للشرق الأوسط أهمية تاريخية واستراتيجية بالنسبة لروسيا، حيث كانت تاريخيا الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي قوة حاضرة ونشطة في المنطقة ولهما صراعات مستمرة مع الامبراطوريات القائمة ، كالامبراطورية العثمانية والفارسية والبريطانية والفرنسية، وخلال الحرب الباردة كان الاتحاد السوفيتي فيها ندا قويا للولايات المتحدة الأمريكية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من أواخر القرن الماضي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مهيمنة على المنطقة وقوة ضاربة عالميا وفقدت حينها روسيا قدرتها على أخذ أي دور فيها بسبب ضعفها رغم وقوع أزمات كبرى عصفت بالمنطقة، كحرب الخليج الأولى والثانية وانفجارات ما سمي بالربيع العربي أو عند قصف ليبيا وسقوط نظام القذافي.
استطاع الرئيس الروسي (بوتين) بعد انهيار العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بسبب الأزمة الأوكرانية من عام ٢٠١٤ أن يرسم مسارا جديدا في السياسة الخارجية الروسية ، حيث انتهز فرصة تدخله في الأزمة السورية عام ٢٠١٥ ليجعل منه بداية للتمدد الروسي في الشرق الاوسط ،هذا وقد تزامن التدخل الروسي في سوريا مع انزياح الولايات المتحدة الأمريكية من المنطقة، لذلك كان في حسابات القادة الروس أن هذا التدخل لن يؤدي إلى أي تصادم مع الولايات المتحدة الأمريكية أن لن يمس المصالح الرئيسية الأمريكية فيها وكون اهتمام هذه الأخيرة الرئيسي أصبح نحو مواجهة النمو الاقتصادي الصيني المتسارع والذي يمكن أن يشكل لها تحديا في زعامة العالم أن لم يتم اعاقته ، ومن جهة أخرى كانت ترى القيادة الروسية أن التدخل في سورية لن يكون مكلفا لا من حيث الخسائر لجنودها ، باعتبار ان من هم موجودون على الأرض هم من المرتزقة وليس جنود روس ، إضافة إلى أنهم وجدوا أن نجاح التدخل في سورية يمكن توظيفه لمواجهة أزماتهم الداخلية وأن يساعدهم على الاستمرار في السلطة ، هذا اضافة أنه من الممكن أن يجعلوا منه نجاحا استراتيجياً طموحا في التمدد في الشرق الأوسط ، وكان لهم ذلك، فبفضله تمكنت موسكو أن تدخل على أزمات المنطقة وخارجها وأن تكون طرفا في أدارة أزماتها كما هو حاصل في أفغانستان وايران والقوقاز وليبيا.
فبعد أن استطاعت حصلت على قواعد عسكرية في سورية وتوقيع الكثير من العقود الاقتصادية فيها نجدها دخلت في شراكة مع إيران وان تنسيق مع إسرائيل في أدارة الأزمة السورية أن تعالج العديد من التحديات الاقليمية ذات صلة بالتنازع أو التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية ، كما استطاعت من خلال علاقات الشراكة مع ايران في الأزمة السورية عبر جولات أستانا أو من خلال أزمة ايران حول المفاعل النووي والعقوبات المطبقة عليها، كما استطاعت أن تتمدد في دول الخليج العربي الخاضعة للهيمنة الأمريكية وأن تبرم العديد من الاتفاقات الاقتصادية وعقود الأسلحة معها وأن تصبح محاورا في أغلب قضاياها ، كما وأصبحت أيضاً لاعباً فاعلاً في الصراع اليمني ، وأن تدخل على الصراع الدائر في ليبيا عبر مساعدتها لقوات حفتر بالأسلحة والطائرات المتطورة وهي تحاول من وراء هذا أن تمتلك أوراق في أي حل سياسي فيها ليكون لها تأثير طويل الأجل على أنتاج البترول والغاز الليبي بالتالي أن يمتد هذا التأثير على أفريقيا وأوروبا.
كما استطاعت الدبلوماسية الروسية أن تبني علاقات قوية مع مصر، فوقعت معها عدة صفقات لبيع أسلحة متطورة وهي تسعى ليكون لها قاعدة عسكرية فيها وأن تبرم معها عقود لبناء أربعة مفاعلات نووية فيها ، كما تعتبر روسيا أكبر مورد للقمح لمصر وأن تنسق معها في مواجهة انفجارات التغير الديمقراطي في دول الأزمات في الشرق الأوسط ، واستطاعت أيضا أن ترسم مساراً دولياً في الأزمة السوري عبر مسار أستانا لتتجاوز من خلاله بيان جنيف واحد لعام ٢٠١٢ والقرارات الدولية ذات الصلة ، كما استطاعت من عبر إشراك تركيا في مسار أستانا الخاص بسوريا وابرام معها عقود بيع بصواريخ متطورة أن تعمق الخلاف الدائر بين تركيا من جهة والبيت الأبيض وحلف الناتو من جهة أخرى .
