وكان أيضا إنسانا نبيلا، كريم اليد، وفياً، محباً، شهماً.

مضى عام على عملنا في مشفى المواساة، وانتهت مدة العقد، التي لا تمدد إلّا بمرسوم من رئيس الجمهورية. تقدمت بطلب التمديد مع موافقة إدارة المشفى. ومضى شهران ولم يصدر المرسوم، ونحن نعمل بدون راتب. طلبت مقابلة مع وزير التعليم العالي، الدكتور شاكر الفحام، الذي كان يعمل سابقاً أستاذاً للأدب العربي في مدينة حمص. شرحت وضعي وإنني انتظر منذ شهرين صدور المرسوم، وراتبي متوقف، أجابني: إن يتفهم وضعي، ولكن الرئيس مشغول بأمور أخرى أكثر أهمية، وإنه سيحاول قدر جهده، تسريع العملية. انتظرت شهراً آخراً، ثم ذهبت إلى الوزارة، وكانت تقع بحي الروضة، وطلبت مقابلته، وكنت مشحوناً غضباً واستياءاً، لأنني استنزفت كل إمكانياتي المادية. وانا رجل لم استدن بحياتي وإلى الآن قرشا واحداً من أحد.

خاطبت الوزير فحّام بلهجة ونبرة عالية، وقلت ما هذه الدولة التي يعمل فيها طبيب موظف بدون راتب لمدة ثلاثة أشهر. وأنت وزير مهمل غير مهتم بأحد، ولا يهمك مصائر البشر، تتمتع بالرخاء والبحبوحة وراحة البال، على حسابي وحساب غيري من خدام الدولة. لم أتح له وقتاً للإجابة، مسترسلا بهجومي الشخصي عليه، عندها ضغط على زر، فدخل الحاجب وطلب منه الوزير مخاطبة شرطي الوزارة بالقدوم فوراً، الذي حضر مسرعاً. وطلب منه الوزير اعتقالي فوراً ووضع القيد المعدني في معصمي.

قلت له صارخاً: لي الفخر أن اعتقل بدولة البعث، لأنني أطالب بحقوقي المهضومة.

وقال الوزير للشرطي: اعتقله بتهمة الإساءة للوزير خلال عمله. خلال هبوطنا على الدرج، شاهدني مقيداً الأديب المثقف اليساري شحادة الخوري، الذي قام على الفور بالاتصال مع رفاقي الحزبيين، وبأهلي في حمص وأعلمهم بأمر اعتقالي. قام ابن عمتي البعثي، صديق الوزير شاكر الفحام، ورفيقه، رفعت أبو خاطر، بالاتصال به معاتباً بصدد اعتقالي وبأنني ابن خاله. المهم بعد عدة اتصالات معه، أمر بالإفراج عني.

من العدد ٥٨ من جريدة المسار