القوى الطبقية: الانتقال الديمقراطي والانتفاضات العربية

جيمي اليسون

إعداد وترجمة: رامز باكير 

تتدخل هذه المقالة في النقاش المفتوح و المستمر حول الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي أعقاب انتفاضات عام ٢٠١١ ، وخاصة بخصوص معالجة الفشل المُتصور لهذه الانتفاضات في تحقيق “الانتقال” إلى النماذج الديمقراطية الليبرالية. وذلك استناداً إلى أساليب علم الاجتماع التاريخي المقارن المستخدم في التحليلات الأساسية للتحول الديمقراطي والدكتاتورية في أوروبا وآسيا والامريكتين ، و تسعى هذه المقالة أيضاً إلى شرح مختلف مسارات دول الانتفاضة العربية من حيث عدة عوامل هيكلية، ألا وهي: توازن القوى الطبقية ؛  الاستقلال النسبي للدولة ؛ والسياق الجغرافي-السياسي. ، و تقدم المقالة مقارنة تجريبية لحالات مصر وتونس وسوريا كنقاط مرحلية من سلسلة متواصلة من النتائج بعد الانتفاضة العربية. وتُوجه هذه المقالة انتقادات لغياب التحليل الطبقي في نظرية التحول الديمقراطي السائدة ، وتفترض بدلاً من ذلك دوراً مهماً لحركات العمال في جلب العناصر الأساسية للديمقراطية الليبرالية. ومن الواضح أن المقارنة التجريبية تدعم هذه الفرضية. ففي تونس الدولة التي كانت فيها الحركة العمالية هي الأقوى و الأكثر استقلالية في بلدان ”الربيع“ ، تم التوصل فيها إلى تسوية ، بينما سوريا التي كانت فيها الحركة العمالية الأضعف والأقل استقلالية، انزلقت فيها البلاد إلى الثورة المضادة والحرب الأهلية. و بقية حالة مصر بين هذين القطبين.

إن التصورات السائدة عن الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي في أواخر عام ٢٠١٠ وأوائل عام ٢٠١١ يتلخص في أنها فشلت في إحداث التحول الذي طال انتظاره إلى الديمقراطية الليبرالية في المنطقة. لقد تحولت مسألة ما إذا كان “الربيع العربي” المزعوم ينقلب على مفاهيم الحكمة السائدة عن الشرق الأوسط والتي تقول “لماذا حقق الربيع العربي هذا القدر المتواضع من المكتسبات ؟“(١).  إن طرح المسألة بهذه الطريقة يعيد دراسة السياسة المقارنة في العالم العربي إلى الوضع الذي كان قائماً قبل الانتفاضات: نقاش يُتناوبُ فيه بين البحث عن علامات باهتة عن “التحول الديمقراطي” من جهة ، ومحاولة فهم بنية سلطوية تبدو مرنةٌ ومراوغة جداً من جهة أخرى.(٢)  ويشدد منظري التحول الديمقراطي في هذه المناقشة الطويلة الأمد على التفسيرات الثقافية السياسية لفشل التحول الديمقراطي ، مثل الطابع السلطاني و السلطوي لأنظمة ما قبل الانتفاضة ، ودور الدين في الحياة العامة (٣) أو انعدام الثقة  المتأصل في الميراث الاستبدادي في ثقافة المجتمع الذي أعاق عملية الانتقال عن طريق التفاوض. (٤)

