بعض النقاط حول آفاق العمل القومي

يمكن القول أن الحالة العربية المتأزمة والصراعات القطرية داخل الأمة العربية تشابه إلى حد التطابق حالة أوروبا الغربية قبل الثورة الصناعية والنظام الليبرالي، ويمكن القول هنا في هذا السياق أن الأغنياء أو ما يسموا اصطلاحا البرجوازية العربية ليس لديها ذالك الطموح كالذي حملته البرجوازية الغربية لتحقيق الدولة القومية، وليس فقط ليس لديها الطموح بل أيضا يمكن القول أنها جبانة إلى حد كبير وتخاف من المواجهة والتقدم للأمام، لذلك يلاحظ الدعاية المحافظة السائدة في الأقطار العربية لتبرير القطرية السياسية التي ستتحول (كل قطر عربي) بفعل التغيرات الداخلية إلى أمة قومية في إطار عمل القوى الغربية لتجزيء المجزأ وهذا ما يسمى تقومن القطرية، وهذا إذا لم تأخذنا الصراعات الداخلية إلى الدويلات الطائفية والمذهبية ، وهنا لا يمكن وضع الضغط الدولي لمنع نشوء دولة قومية عربية في الثانويات بل يلعب دوراً مهما في تدمير الإمكانات الذاتية للمجتمعات العربية والدول العربية، وذلك يظهر في الإيديولوجيا التي يصدرها للمجتمعات العربية التي تساهم بشكل كبير في بناء بؤر توتر داخل المجتمعات العربية، وهذا يضاف إليه محاولة تكبيل الدول العربية القطرية بقروض سخية من جهة ومن جهة أخرى وضع شروط لتقديم هذه القروض والتي لا تخدم القضية القومية ، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى مخاوف الدول الأوروبية من فتوحات عربية عكسية تتجه إلى أوروبا كما عملت الدولة الأموية عندما وصل إمتدادها لقلب أوروبا وما رافقه من ويلات وتأخر وتخلف وجهل وإستعباد إنعكس على الأوروبيين في مناطق سيطرتها، فالمراحل التي مرت بها أوروبا حتى وصلت للدولة القومية تشابه ظروف الدول العربية القطرية في تطورها المراحلي نحو الدولة القومية الواحدة ، والمقصود بالتشابه هو الحركة الجماهيرية العربية ،لكن مع غياب تلك الطبقة البرجوازية التي في حال وجودها قد ينقل العرب من حال إلى حال أفضل بكثير.

تلعب الإستراتيجية الدولية تجاه الشرق العربي دوراً في تخريب المجتمعات العربية، وذلك في التأسيس لبؤر توتر داخل الشرق العربي، إن كان على مستوى الدول القطرية أو على مستوى تشجيع فئات داخل المجتمعات العربية على التدمير الذاتي للمجتمعات، وهذه البؤر مدعومة من قبل الغرب الإمبريالي ويحاول وضعها في سياق مخططاته الرامية لتمزيق المجتمعات العربية بأياد عربية تخريبية، والغرب الإمبريالي يتقصد في إستراتيجيته السياسية والإقتصادية في تشجيع أي إختلاف في الظروف الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية بين البلدان العربية ، وهذا يمكن إرجاعه إلى مخاوف أن تتطابق الظروف بين المجتمعات العربية مما قد يؤدي إلى التأسيس للدولة القومية.

تلعب عدم وجود إيديولوجيا قومية واحدة (عكس حال أوروبا الغربية أثناء تكون الأمة القومية) وتعدد تياراتها من برجوازي وصولاً للماركسي دوراً كبيراً في تفريق القوى فيما بينها، بسبب الإختلاف في نظرة كل منها للسلطة، وهذا يمكن حله عن طريق الإجماع القومي على رؤية حول النقاط المشتركة بين حال المجتمعات العربية وصولا إلى تكوين برنامج قومي ذا أبعاد قومية متجذرة لإنهاض الأمة العربية من تفاقم حالتها السياسية وصولاً إلى تجزيء المجزأ، كمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته الإدارة الأمريكية في إستراتيجتها لإعادة صياعة المنطقة ودولها وفق رؤيتها ومتطلبات حماية ذاتها .