لم يصل هذا التمدد الروسي في الشرق الاوسط أو في أفريقيا إلى درجة التحدي الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية على المستوى العالمي الا انه جعل من موسكو قوة إقليمية الى جانب كل من ايران وتركيا وبالتالي لم تصبح الولايات المتحدة الامريكية هي القوة الوحيدة المهيمنة على المنطقة ، حيث أنه مع الانسحاب الأمريكي منها، أصبح الدور الرئيسي الأمريكي فيها منحصراً ودون منازع في المصالح الاستراتيجية الأساسية ، كمنع أنتشار الأسلحة النووية فيها أو مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي وعدم المساس بأمن إسرائيل وتأمين الطاقة من الغاز والبترول.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن مثل هذا التمدد الروسي في المنطقة قد يشكل لها إرباك في مصالحها الأساسية أو بعض التعقيد مع وحلفاؤها في المنطقة ، الا أنه لا يمكن أن يتحول في المستقبل المنظور الى عامل تهديد لمصالحها أو إلى تحدي استراتيجي لها أو لحليفتها أسرائيل ، كما تنظر ادارة البيت الأبيض على أن هذا القدر من التموضع الروسي في المنطقة ليس أمرا لا يطاق بالوقت الحالي لأن القدرات الروسية محدود ه لتحل محل الهيمنة الأمريكية كقوة خارجية في منطقة الشرق الأوسط، كما أنها عاجزة بسياستها الانتهازية مع دول المنطقة الضعيفة من أن تنشئ فيها نظام إقليمي مرتبط بها يتصف بالديمومة ويؤمن مصالحها المتعارضة مع المصالح الأمريكية ، لذلك هي تحاول رفع مكانة روسيا كدولة كبرى في معالجة بعض أزمات المنطقة أو تعطيها دورا خاصا أحيانا أو أن تتشاور معها لاحتواء التباين أو التحديات بينهما في حل أزمات المنطقة ، كما حدث في الأزمة السورية ، أو في منحها دورا في ابعاد ايران عن المنطقة، وهي تسعى من جهة أخرى وفق تلك الدبلوماسية إلى احتواء روسيا أو عزله أي تقارب مع الصين أو دق أسفين بينهما لأن أي تقارب بين الروس والصين سيؤثر على سياسة البيت الأبيض في المنافسة مع الصين عالمياً وبالتالي نرى أن صناع القرار الأمريكي يراقبون باستمرار إستراتيجية الروس بالشرق الأوسط حتى يمنعوا أن يصبح هذا التمدد في المنطقة طويل الأجل ، لأن أي تموضع من هذا النوع سيمنح روسيا قوة إضافية قد يساعدها على التحالف مع الصين .
يدرك بوتن ومن معه من قادة الكرملين ، أن رسيا هي حالياً أقل ثراءً وأقل قوة و ديناميكية من الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي نجدهم يتفادوا أن يصطدموا مع البيت الأبيض في اية قضية تزعزع أو تؤثر على استراتيجية تلك الأخيرة ومصالحها الدولية وانما هي تسعى من أجل تعزيز قدراتها الى توجيه سياستها الخارجية مع الدول الفاشل أو الدول التي تعيش أزمات في الشرق الأوسط و التي قل اهتمام البيت الأبيض فيها أو انسحبت منها ، لذلك يثور تساؤل حول مستقبل الدور الروسي في المنطقة ومصير تحالفاتها خلال السنوات القادمة وهل هي تحالفات صلبة وثباته، وهل يمكن أن تستعيد دورها كقوة عظمى بعد سنوات من التهميش من انهيار الاتحاد السوفييتي، وهل يمكن لها أن تحقق تحالفاً مع الصين رغم الخلافات والتباينات بينهما ، لإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب يخدم مصالحهم المشتركة ويواجهة القوة الأمريكية وحلفاؤها ، أم أنها ستبقى حريصة على استخدام دبلوماسيتها النفعية لأحل تضييق الخلافات مع البيت الأبيض لتعزيز مكاسبها التي حققتها في منطقة الشرق الأوسط.