في هذا المقال المطول يناقش جيمي اليسون، الدكتور والمحاضر والباحث في قسم السياسة والعلاقات العامة لجامعة ويستمنستر ، أنه على الرغم من امكانية إثبات أن الثورات العربية  قد فشلت  – وهو استنتاج ضعيف بالنظر إلى العمق التاريخي لهذه الأحداث – فقد تغافل هؤلاء المنظرون عن الانماط التكرارية عن حالات سابقة من “التحول الديمقراطي“. كما وثق «Rueschemeyer»  و  «Stephens and Stephens» (٥) ”مركزية الطبقة العاملة“  في تحقبق كسب الحد الأدنى من ضمانات الحقوق المدنية والحكومة التمثيلية المنتخبة بشكل عادل ، والتي يعتبرها منظرو التحول جوهر الديمقراطية. على حد تعبير «Andrea Teti» ، “نقطة النهاية التصنيفية لإطار عمل الديمقراطية – الديمقراطية الليبرالية“ (٦). إن التعامل مع الثورات العربية باعتبارها أحداثاً سرية يمكن بعدها التفاوض بنجاح على “الانتقال” إلى هذا التنوع من الديمقراطية بين النخب ، يجعل من البنية المؤسسية لهذه العملية وتوقيتها العامل الأكثر أهمية: مما يؤدي إلى استبعاد عامل الاقتصاد السياسي للقواعد الاجتماعية للجهات الفاعلة، وجعله عاملاً ثانوياً. كل هذه التحليلات نراها حاضرة في اعمال منظري التحول الديمقراطي (٧). ويؤدي هذا التركيز في التحليل إلى فرضيات الانقسام بين “الليبراليين العلمانيين” أو “الديمقراطيين العلمانيين” والإسلاميين (الذين تكون مؤهلاتهم الديمقراطية محل تساؤل دائم) على حساب أي انقسام آخر في المجتمعات المعنية ، إلى الحد الذي يختفي فيه مفهوم الطبقة والاقتصاد السياسي من التحليل حرفياً. ومن ثم فإن النهج الانتقالي يفقد الطبقة العاملة دورها ، والرابط القوي بين قوة الحركات العمالية وكسب الحد الأدنى من الحقوق الديمقراطية في المنطقة.

و بالاعتماد على إطار عمل (Rueschemeyer et al.’s Capitalist Development and Democracy) ، و بالاعتماد بالمقارنة بين مصر وسوريا وتونس على الاسس الثلاث “مجموعات القوى – توازن القوى الطبقية ، ودرجة استقلالية الدولة“، وتوضيح الظروف الجيوسياسية ، لهذا الارتباط(9.) تماشياً مع علم الاجتماع التاريخي لظواهر الدولة وتأثيرها على التحول الديمقراطي، يسعى جيمي اليسون من خلال هذه المقارنة  إلى إثبات أن جزءًا كبيرًا من التباين في الديناميات والنتائج للانتفاضات العربية، يكون في تناسب تام مع درجة حشد وتنظيم ووعي العمال ومشاركتهم في الثورات. 

 

تنقسم هذه المقالة إلى ثلاثة أجزاء. أولاٍ ، يقدم الكاتب من خلالها انتقاداً لغياب دور الطبقات الشعبية في نظرية التحول الديمقراطي. وثانياً ، أعرض الخطوط العريضة البديلة التي طرحها Rueschemeyer وآخرين على هذه الأسس للنهج ، وأسلوبهم في مقارنة مجموعات القوى الخاصة بكل من القوى الطبقية ، واستقلال الدولة ، والعلاقات الجيوسياسية. وفي الجزء الثالث والأخير ، أقدم سرداً مقارناً للثورات،  التونسية والمصرية والسورية ، مما يدل على أن الحالات التي تتمتع بأعلى درجة من التنظيم المستقل للطبقة العاملة قد حققت أكبر قدر من الإنجاز فيما يتعلق بالانتخابات النيابية والحريات الدستورية ، وإن كان ذلك مع خطر مشاركة  “الدولة العميقة” الأكثر وضوحاً في الحالة المصرية.

 

نظرية الانتقال الديمقراطي: « نقد»

إذا كانت الدول العربية واقعة في خضم مرحلة تحول انتقالي، فشلت أم لم تفشل، إلى اي نقطة نهاية هم ماضون في هذا التغيير عن الحالة السابقة؟ يلاحظ في دراسات وتحليلات «التحول الديمقراطي» أو الدمقرطة آنها تتشارك نقاط اساسية مشتركة ”نفس النواة؛ فيما بينها-هي اساساً لبرالية، كالانفتاح على الأسواق حرة ؛ ديمقراطية على الطراز اليورو أمريكي (١٠). والديمقراطية في هذا السياق تعني الاقتراع العام، والذي يتم من على أساسه انتخاب النخب الحاكمة ، يتم تقييد سلطة هذه النخب من الناحية النظرية من حيث ما يمكنها القيام به (حرية تكوين الجمعيات ؛ حرية التعبير ؛ وما إلى ذلك) والمجال المتاح ، ولكن دون تدخل ظاهري في علاقات القوة التنفيذية للاقتصاد على سبيل المثال.