لذلك وبناءاً على ما سبق، يمكننا القول أن تعدد المرجعيات الفكرية للفكرة القومية قد أضاع على العرب في القرن العشرين فرصة النهوض الوحدوي، وإذا ما استمر الوضع على ماهو الآن فيمكننا القول أن التخلف الاجتماعي والتراجع السياسي في الوعي المعرفي والقومي قد يطيح فيما تبقى من دول عربية، ويقسم هذه الدول لدويلات طائفية ، فالعرب أمام عقبة كأداء هي الغرب الإمبريالي والطبقات الحاكمة التابعة في المشرق العربي، حيث أضحت جامعة الدول العربية (على الرغم من أنه يجب أن يكون اسمها الجامعة العربية وليس الدول العربية كتفضيل الاتجاه الوحدوي على الاتجاه القطري، والعكس أضحى فعليا في الواقع السياسي) بلا قرار ووزن سياسي تجاه القضية الفلسطينية أو اتجاه الخلافات العربية العربية أو في حال التصدي لمشروع أجنبي، فلهذا يجب على كل القوى القومية الديمقراطية أن يكون لديها البعد الإستراتيجي في رؤيتها السياسية لواقع الشعب العربي، لتتفق على المشترك وتؤجل الخلافات إلى حين تشييد البناء القومي الكامل، وإلا فوضع الشعب العربي سيزداد سوءاً وتبعية وتخلف وسيكون محط أنظار متاجري المخدرات، مما سينعكس على فئة الشباب العربي في تحطم معنوياته ومشاعره القومية، ليصبح لا شيء أمام عجلة تقدم نهب الغرب الإمبريالي لبلاده واستباحتها له.

طبيعي من خلال مسار الحركة القومية التقليدية، الناصرية منها والبعثية، أن تفشل في تحقيق المشروع القومي ، وهذا يعود بالدرجة الأولى لتذبذب قيادات هذه الأحزاب عند وصولها للسلطة، فحاولت أن تبني قاعدة اجتماعية اقتصادية لها في البنية الاجتماعية، لحمايتها في حال إهتزاز البنية الاجتماعية بفعل حركات جماهيرية أو تقلبات إقليمية من الإنهيار الكامل، وهذا يمكن إرجاعه إلى خطأ الحركة القومية التقليدية في عدم تحديدها للقوى الاجتماعية التي لها مصلحة في المشروع القومي ، وهذا ما انعكس من خلال إنقلاب قيادات هذه الأحزاب على المشروع القومي، بسببب عدم تحديدها لبنيتها الاجتماعية التي ترتكز لها ، مما سمح لقوى البرجوازية الصغيرة من السيطرة على هذه الأحزاب واستلامهم السلطة، ورضوخهم نتيجة طبيعة البرجوازية الصغيرة للمصالح الدولية والإقليمية، مما حال بين هذه القوى والمشروع القومي الديمقراطي .فالأزمة التي كانت تعانيها حركة التحرر القومي سابقاً والآن هو أزمة قيادة طبقية بالدرجة الأولى، والحل في الوضوح الفكري والأساس الطبقي التي تستند لها هذه الأحزاب القومية ، وتحديد القوى الاجتماعية التي ترجع لها بنية هذه الاحزاب، المستفيدة من طرح المشروع القومي والعمل من أجل بلورته عملياً.

لذلك وبالإيجاز، يمكن إلى حد كبير الاستبشار بالحركة الداخلية للمجتمعات العربية، لتتحول الإرادة من تغيير قطري إلى تشييد الدولة القومية الواحدة، لأن حالها الآن كما حصل في أوروبا إلى حد ما مع إختلاف المكان والزمان، وذلك في طريقهم لتوحيد الأمة، لكن تظل المرحلة التطورية التي نعيشها، سيتمخض عنها نتيجة عالية المستوى قد تصل إذا توافرت القوى القومية البرجوازية بالدرجة الأولى نحو دولة قومية واحدة .

التعويل لا يمكن على تقارب الظروف بين المجتمعات العربية، بل أيضاً على العامل الذاتي الذي إذا ما إتفق على برنامج ورؤية سياسية وسقف مجمع عليه كافة القوى التي لها مصلحة في التأسيس للدولة القومية، سيؤدي لتغيير نوعي في موازين القوى بين القطريين المحافظين وحلفائهم وبين القوى العروبية التقدمية، مما سيؤدي إذا توافرت القيادة الطموحة والمحنكة لدولة قومية في المشرق العربي حتى لو كان الكيان الصهيوني موجوداً.

من العدد ٥٨ من جريدة المسار