التناقض الرئيسي في الواقع السوري المعاش

السياسة تعبر في مدلولاتها عن الجذور الأساسية لأي إتجاه فكري ، وفي الواقع تتحدد السياسة وفق هذا الإطار الفكري ، وهذا الإطار الفكري يعبر عن فئة اقتصادية ومصالحها الرئيسية ، ومن هنا يتضح أن في السياسة هناك مستويات من التناقضات بحكم اختلاف المصالح الطبقية بين تركيبات المجتمع ، وأحيانا تلعب الثقافة المحلية دورها في تحديد آفاق الصراع السياسي وإتجاهاته ، وتلعب دور المغذي لإتجاه سياسي معين وتعبئة القوى الاجتماعية في صالحه .

لننتقل من الإطار الفكري لتحديد السياسة إلى الواقع السوري المعاش ، فقد إتضح من خلال الأزمة السورية أن هناك مراهنة على الخارج الإقليمي والدولي في حسم صراع داخلي ، وهذا ما تأكده المعطيات والإستقطابات السياسية ، فممنوع من خلال السياسة الدولية تجاه سوريا أن تنتصر السلطة وأن تنتصر المعارضة المسلحة ، وهنا سنضع المعارضة الديمقراطية السلمية في خط ثالث آخر ، فقد جلبت الأزمة السورية نتيجة الإستعصاء التوازني الداخلي تدخلات واحتلالات خارجيين ، وجلبت التدخل الروسي في دعم السلطة السورية ، وجلبت المعارضة المسلحة الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وخبراء بريطانيين وفرنسيين وإضافة لذلك قد تلقت دعماً من قبل بعض الأطراف العربية ، ووفق ماو تسي تونغ فأن هناك مهام تطرح نفسها تضع بها بعض الصراعات الاستراتيجية في الثانويات في إطار تحالف مرحلي لإنجاز هدف محدد ، وهذا ما أشار إليه الشهيد مهدي عامل في نظريته حول تمرحل التاريخ ، لكن أين ما يسمى التناقض الرئيسي والثانوي في تحددات السياسة السورية ؟

لا شك أن الحزب الشيوعي بشكل عام في مرجعيته الماركسية ، قد نشأ دفاعاً عن مصالح الطبقة العاملة بالدرجة الأولى ، لكنه في بعض الأحيان وهذا ما يؤكده البيان الشيوعي في تحديده لسياسات الشيوعيين في مجتمعات لم تدخل في المرحلة الديمقراطية البرجوازية في الإنتاج والسياسة والثقافة ، يتم وضع بعض القضايا الإستراتيجية في إطار ثانوي في سبيل تحقيق هدف مرحلي معين له إنعكاس على مستقبل الصراع الإستراتيجي ، ومن هنا يتضح من خلال الإحتلالات الخارجية والتدخلات الدولية والإقليمية في رفع مستوى الصراع بين المعارضة المسلحة والسلطة السورية وتحديد آفاقه المستقبلية وإنعكاساته على الإتفاقيات الدولية والملفات الإقليمية ، أن سوريا قد عادت لمربع التحرر الوطني ، والتناقض الذي يفرض نفسه الآن هو إنجاز أوسع تحالف وطني لإنجاز الحل السياسي وفق القرارات الدولية وإنسحاب كافة الجيوش الأجنبية من سوريا وإنسحاب كافة القواعد العسكرية الأجنبية إلى بلدانها ، ولذلك فأن التناقض الإستراتيجي بين الشيوعيين السوريين وبين الطبقة البرجوازية وحلفائها يجب وضعه في إطار ثانوي في سبيل الحفاظ على البلاد من التقسيم والإحتلال الخارجي ، هذان الذان يشكلان مهمة وطنية من الدرجة الأولى التي يجب على كل المهام الأخرى أن تنصهر في بوتقته ، وهذا ما يؤدي بنا إلى الوصول لإستننتاج أن الصراع الحالي هو صراع وطني لإنجاز التحرر الوطني بانعكاسه على مستقبل الصراع الإستراتيجي بين الحزب الشيوعي والطبقة البرجوازية .

فالذي يجمع كافة القوى الوطنية هو إنجاز بند التحرر الوطني بسبب إنعكاسه على التناقضات الإستراتيجية الأخرى ، فيتضح من خلال هذا التحليل أن الدفاع عن مصالح الطبقة  العاملة مرحليا ليس تكتيكاً صحيحاً بسبب إحتمالية تعرض بلدنا للتقسيم وبسبب الإحتلالات الخارجية والتدخلات الدولية والإقليمية في مسار الأزمة السورية ، فإذا ، أن مهمة التحرر الوطني هي التناقض الرئيسي الذي يفرض ذاته ، وأن قضية التحرر الاجتماعي هو في وضعية التناقض الثانوي مرحلياً ويجب عدم وضعه في إطار المهمات الراهنة مرحلياً  ، وببساطة ، هل يمكننا أن نحرض العمال على التمرد على الرأسمال في بلد لم يدخل بعد في المرحلة الديمقراطية ،ويتعرض لإحتلال وتدخل خارجيين في شؤونه ، ومحكوم بشروط دولية لتحقيق سياسات داخلية وإقليمية لدفع البلد داخل صراعات إقليمية ودولية ، ليكون جندياً في مشاريع خارجية تدمر قوى مجتمعه الذاتية وتجلب الخراب والدمار له ولغيره .

فالآن ، نحن بأمس الحاجة في وضع التحالفات لجذب كافة القوى الوطنية على إنجاز التحرر الوطني الكامل لبلادنا بعيداً عن أي تجاذبات إقليمية ودولية، لإسترداد القرار الوطني المستقل  بعيدأً عن وضع بلدنا في إطار جنود إمبريالي السياسة الدولية ، فهذا هو الهدف الذي يجب أن نسعى إليه ونناضل من أجله مرحليا في سبيل الحفاظ على البلاد وتاريخها العريق لإمتلاك القرار الوطني المستقل ورده إلى قرار شعب هذا البلد الذي عاشوا فيه أجداده سنين طويلة في رحابه وتنفسوا من هواءه وشربوا من مائه وذاقوا فيه الويلات ولم يتركوه ويرحلون عنه.

من العدد ٥٨ من جريدة المسار