إن هذه النتائج التي يتوصلون اليها منظري «الانتقال الديمقراطي» تكون نابعة من جدل النخب القديمة والحديثة بهدف انتاج مؤسسات جديدة على الطراز المذكور «الديمقراطية اليورو أمريكية»: مثالاً على ذلك الإضرابات التي تعكس استياء اقتصادي وسخط اجتماعي، والتي حتى ولو شكلت متغيراً حاسماً، تبقى ديقة وتحت سيطرة النخب الفاعلة، مما يشكل تهديداً لعملية التحول ذاتها، فعلى سبيل المثال، تنظر تحليلات التحول الديمقراطي في مصر تحول الطاقة الشعبية بعيداً عن حالة ”الانتفاضة الجماهيرية“، بل وكأنها حملات انتخابية. ثم يتحول المتغير المركزي بالنسبة لهؤلاء المنظرين إلى عملية تفاوض، بحيث يعمل المتشددون في النظام والمعارضة على تهميش بعضيهما. (١٣) وينطبق هذا تماماً على القضايا العربية. فيرى منظرو التحول الديمقراطي أن جذور فشل مصر في الظهور كديمقراطية ليبرالية تكمن في الميراث الاستبدادي لكل الأطراف الفاعلة: مثال ذلك ما إذا كان ذلك في ظل عدم كفاية اعتدال جماعة الإخوان المسلمين في مصر،  بالمقارنة مع حركة النهضة التونسية. (١٤)؛ وعدم شفافية المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحفاظ على صلاحياته فيما يتعلق بأجزاء كبيرة من الدولة والاقتصاد. (١٥) وفي سوريا، تُرجع ”ستيبان“ و ”لينز“ وحشية استجابة الدولة لما تصفه بكلماتها ”الطابع السلطاني“ للنواة الحاكمة، والتي تحكم من خلال زرع مخاوف ”عقلانية“ من العواقب الجذرية لسقوط النظام في سياق الانقسام الطائفي (١٦). غياب الثقة بين الاطراف الفاعلة، وغياب دور دولة المؤسسات ، ودور القضاء والعملية الانتخابية بشكلها الصحيح، كل هذه العوامل وغيرها تشرح فشل تحقيق الديمقراطية الليبرالية المحدودة، والتي من المفترض انها كانت المطالب الاساسية التي شكلت حركات الاحتجاج (١٧).

ولكن ماهي العواقب أو التداعيات التي تنطوي عليها تحليلات و سرديات منظري التحول الديمقراطي عن الانتفاضات العربية؟

يزعم ”كارو“ وآخرون أن أغلب الدول ”الانتقالية“ لم تكن في طريقها إلى الديمقراطية (١٨)، حيث كانت تحتل مركزاً متوسطاً من حيث «التعددية» أو الاستقلالية والهيمنة على القرار السياسي. (١٩) كانت مراحل الديمقراطية غائبة في اغلب الحالات، ففي الكثير من الاحيان تكون الانتخابات ممارسة ضحلة وميكانيكية، مجرد موروث ثقافي-اقتصادي-مؤسساتي. من بين معظم أوجه الضعف في الدولة، كانت لهذه الأعراف والموروثات أهمية بالغة وحيوية (٢٠).  وعلى الرغم من القدر العظيم من الحساسية اتجاه هشاشة العملية الانتقالية ”المفترضة“ التي يبديها منظرو التحول الديمقراطي، إلى انهم ما زالوا يميلون إلى تقليص واختزال الجهات الفاعلة إلى ثالوث (النظام القديم، الاسلاميين، و الليبراليين العلمانيين)، بافتراض ان الطرف الثالث «العلمانيين الليبراليين» يشار إليه ضمناً أنه ممثل الطبقة الوسطى بتوجهه الغربي ،وأنه يشكل نواة الانتفاضة. ويُرجعون تفسير ”الحصاد المتواضع للانتفاضات العربية“ إلى انعدام التسامح المتبادل أو لافتقار بناء موقف ديمقراطي ليبرالي لبناء الثقة بين الجهات الفاعلة الثلاثة في العملية الانتقالية(٢١). 

ما هو مطلوب هو توجيه رؤية نقدية على مستوى اعمق: عن فهم الاطراف الفاعلة الحقيقية وراء الانتفاضة وخصوصاً مع غياب الدور الاجتماعي التاريخي لهذه الاطراف. فضلاً عن ذلك، فإن الأدلة التجريبية تميل إلى معارضة اهمال الطبقات الشعبية في النموذج الوارد اعلاه. ومن الصعب تعقب أو قياس الحجج والتحليلات التي يسوقها منظرو التحول الديمقراطي  فيما يتعلق بالفئات الطبقية لهذه المجتمعات، بل و يكاد ان يكون نادر الذكر في نصوصهم. فمثلاً، يلاحظ ورود كلمة ”اسلاميين“ اثناعشر مرة في مقال ”ألفريد ستيبان“ حول تونس، وكلمة ”العلمانية“ سبع مرات، بينما ترد كلمة ”الاتحاد العمالي“ أو ”النقابة العمالية“ مرة واحدة، رغم الدول الرئيسي التي لعبته هذه الاتحادات والمنظمات في اسقاط نظام بن علي (٢٢).

وفي عدد خاص من جريدة «The Journal of Democracy» ٢٠١٣، بشأن النتائج المتواضعة التي حققتها الانتفاضات العربية، كان هناك غياب تام للعامل الطبقي، ولم يشار لهذا العمل بتاتاً، إلا في افتراض أن المحتجين كانوا يمثلون ”الطبقة المتوسطة العلمانية“. إن الانقسامات الاجتماعية الوحيدة التي تظهر باستمرار في تحليلات متبنوا نظريات التحول الديمقراطي للانتفاضات العربية تتعلق بالهوية الدينية، سواء كانت تتعلق بالانتمائات الطائفية، أو بما يتعلق بدرجة مراعات المصاد التشريعية الدينية في النظام السياسي، أو الدور الذي يخصص لها. وهذا المنظور لاديناميكيات أو العوامل المحركة الفعلية للانتفاضة فحسب، بل و يتجاهل وسائل و أدوات في علم الاجتماع التاريخي كان من الممكن استخدامها على نحوٍ مثمر لفهمٍ أوسع لنتائج الانتفاضات العربية. 

علم الاجتماع التاريخي لـ«التحول الديمقراطي» ودور الحركة العمالية:

من الممكن علاج العيوب الموجودة في نهج وتحليلات منظرو التحول الديمقراطي من خلال الاستعانة بمنظور آو بتقليد مختلف في دراسة الديمقراطية. مثال أعمال «جويلير مو أوديل» (٢٣)، أو حتى بالعودة إلى دراسة «بارينغتون مور» (١٩٦٦)، الذي قدم دراسة رائدة عن الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية. إن نهج الاقتصاد السياسي في التحليل والتعامل مع ظهور أنماط الانظمة الحاكمة يحتاج إلى نظرة أطول و أوسع، نظرةً تربط بين مخاوف التحول الديمقراطي، وعلم الاجتماع التاريخي و الدولة. ولا بد أيضاً من الاشارة باهمية إلى مجموعة أعمال أُخرى، مثال أعمال: «جيرف فورغينغ» و «روشمايير» عن تطور الرأسمالية والديمقراطية (١٩٩٢)، حيث تؤكد هذه الأعمال على دور الحركات العمالية و اليسار السياسي في المكاسب الاساسية للحقوق الديمقراطية التي تم تحقيقها (٢٤). وفي حين أن «روشمايير» و آخرون يتبنون بشكلٍ خاص نفس تعاريف الديمقراطية ”الإجرائية“ والليبرالية ”الرسمية“ التي يستخدمها منظرو التحول الديمقراطي (٢٥)، إلى أن تحليلاتهم تأتي سعياً لفم استمرارية و نتائج نضام الحكم التععدي ”Poloyarchy“ (٢٦). وهم ينتقدون اساليب الإنتقال مع التركيز على راهنية العملية بدلاً من التركيز التطورات الطويلة الأمد لعلاقات القوى الفاعلة الكامنة ورائها (٢٧). وبدلاً من ذلك هم يقدمون الحجج والتحليلات بأن الديمقراطية نتيجة لتوازن القوى والتحالفات الطبقية. ويعتمدون بشكلٍ خاص على ثلاث مجموعات والتي تشكل اهمية مركزية في التحليل: التوازن بين القوى الطبقية والتحالفات الطبقية؛ الاستقلال النسبي للدولة و المجتمع المدني؛ علاقات القوى العابرة للحدود الوطنية (٢٨).  ولقد وجدت الابحاث المقارنة ”cross-case comparision“ بين التنمية الرأسمالية والديمقراطية النتائج التالية: 

كانت الطبقة العاملة الحضرية القوة الاكثر تماسكاً و دعماً في الدفع نحو الديمقراطية، باستثناء الحالات التي تمكن فيها زعيم استبدادي يتمتع بشخصية كاريزمية من دمج هذه الطبقة. وقد تطابق هذا الاستنتاج مع توقعات «روشمايير»، نظراً لان أفراد الطبقة العاملة تسعى إلى دمج الطبقات الدنيا التي نتمون الها اساساً من خلال العملية الديمقراطية (٢٩). لذلك فان استقلال تنظيمات الطبقة العاملة كان عاملاً رئيسياً في نجاح ظهور الاصلاحات الديمقراطية. طبقة الملّاك العليا هي الطبقة الاكثر تماسكاً في معادا{ الديمقراطية، خوفاً من خسارة مستودعات العمالة الرخيصة. 

وكان التحالف بين الملّاك والبورجوازيين الذي وجد في الديمقراطية تهديداً لمصالحهم أكبر القوى المناهضة للديمقراطية (٣٠). ولقد لعبت الطبقة المتوسطة ”بمعنى المهنيين العاملين بأجر، وأصحاب المتاجر وغيرهم“ دوراً غامضاً. حيث كانوا داعمين لضمهم ولكن مترددين في الوقت ذاته من منح أو توسيع مجال الحريات والحقوق السياسية لهؤلاء الادنى طبقةً منهم. حيث كانو بمثابة العلف للتحالفات والاحزاب، سواء من الطبقة العاملة أو الطبقة العليا (٣١). وكان الفلاحون المعتالون، أو صغار الفلاحين يشكلون عامل من عوامل التعبئة للديمقراطية، بينما كان العمال الزراعيون يميلون إلى التحالف مع العمال الحضريين (٣٢). وهناك مجموعتين من العوامل الأخرى لهما صلة بتحليل حركة القوي والتحالفات الطبقية، وهما عاملين مترابطين « الاستقلال النسبي للدولة و المجتمع المدني؛ علاقات القوى العابرة للحدود الوطنية». ويجد «روشمايير» آخرون بان الاعتماد الجغرافي السياسي و الاقتصادي له أثر سلبي على تصور الديمقراطية،  ويرجع ذلك جزئياً إلى التأثير المباشر الذي يلعبه التدخل الأجنبي، والمساعدة على تعزيز القوة القمعية للجيش وما إلى ذلك، وبسبب أنماط التنمية الاقتصادية الناتجة عن ذلك والتي تعوق نشوء وتنظيم حركات عملية قوية وفاعلة (٣٣). وفيما يتعلق باستقلال جهاز الدولة، كلما زادت هذه الاستقلالية كلما شكلت عامل ضغط على المجتمع المدني، وخاصةً الحركات العمالية، والتي يعد وجودها ومدى قدراتها عاملاً ضرورياً لتحقيق مكاسب ديمقراطية. وتبقى الدولة التي لا تتمتع بالقدر الكافي من الاستقلالية بالحكم تحت سيطرة عناصر معادية للديمقراطية إلى حد كبير . خصوصاً من ملاك الأراضي والبورجوازية العليا (٣٤). وجد «رويشماير» عبر مقارنتهم التاريخية أن الترابط بين التنمية الرأسمالية والديمقراطية لا يرجع إلى الرأسمالية في حد ذاتها – ناهيك عن إرث البرجوازية البطولية – بل يرجع إلى النضال داخل الرأسمالية: حيث تنتج التنمية الرأسمالية طبقة عاملة متمكنة ، حيث تصبح هذه القوة القوة الأكثر تأييداً للديمقراطية ، بينما تُضعف هذه التنمية القوى المناهضة للديمقراطية كطبقة كبار ملاك الأراضي (٣٥). وبخصوص العالم العربي ، يجد  «رويشماير» وآخرون أن خصائص التطور المتأخر أو غير المتكافئ والمكتمل هي عوامل لها تأثير جوهري، فالطبقات العاملة في جنوب الكوكب ”كقاعدة عامة“ تكون أصغر حجماً وأقل تنظيماً وأقل تمييزاً عن تلك الموجودة في النواة الرأسمالية (٣٦). حيث أن هذا التحليل يعد مناسب بشكل خاص في تناول الدول العربية و التي لا تشبه اقتصاداتها اقتصادات الاقتصادات الأوروبية الكلاسيكية. وكما يبين «رويشماير» و«ستيفينز» والتحليل الوارد أدناه يؤيده ، بإن الطبيعة التفاضلية وغير المتكافئة للتنمية الرأسمالية هي العامل الاساسي الذي يترتب عليه النتائج المختلفة للعمليات الانتقالية. ولا تزال هذه التنمية رأسمالية ، وإن كانت متفاوتة ومتضافرة. و تفتقر معظم الدول العربية إلى الطبقات العاملة الكبيرة والمتماسكة كتلك التي أنتجت حركات عمالية أوروبية وأحزاب ديمقراطية اجتماعية ولكنها تعتمد جميعها على مزيج من: استخراج الموارد ( لخدمة اقتصاد الرأسمالية العالمي) ؛ بيع السلع أو الخدمات التي ينتجها الموظفون المجانيين (سواء من قبل الدولة أو من قبل الشركات الخاصة) ؛  أو  المدفوعات والدعم من الدول الراعية من الدول الرأسمالية. وهذه الاختلافات في طبيعة التطور الرأسمالي وعواقبها على تكوين الطبقات هي العوامل الاهم التي يحاول «رويشماير» الاشارة اليها.

[ في البلدان النامية المتأخرة ، يكون الحجم النسبي للطبقة العاملة الحضرية  أصغر بسبب التفاوت في التنمية ، وبسبب ما يترتب وفق ذلك  من نمو أقوى في القطاع الثالث… [معنى] أن تصبح التحالفات الطبقية عبر الحدود ذات أهمية حاسمة في تقدم العملية الديمقراطية (٣٧). ]

ومع ذلك ، و عند التركيز على التحليل الطبقي، ألا يفتقر نهج «رويشماير» إلي ديناميات أُخرى خاصة بالساحة السياسية ؟ وفي الدول العربية على وجه الخصوص، ألا تبدوا الهويات والأيديولوجيات المتقاطعة ”العابرة للطبقات“  أكبر أهميةً : ألا يهمل التحليل الطبقي هذه الهويات والأيديولوجيات ؟ النقطة الأولى التي تجدر الإشارة إليها هي أن كل تحليلات منظرو التحول الديمقراطي تقريباً لديها تحليل طبقي مشوه وغير مكتمل للانتفاضات العربية:  كتحديد الانتفاضات واختزالها بكيان يسمى “الطبقة الوسطى الغربية العلمانية” ، أو ما يسمونه ”الشباب العربي“ ، والانحياز في التحليلات الى رؤية الصراع من خلال التيارات الاديلوجية دون التحليلات الطبقية ”التيارات الاسلامية“. 

وثانيا ، يتعين على المرء أن يميز بين مستويات التحليل: بين الساحة السياسية ، والتفاعلات والأحداث المشروطة بها ، وبين العلاقات الاجتماعية التي تستند إليها تلك التفاعلات. إن عدم التجانس الطائفي في سوريا ، والذي ربما يشكل التحدي الأصعب للتحليل الطبقي ، لا يشكل سمة طبيعية وراثية: بل هو من ضمن مجموعة عوامل مبنية اجتماعياً ”بناء اجتماعي“  يتم إنتاجها وإعادة استنساخها من خلال الوصول إلى الدولة والاقتصاد السياسي. وهذا لا يعني أن تحديد الهوية الطائفية ليس عاملاً هاماً في السياسة السورية ، بل إن هناك عوامل وابعاد اقتصادية سياسية أساسية لهذا العامل.

 قد يكون من المفيد التمييز دائماً بين: ١-الهيكل الطبقي القائم على عمليات الانتاج والذي يكون مضبوطاً ومعدلاً بحسب انماط التنقل والتفاعل، ٢-افكار ومواقف أفراد الطبقة، ٣ـ تحديد الأهداف الجماعية و مدى السعي إلى تحقيقها من خلال العمل المنظم بالنيابة عن الطبقة. 

كيف إذا يساعد هذا النهج في الإجابة سؤال لماذا كان نتاج حصاد الربيع العربي بهذا التواضع ؟ 

 

حيث لا يمكن الاجابة على هذا السؤال إلى من خلال الاخذ بعين الاعتبار العوامل الثلاثة المترابطة والمتداخلة بين توازن القوى الطبقية والتحالفات الطبقية ؛ درجة وجود دولة الدولة ، أو النظام في أغلب الأحيان ، والاستقلال الذاتي في إطار وجود اقتصاد سياسي أوسع نطاقاً ”تراكم رأس المال“ ، وتداخل المنافسات والمصالح الجغرافية السياسية الإقليمية والعالمية.

«تم ارسال المقال الاصلي من قبل الباحث الأُستاذ جيمي اليسون في قسم السياسة والعلاقات الدولية في جامعة ويستمينستر في لندن»، المقال كاملاً تم نشره في ٢٥ آذار ٢٠١٥ من قبل مركز «Taylor and Francis» المتخصص بنشر أبحاث ومقالات أكاديمية 

المراجع:

  1. Brownlee et al., “Why the Modest Harvest?” 29.
  2. See Schlumberger, “Opening Old Bottles in Search of New Wine”; Salame, Democ-

racy Without Democrats; Valbjorn, “Upgrading Post-democratization Studies”; Cavatorta, “The Convergence of Governance”; Cavatorta and Pace, “The Arab Uprisings in Theoretical Perspective.”

  1. Stepan and Linz, “Democratization Theory,” 15, 20 – 1.
  2. O’Donnell and Schmitter, Transitions from Authoritarian Rule, 16.
  3. Rueschemeyer et al., Capitalist Development and Democracy.
  4. Teti, “Beyond Lies the Wub,” 15.
  5. Such as O’Donnell, Bureaucratic Authoritarianism: Argentina.
  6. Brownlee et al., “Why the Modest Harvest?” 29 – 31.
  7. Rueschemeyer et al., Capitalist Development and Democracy, 5 – 7.
  8. Linz and Stepan, Problems of Democratic Transition, 2 – 7; Przeworski, Democracy and the Market, 9–12.
  9. Przeworski, Democracy and the Market, 167 – 70.
  10. Brown, “Egypt’s Failed Transition,” 52.
  11. O’Donnell and Schmitter, Transitions from Authoritarian Rule, 16 – 7.
  12. Landolt and Kubicek, “Opportunities and Constraints,” 8.
  13. Brown, “Egypt’s Failed Transition,” 51.
  14. Stepan and Linz, “Democratization Theory and the Arab Spring,” 28.
  15. Ibid., 21.
  16. Carrothers, “The End of the Transition Paradigm,” 5 – 7.
  17. Ibid., 10 – 12.
  18. Ibid., 16.
  19. See especially Brown, “Egypt’s Failed Transition,” 45 – 56; Landolt and Kubicek,

“Opportunities

and Constraints,” 12 – 6; Stepan and Linz, “Democratization

Theory,” 23–7.

  1. Stepan, “Tunisia’s Transition and the Twin Tolerations,” passim.
  2. O’Donnell, Bureaucratic Authoritarianism: Argentina.
  3. See also Therborn, “The Rule of Capital.”
  4. Rueschemeyer et al., Capitalist Development and Democracy, 10.
  5. Ibid.
  6. Ibid., 7 – 8.
  7. Ibid., 6–8, 75–6.
  8. Ibid., 58 – 9.
  9. Ibid.
  10. Ibid., 8.
  11. Ibid.
  12. Ibid., 72.
  13. Ibid., 65 – 6.

Democratization 311

  1. Ibid., 7.
  2. Ibid., 76 – 7.
  3. Ibid., 59.
  4. Ibid., 53.

من العدد ٥٨ من جريدة المسار